في أخبار طائفة من الناس تؤمن بأن تسعة أعشار الدين في "التقية"، التي ليست هي بمفهومها القرآني، وإنما بحالتها التوسعية البغيضة التي تستحل الكذب في كل شيء بذريعة التعبد بهذه الأكاذيب، أنت لا تملك أن تصدق أي رواية مما يصدر عنهم.
وإذا كانت ميليشيا "حزب الله" من هذه الطائفة، وأُثِر عنها الكثير من الأكاذيب والأساطير أثناء قيامها بدورها المنوط بها بحماية حدود الكيان الصهيوني المزعومة، ثم تواتر أكاذيبها في تسويغ مجازرها ومحارقها بأبناء سوريا المستضعفين؛ فإن بياناتها وتصريحاتها تظل بحاجة إلى أدلة دامغة ووثائق موثوقة ثم شواهد تالية يستحيل معها الكذب.
وما أعلنته قيادة "حزب الله" عن مقتل قياديها مصطفى بدر الدين من هذه الشاكلة؛ فرواياته يعتريها الكذب من أول إعلان ادعت فيه مصادر الميليشيا أن هذا السفاح قد قتل بغارة "إسرائيلية"، ثم تراجعت من بعد أن نفى الكيان الصهيوني بشكل خجول بدا أنه لا يريد إحراج حليفه اللبناني بتفنيد مزاعمه بشكل رسمي وواضح، واضطرت معه قيادة الميليشيا إلى التحول إلى رواية عصية على التصديق؛ إذ إن الميليشيا العتيدة في الإجرام لا يمكنها أن تخلط ما بين قصف جوي وآخر مدفعي، على نحو يدركه أي مقاتل خبير بشؤون الحروب، ثم صمتت قيادة الميليشيا بعد تأكيدات فصائل المقاومة أنها لم تقصف مقر الميليشيا الميداني بالقرب من مطار دمشق، ودحض هذه الرواية تماماً على لسان خبراء عسكريين يدركون أن المقاومة لا تملك مدفعية يمكنها الوصول إلى هذه الموقع من مرابضها.
فحتى الآن لا يمكننا إلا أن نستصحب الأصل، وهو أن مصطفى حي ما لم تقدم قيادة الميليشيا ما يؤكد مقتله.. هذه العبارة لـ"حسن الحظ" ليست استنتاجاً شخصياً، وإنما نُقلت عن مصادر حقوقية قريبة من محكمة لاهاي التي يفترض أن يحاكم أمامها مصطفى بتهمة قتل الرئيس اللبناني رفيق الحريري.
كل ما تقدم ليس مهماً بدرجة كبيرة، كما أنه ما يتلوه من احتمالات عن مقتل الرجل أكانت تصفية من الميليشيا التي كان يتمتع فيها بدور قيادي كبير، أم من النظام السوري لطمس أي أدلة يمكن للجنائية الدولية تتبعها، أم حتى ما تردد عن أن بدر الدين قد قتل في خان طومان وأخفى الحزب مقتله لإسباغ بطولة عليه والحد من تأثير الرهاب الذي تفشى لدى شبيحة الحزب جراء انتكاساتها المتوالية ونجاح فصائل المقاومة السورية غير المدربة وغير المدعومة من قوى دولية وإقليمية بإلحاق الهزائم تترا بهذه الميليشيا التي استباحت دماء السوريين وأعراضهم وحريتهم واستقلالهم.. هذا كذلك يمكن تفهمه، والاهتمام به بدرجة ما، بيد أن اللافت باضطراد هو ذاك التواطؤ الدولي الذي يصاحب مثل هذه الادعاءات، وانسياق الإعلام الغربي وراء رواية يمكن بكل بساطة أن تكون مكذوبة تماماً.
اللواء السوري رستم غزالة، القيادي العسكري الأشهر بميليشيا "حزب الله" عماد مغنية زوج شقيقة بدر الدين، والقيادي مصطفى بدر الدين، قيل إنهم قتلوا خلال الأعوام الماضية، وهم لـ"المصادفة" جميعهم مطلوبون للمحكمة الجنائية الدولية، كما أن الشهود أمثال زهير صديق، وهسام هسام، لا يعرف على وجه الدقة أين هم الآن.. لقد طمرت الأدلة تماماً.
ليس هذا هو المهم – كما تقدم – فمن الطبيعي أن يطمس القتلة الأدلة على اغتيال رفيق الحريري، كما أنه ليس مهماً إن كانت قيادة الميليشيا تكذب أم تصدق الآخرين القول، المهم هو تواطؤ الجنائية الدولية وعدم اكتراثها بالتثبت من مثل هذه الادّعاءات؛ فلم يرشح أي موقف متشدد من المحكمة طوال هذه الفترة حيال إخفاء واختفاء القتلة، ولا تجول الشهود في أوروبا والعالم العربي دون اهتمام يذكر؛ فالعبرة لا تكمن في عدم اعتبار المحكمة بمقتل بدر الدين والآخرين قبله، وإنما العبرة في اضطلاعها بدورها المنوط به منذ البداية لتصعيد القضية واستصدار قرار من مجلس الأمن أو تشجيع دول غربية على ممارسة ضغط لجلب الجناة للمحكمة.
هذا لم يحدث، ولن يكون، برغم بدهية يعرفها الجميع، أن هذا الرجل وغيره يمكن تغيير وثائقهم الثبوتية وتغيير ملامحهم واحتضانهم في دولة كإيران دون أي قلق من ملاحقة دولية كتلك التي نفذت ضد "قيادات الإرهاب" غير الشيعي في العالم.
مرة أخرى، ليس ثمة ترجيح يخص بقاء بدر الدين على قيد الحياة أو مقتله، لكن مثل هذه الشكوك التي تساور البعض جزماً، يفترض أن تزاحم فرضيتها قرينتها الموحية بمقتله، على الأقل من باب استعراض الاحتمالات كافة، وعدم رفض أي فرضية لاسيما إذا لم يكن غيره مستنداً إلى أدلة دامغة.
بعيداً عن كل هذا؛ فإنه على افتراض مقتله على يد المقاومة؛ فلقد حققت لعائلة الحريري ما عجزت عنه محكمة جنائية دولية ظلت تماطل لسنوات طويلة في محكمة مزمنة، وإن كان قد اختفى لحمايته فنحن إزاء جريمة ارتكبتها الجنائية الدولية بتواطئها المستمر.
ما يمكن أن نخلص إليه في النهاية، هو أن الطرف الأصيل المتهم في هذه القضية لجة طمس الأدلة هو المحكمة الجنائية الدولية التي باتت تستخدم القانون لتهريب الجناة ومنحهم "قبلة الحياة" أو قتلهم لطمر أدلة اتهام "الكبار".
للأسف، فإن ما نخلص إليه لم يعد مهماً هو الآخر! بعد أن أضحت عينا الجنائية الدولية عمياوين عن رؤية أدلة لا يتسرب إليها أي شك حول تورط إيران وسوريا وروسيا في قتل مئات الآلاف من السوريين بدم بارد.. نحكي عن محاكمة الحريري ونحن ندرك أن العدالة لا تعرفها محاكم "العدالة" الدولية ألبتة!