الشعور بالشيء زائد على وجوده. وبعدم الشعور يتساوى وجود الأشياء وعدمها.
كم من نعمة يَسبح العبد بنعيمها لا حسَّ لها في ذاته، ولا أثر في واقعه؛ بسبب من عدم الشعور بها! وكم ممن يردد ويقول: ما الذي أعطاني الله؟ وهو غارق في عطاياه!
الإحساس أساس النعمة، فلا نعمة بلا إحساس، كما أنه لا بناء بلا أساس.
ها أنت في طريق تكتنفه المروج والأشجار، وتتخلله الأنهار والأوراد والثمار، وتصدح في فضائه الطيور والعصافير. وتنظر فتجد من معك غارقين في نقاش، أو مطرقين لا يأبهون بهذا (الكرنفال) الذي أقامت الطبيعة بأمر ربها سرادقه لهم، فكأنها وكأنهم رسول ودود لا يواجهه قومه بسوى الإعراض والجحود!
صحيح أن تكرر الأشياء على الحس يؤدي إلى حالة من الإدمان تضعف حاسية تذوقها، والإحساس المستمر بجاذبيتها وسحر جمالها. لكن العمل على تجديد الشعور بوجودها وشحذ الإحساس بجمالها يعالج تلك الحالة، كما تُشحذ السكين بالمِسَن فتعود كما كانت.
الوردة و .. الكلمة !
ويختلف الناس في التفاعل مع محركات الإحساس.
لو سألتني لقلت لك: لذتي من الوجود اثنتان، هما عندي أجمل ما فيه: الوردة والكلمة. سبحان الخالق! لا أكاد أشبع من رِياهما، ولا ينقضي عجبي منهما ومن نجواهما!
كم يثيرني الورد فيخلب لبي بأشكاله وألوانه! وتغزوني الكلمة فتسلب قلبي بصورها وتعابيرها! حتى إنني لأذكر الجنة فلا أرى إلا روضاً من الورود على امتداد الوجود.
وأتخيل الحوراء فلا يسبق لذهني سوى منظر وردة حمراء أو بيضاء!
وكثيراً ما طرَّيتُ عطوره بأشجان ناظري، وطرّبتُ أوراقه بمكنونات محاجري.
وما من مرة رأيت الورد إلا وكدت أُصرع..! وإلا سرحت بخيالي فأخذني إلى الجنة، فرأيت قصوراً تتلألأ، ورياضاً تتماوج فيها الورود على مد البصر!
ولم أسمع كلمة مشحونة بالصورة والمعاني والشجن إلا كدت أصرخ أو أُصعق، ولكن الحياء يمنعني فيخرسني ويمسكني. وفي الحال ينتقل بي الخيال إلى الجنة، فأتمتم مشتاقاً مبهوراً.
تأملوا هذه التشكيلة الرائعة من المعاني والصور كيف أُودعت هذه الكلمة التي قالها الإمام البنا رحمه الله وكتبها بذوب قلبه وعصارة فكره: “ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف. وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة. ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة. ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة. ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد”!
ما هذه الروعة؟!
والناس أشكال وأذواق. فهذا يثيره الليل البهيم، وذلك يسحره القمر الباسم. وآخر يفتنه الفجر بشفقه، ورابع يهيم بالغروب وغسقه. ومصادر الجمال ومثيرات الشعور لا تنتهي: الطير والشجر، والبحر والنهر. وهناك السحب والغيوم في الأعالي، لا سيما لحظات تدفق الودق من خلاله، واندلاق البرَد من سلاله، والأشجار ترتعش من القُر، والنخيل ترتعد وسط الريح، والبحر يموج، والشراع يلوّح من بعيد يعلو ويهبط، والطير أوت إلى أعشاشها (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) (النور:41).
فوا عجباً كيف يعصى الإلهُ أم كيف يجحده الجاحدُ
ولله في كل تحريكةٍ وفي كل تسكينةٍ شاهد
وفي كل شيء له ايةٌ تدل على أنه الواحد
وهذا ينظر إلى بعوