قيام الدول وسقوطها سنة كونية متكررة، ومن الحكمة أن يعرف الناس العوامل التي اجتمعت فقامت على إثرها دولة ما، ومن الضرورة أن يعرف الحكام ما الذي افتقدته دولة كانت قائمة، حتى تضعضع بنيانها، وانتهت أيامها، وصارت تاريخاً يحكى، وفترة تدرس.
وللدكتور عبد الحليم عويس كتاب مختصر عن سقوط ثلاثين دولة في التاريخ الإسلامي، وله كتاب خاص عن دولة بني أميه، وللشيخ د. سلمان العودة بحث قديم مثير في حينه، عن أسباب سقوط الدول، كما تحدث الشيخ د. ناصر العمر عن دول الأندلس وأسباب زوالها، وللقانوني الأمريكي اليهودي د. نوح فيلدمان كتاب عميق عن قيام الدولة الإسلامية وسقوطها، وقد سبق لي استعراضه، والمكتبة لا تخلو من كتب أخرى حول هذا الأمر الذي يستحق البحث.
وبين يدي كتاب منها، لكن الباحث هذه المرة، والدولة الدارسة، لهما سمات مميزة، فالباحثة تدرس دولة أهلها، وسبب قيام ملك أجدادها ثم زواله، وكأنها أميرة ترثي إمارة عائلتها، ومن الموافقات أنها ابنت طلال، وقد وقفت على الأطلال، وقوف من يستلهم العبر، ويقدمها لمن شاء الإفادة منها، حتى من خصومها وخصوم أهلها. وأما الدولة فهي إمارة آل رشيد، التي لم تحظ بكتابات كثيرة مستقلة، وفيما مضى، كتبت عن رسالة علمية، نشرها الباحث محمد عبد الله الزعارير، عن تاريخ إمارة آل رشيد.
عنوان كتاب الحفيدة: السياسة في واحة عربية: إمارة آل الرشيد، تأليف: مضاوي الرشيد، ترجمة عبد الإله النعيمي، صدرت الطبعة الثانية منه عام(2003م) عن دار الساقي، ويقع في (323) صفحة، ويتكون من شكر وتقدير فمدخل، ثم أحد عشر فصلاً، ويتبعها الهوامش، والمراجع، وفهرس الأعلام، ومن موافقات أعلامه تساوي عدد مرات ذكر الملك عبد العزيز، والأمير عبد الله بن رشيد، وهما أكثر علمين تكرر اسمهما في الكتاب، ويلاحظ على الترجمة، أخطاء لا تقبل في أسماء الأعلام والبلدان، كما في باقي كتب المؤلفة، التي لا تخلو بعض معلوماتها من غرابة؛ وكأنها ليست ابنة الصحراء!
والمؤلفة حسب الويكيبيديا، هي د.مضاوي بنت طلال بن محمد الرشيد، أستاذة علم الأنثروبولوجيا الديني، في قسم اللاهوت والدراسات الدينية بكلية الملوك بجامعة لندن، وحفيدة آخر أمير من أسرة الرشيد الحاكمة في حائل، وهذا الكتاب هو رسالتها للدكتوراه، من جامعة كامبردج، في الأنثروبولوجيا الاجتماعية عام (1988م)، ولها عدة كتب في مناقشة الشأن السعودي.
وفي مستهل الكتاب شكرت المؤلفة كل من عاونها في بحثها الذي أحيى ذكريات مؤلمة، خاصة لمن أعادوا لها سرد الأحداث من أسرتها. وفي مدخل امتزجت فيه العاطفة والمنهج، والذكريات مع البحث العلمي، أرجعت د.مضاوي اهتمامها بتاريخ أسرتها إلى طفولتها، وما سمعته من أهلها، حيث ولدت في باريس لأب من آل الرشيد وأم لبنانية، وعاشت في الرياض اثنا عشر عاماً، وكان يجري تحذيرها من الحديث عن تاريخ أسرتها مع أصدقاء الدراسة.
ولم تدرك أبعاد هذا التحذير حتى أغتيل الملك فيصل على يد ابن أخيه فيصل بن مساعد، وهو ابن عمتها في ذات الوقت، حيث تعرض أبوها وعمها للتحقيق، ثم سجن عمها لمدة عام؛ غادر بعدها المملكة إلى العراق، وتنازل عن جنسيته السعودية، وأما والدها فخرج من المملكة بعد ثلاثة أشهر من التحقيق، دون أن يسجن.
ثم انتقلت الطفلة مع والديها إلى لبنان، وظلت هناك حتى خلال الاجتياح اليهودي لبيروت عام(1982م)، وبعد ذلك عاشت في إنكلترا لمواصلة تعليمها العالي في الأنثروبولوجيا، والسيسيولوجيا، وهما علمان ثريان خطيران، يدرسان علم الجماعات البشرية وسلوكها، وعلم الاجتماع، حتى أصبحت أستاذة فيهما، وتنطلق من معرفتها بهما، ومن إرثها الأسري، لمتابعة الواقع السعودي وتحليله، بعين يراها البعض ساخطة فقط.
وقد اختارت هذا الموضوع ليكون رسالتها العلمية، وتوجست خيفة من رفضه بسبب تداخل الذاتية فيه مع الموضوعية، ثم أشكل عليها استحالة الوصول إلى حائل لتكون قريبة من مكان الحدث، بيد أن المفاجأة هي قبول الجامعة هذا المشروع العلمي. ولأنها شاهد من أهلها؛ انفتحت لها أبواب كانت ستظل مغلقة في وجه غيرها، خاصة ما يتعلق بمقابلة أفراد أسرتها، والسماع منهم بحرية.
وفي مقابل هذه المزايا اعترفت بوجود مثالب ومصاعب واجهتها، أولها عجزها عن العمل الميداني في حائل، وثانيها الضغط الناجم عن محاولة اجتناب التحيز، واجتهدت في التغلب على ذلك من خلال تشخيص الباحث لولائه أولاً؛ حتى يحسم هذا الصراع، ويراقب نفسه بدقة.
وأفادت في دراستها من مقابلاتها مع أفراد من عائلتها الذين يعيشون خارج المملكة، أو داخلها ممن التقت بهم خلال سفرهم للخارج، وأكبر مصادرها العائلية كان في الخمسينات من العمر عام(1986م)؛ أي أنه ينتمي للجيل الأول الذي عاصر سقوط حائل عام (1921م).
كما استعانت بمواد أرشيفية، توجد في لندن وباريس، لأن بريطانيا وفرنسا قوتان متنافستان حينذاك في الخليج والجزيرة، وأفادت الباحثة من الأرشيفات الوطنية للقاهرة التي توثق الغزو المصري لوسط الجزيرة، ورفضت السلطات التركية تمكينها من الوثائق العثمانية حين طلبت الاطلاع عليها عام(1987م)، ولديها أمل بأن تغير الحكومة التركية موقفها المتصلب.
واستأنست د.مضاوي بما كتب في أدب الرحلات، حيث استقطبت حائل من منتصف القرن التاسع عشر اهتمام عدد من الرحالة الأوروبيين؛ من أشهرهم فالين-وله رحلتان ماتعتان مطبوعتان-، وبالغريف، ودوتي، وبلنت، وغرماني، وهوبر الذي كتب شيئاً من ذكرياته على صخور حائل الجميلة، وتعد هذه الكتب بجملتها مصدراً مهماً لمعلومات تاريخية، وجغرافية، واجتماعية، وإن كانت تتلبس أحياناً بما يؤخذ على كتب المستشرقين من تهور ومجازفة، قد يصلان إلى حد الظلم والتحريف، وغالب هذه الرحلات مطبوعة ومترجمة.
عنوان الفصل الأول: الأرض والبشر، وتحدثت فيه عن السمات البلدانية لحائل، والخصائص البشرية لسكانها؛ الذين قدروا بعشرين ألف نسمة عام (1877م) حسب دوتي، ويشمل هذا التقدير جميع سكان جبل شمر من بادية وحاضرة، وأعدادهم تكاد أن تكون متساوية، وبينهما نوع فريد من التكافل والخدمات الاقتصادية المتبادلة. ونظراً لازدهار حائل تجارياً، وارتفاع مستوى الأمن فيها، ومرور قوافل الحج والتجارة عبرها، قطنتها عوائل نصرانية، ويهودية، وشيعية، وبعضهم توطن هناك كما تقول المؤلفة.
وينقسم سكان حائل إلى فئات تقع في أعلاها الأسرة الحاكمة، وعوائل شمر القيادية، ثم التجار وغالبهم متحالف مع الفئة الحاكمة، يليهم الزراع وجلهم من بني تميم، ثم الحرفيين، وأخيراً العبيد من خدم البيوت وعمال المزارع، وكانت هذه الفئات تتركز في ثلاثة أحياء رئيسة؛ وكل حي تسكنه فئة وتختص به، ثم ختمت المؤلفة هذا الفصل بحديث أنثروبولوجي عن القبيلة، وتفصيل لواقع قبيلة شمر الأبية.
الفصل الثاني عنوانه غليان في وسط الجزيرة العربية(1744-1841)، ويختص بانبثاق دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من وسط نجد، ثم توسعها في جهات الجزيرة العربية قاطبة، واعتمادها على الجهاد وجبي الزكاة، وهو أمر راق للحليف السياسي كما تقول المؤلفة؛ لأنه يقود للتوسع وجلب المال. وساعدت أربعة عوامل على التوسع المذهل للدولة السعودية الأولى وهي: انقسام حكام نجد، والصراعات العائلية بين أفراد الفئات الحاكمة، وهروب قبائل نجدية إلى العراق، واعتناق عدد من المجموعات للدعوة سلمياً.
وذكرت المؤلفة أن التوسع السعودي-الوهابي في جبال شمر، يمثل السياق التاريخي لصعود أمراء آل رشيد إلى السلطة في حائل، وإن لم تقبل الرواية، التي تنسب تعيين جدها عبد الله أميراً على حائل، بتفويض من الإمام فيصل بن تركي. وسردت شيئاً من تاريخ تحالفات قبائل شمر مع الخوالد والأشراف ضد السعوديين، إلى أن أذعن حاكم حائل ابن علي للرياض، وجمع لها الزكاة، وقدم الدعم العسكري لجيشها، واستقبل منها الأئمة والقضاة، وكانت علاقته ودية مع حكامها.
وحين أصبح آل الرشيد حكاماً لحائل خلفاً له، استقلوا عن التبعية للرياض تدريجياً، حتى استثمروا الغزو المصري الثاني لنجد، وخلاف أبناء فيصل بن تركي، للاستقلال الكلي، وتكوين أسرة حاكمة جديدة، تحظى بولاء بادية حائل وحاضرتها، وهي أسرة وهابية كما يقول الرحالة والمؤرخون؛ لكنها ألين في تمسكها بمبادئ الدعوة من الرياض وجنوب نجد.
أنماط الزعامة: أمير وشيخ وإمام هو موضوع الفصل الثالث، واستعرضت الباحثة فيه نظام الإمارة في حائل، ومسرد حكام أسرتها الذين قتل جلهم في اغتيالات داخلية، وفي جميع حالات الاغتيال نجح القاتل في تنصيب نفسه أميراً باستثناء واحد لم ينجح في ذلك، وعرجت على غياب نظام واضح وعملي لتوارث العرش، ومن أبرز مظاهره انعدام منصب ولي العهد، وكان هذا الأمر منشئاً لصراع داخلي بين أفرادٍ يرى كل واحد منهم أحقيته بالملك، وهذا الصراع من سمات الإمارات التشاركية، وهو خلل يزداد إذا ما خرقت قاعدة الأقدمية. وفرقت بين الأمير وشيخ القبيلة، ثم بين الأمير والإمام الذي يستند إلى منصب ديني، وزعامة سياسية، كما هو الحال مع حكام الرياض.
الفصل الرابع عنوانه اقتصاد القوافل: التجارة والحج والإتاوة، إذ أصبحت حائل خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، محطة تجارية كبيرة تضاهي الحواضر الكبرى المحيطة بها، وأضحت مكاناً آمناً للقريب والغريب، مع حرية في الممارسات لدرجة أن الناس يشعلون بنارهم سجائر المدخنين، دون أن يجدوا في أنفسهم حرجاً؛ خلافاً لكثير من البلاد النجدية.
وكانت قوافل التجارة تخرج من حائل أربع مرات كل عام، وتتألف سوق حائل المسماة "المبيع" من مئة وأربعين متجراً، ومن ضمنها أكشاك لبائعات من النساء، وأقسام لبيع الطعام المطهي، وغالب ملاكها من الفرس الذين أدخلوا التوابل المتنوعة إلى المطبخ الحايلي، وظهرت في أسواق حائل عملات مختلفة عثمانية وأوروبية، وذهب وفضة وورق نقدي كالمارك.
وساهمت قوافل الحج في عمران حائل وأسواقها، ويغلب على الحجاج أنهم من شيعة فارس أو العراق، كما وجدت حائل في الإتاوات ونظام "الخوة" مصدراً مستمراً للمال والدخل المنتظم، وجعلت من هذه الطريقة وسيلة لتعزيز التعايش السلمي بين شقي الإمارة من حاضرة وبادية، وبينهم وبين من يعبر ديارهم.
وغنم منها الأمير عشرات الآلاف من الجنيهات الإسترلينية، وكانت حائل تجبي الزكاة للدولة العثمانية أو المصرية وتأخذ جزءاً منها، كما أنها نالت من أعطيات الدولة العثمانية الدورية، ولم تبخل على حكام الجوار والدولة العثمانية بالهدايا النفيسة من جياد الخيول الأصيلة. وهذه الأموال بمجموعها تمثل اقتصاد الدولة والأمير معاً، وما أصعب الحال حين تتداخل ثروة الحاكم مع ثروة البلد!
الجهاز العسكري هو محور الفصل الخامس، وهو قوة إكراه كونها الأمير من قبائل شمر، ثم استقل عنها فيما بعد، فلم يعودوا نواة الجهاز العسكري، وأصبحت قوة الأمراء الضاربة، تتألف بدرجة رئيسة من رجال المدن والعبيد. وإن تكوين قوة عسكرية ثابتة ودائمة، ومستقلة عن التحالفات السياسية، ولا تدين بالولاء إلا للأمراء، خطوة حاسمة لتكوين الحكم السلالي؛ وضمان استمراره، وقصر استخدام العنف "المشروع"، وفرض الأمن، على الأمير فقط.
وغدت هذه القوة المسلحة، هيئة تستخدم على أساس دائم؛ لأغراض التوسع والدفاع، وفرض النظام، وحماية القوافل، وجبي الأموال، وجني الإتاوات. ومن ضمن هذه القوة العسكرية مئات من الزنوج، والأتراك، والمصريين، الذين يعتمدون على الأمير اعتماداً كاملاً من أجل البقاء، وبالتالي فاق ولاء العبيد للأمير ولاء أقاربه، ولا يعني هذا انتفاء دور الحمولة كلية، وإنما ضمر حضورها العسكري، مع بقائها مصدرَ مشروعية للأمير.
عنوان الفصل السادس صنع التاريخ، وفيه درست د.مضاوي الشعر الشعبي وأثره في حفظ التاريخ والوقائع؛ لارتباط غالب القصائد بحادثة ما، وذكرت أن الشعر النبطي مجد البطولات، وأثنى على الصفات الحميدة، ثم بعد ذلك شمل الحنين إلى الماضي من ديار، وأهل، وحال، وأمجاد، وإنما البقاء لله، وكل ما خلا الله فهو زائل من الدنيا ولاريب.
سياسة الزواج هو عنوان الفصل السابع، واعتبرت د. الرشيد أن الزواج يكون ذا معنى سياسي أحياناً، ومع أهمية الأصل الأبوي، فقد كان للخؤولة أثرها، حتى أن الأقارب من جهة الأم، يمثلون قوة انقسامية بين الأقارب من جهة الأب، وقلما كانوا عوامل توحيد أو تقريب وجهات النظر. وفي بعض الفترات كان للأخوال دور سياسي حاسم، وظهر هذا جلياً في تدخلات أسرة السبهان على وجه الخصوص، وهي أسرة تزوج آل الرشيد كثيراً من بناتها.
وحصرت المؤلفة (28) زيجة عقدت خلال تسعين عاماً، لاثني عشر حاكماً من آل الرشيد، منها عشر زيجات مع بنات عم قريبات أو بعيدات، وإحدى عشرة زيجة مع فتيات من قبيلة شمر، وأربع زيجات مع نساء من خارج القبيلة، إحداها مع بنت حاكم الرياض فيصل بن تركي، وأخرى مع بنت حكام بريدة آل مهنا، وثلاث زوجات تعذر التعرف عليهن، علماً أن الإحصاء لم يشمل الزيجات القصيرة، أو التي لم ينجب منها.
ولاحظت الباحثة أن تعدد الزوجات يمارس على نطاق واسع بين الأمراء، -وبالتالي فالتعدد سنة نبوية وممارسة ملكية-، وأن الزواج اللحمي من الأسرة وذات القبيلة هو الأعلى نسبة، حيث مثل (75%) تقريباً من الزيجات المسجلة، واستنتجت أن الزواج من بنت العم، يهدف إلى تحييد العلاقات المشحونة بين طرفين متنافسين سياسياً واقتصادياً، فالزواج من بنت غريم سياسي محتمل؛ يخفف من حدة التنافس، كما لاحظت أن الزواج من بنات شيوخ القبيلة، ينقل صراع الأمراء إلى مستوى قاعدي داخلي.
والزواج بين أسرتي آل سعود وآل الرشيد علامة مميزة في العلاقة بين البيتين، فقد تزوج طلال بن عبد الله الجوهرة بنت فيصل بن تركي، وتزوج عبد الله بن فيصل نورة بنت عبد الله بن رشيد، ثم افترقا، وتزوج بعدها طُريفة بنت عبيد. وبعد استيلاء الملك عبد العزيز على حائل تزوج جواهر بنت محمد بن طلال، وتزوج ابنه مساعد شقيقتها وطفاء، وهما-أي جواهر ووطفاء-عمتا المؤلفة. كما تزوج الملك عبد العزيز فهدة بنت شريم أرملة سعود بن عبد العزيز بن رشيد، وأنجب منها ابنه الملك الراحل عبد الله، ويحكم حائل حالياً الأميران الحفيدان سعود بن عبد المحسن، وينوبه عبد العزيز بن سعد، وهما أخوان من أمهما وضحى العبيد الرشيد.
الفصل الثامن بعنوان الإمبراطورية والإمارة، ودرست فيه العلاقة بين إمارة آل رشيد والدولة العثمانية، التي تراوحت بين مجرد تبادل الهدايا، إلى الدعاء على منبر الجمعة، ثم التبعية التامة، ولم تكن العلاقة بين الطرفين صفواً دائماً، فقد تخللها شيء من التنغيص والخلاف، وأذكر أني قرأت رسالة من الأمير محمد بن رشيد، إلى الخليفة العثماني يستنكر عليه فيها بعض ما يراه من أخطاء، كما أن الدولة العثمانية حاولت قصقصة أجنحة الإمارة في الجوف وغيرها.
وقد كان ابن رشيد الحاكم الوحيد في الجزيرة العربية الذي لم يرتبط بعلاقة مع بريطانيا؛ مع أن الإمارة حاولت التقارب مع القوة العظمى حينذاك دون جدوى. ونتيجة لذلك فقد خنقت حائل اقتصادياً، وإن كانت شهامة بعض التجار قد خففت من أثر الحصار. وحاول ابن الرشيد التحالف مع خصوم الملك عبد العزيز في الحجاز، والكويت، وبعض القبائل، ومع أنه حقق نجاحاً في عقد بعض التحالفات؛ إلا أنها لم تصل إلى حد التعاون في حلف عسكري. وليت أن المؤلفة درست أسباب إخفاق إمارة آل رشيد في المضي بهذه التحالفات إلى نهاياتها المنطقية، وأسباب تمسكهم بالحلف مع الدولة العثمانية، مع بيان ضعفها وعجزها.
الفصل التاسع عنوانه الانحدار، وأرجعت المؤلفة حسم الأمور على الأرض في جزيرة العرب إلى الاتفاق بين العثمانيين والإنجليز، حيث أخل هذا الاتفاق بميزان القوى حسب رأيها، ويمكن أن يكون ذلك عاملاً من جملة عوامل أخرى؛ كالصراع داخل الأسرة، وتنامي قوة الخصم، ودهائه السياسي، وانجذاب القبائل إليه، خاصة مع رفع الراية الدينية، فضلاً عن تململ التجار من الحصار الاقتصادي، وضجر السكان من التضييق على معاشهم وشؤونهم.
وبينت المؤلفة أن مواطن ضعف الإمارة ارتبطت ببعض خصائصها، فتوارث العرش، والخلافة على الإمارة بلا نمط محدد، والتقلب في السلطة أوجد حدوداً سلالية مطاطية سريعة التشكل والتغير، ومنها غياب قنوات التواصل مع المستوى القاعدي للقبيلة، والعجز عن احتكار القوة والاستخدام" المشروع" للعنف، وترى د. مضاوي بأن آخر خصيصتين هما الأكبر أثراً.
ولم تغفل الباحثة عن عوامل أخرى مهمة، كافتقاد إمارة آل رشيد للأساس الأيدلوجي المنبني على الدين، وهو عامل مثبت، وفقدانه سبب هشاشة الإمارة، كما أن تغلب الإنجليز وهزيمة الدولة العثمانية عاد بالأثر على حليف كل منهما. ولم تشر المؤلفة بما يكفي إلى الظلم الواقع من بعض أمراء آل رشيد على أهل حائل والإفراط في القسوة أحياناً، ولم تتعمق في دراسة معارك مهمة في تاريخ الإمارة مثل المليدا، والصريف، وروضة مهنا، وقد صدر عن بعضها دراسات خاصة ضخمة، ولم تتوسع المؤلفة في تحليل العلاقة المضطربة بين حائل ومدن الجوار، كالقصيم والجوف.
أمراء في المنفى هو عنوان الفصل العاشر، وهو عنوان أدبي مليء بالحزن، وفيه سردت د.مضاوي ما جرى لأفراد أسرتها بعد سقوط حائل، واستسلام جدها محمد بن طلال، وهو آخر حكام الإمارة. ثم عرجت على بعض خبر عمتيها وزواجهما من الملك عبد العزيز وابنه مساعد، وذكرت من بقي من أسرتها في الرياض، ومن هاجر، أو عاد بعد هجرته، ولبعضهم مخصصات مالية، وختمت هذا الفصل بوصف نظام المحسوبية من وجهة نظرها.
وكان الفصل الحادي عشر والأخير بعنوان خلاصات، وأكدت فيه ما تكرره كثيراً بأن الجزيرة العربية لم تكن خلواً من الدول قبل تكوين الدولة السعودية، وأن الأمن ليس مفقوداً في وسط الجزيرة كما يشاع، والحقيقة أنه يمكن الجمع بين الأقوال دون إسقاط شيء منها، فلم تعرف الجزيرة دولة بحجم السعودية، لكنها شهدت ولادة دول وإمارات أصغر، وكان الأمن يغيب تارة، ويحضر أخرى، وفي عهد محمد بن رشيد، وهو العهد الأطول في تاريخ آل رشيد، أمنت السبل، وعم العدل النسبي، تماماً كما حصل بعد استتاب الأمر للملك عبد العزيز، والفضل لله والمنة.
والبعض يأبى ما تقوله المؤلفة د.مضاوي الرشيد؛ على اعتبار أن عين النقد مسيطرة عليها، فلا ترى إلا الخطأ، أو ما يمكن تفسيره-كما يرون-بما يخدم موقفها المتحامل على السعودية التي قضت على حكم آل رشيد. وأمر الشرع، ومنطق العقل، أن نسمع من كل أحد، فنقبل الصواب، ونرد الخطأ، ونتحاور في الملتبس، وإذا صح سيطرة النظرة النقدية الحادة عليها، فلعلها وأمثالها يعدلون من طغيان سيل المديح الجارف، ويخففون من ضجيج التطبيل المزعج، كي نرى الصورة المعتدلة، ونصل إلى الحقيقة التي تنفعنا، وتديم علينا أمننا، وتقوي من عوامل استقرارنا.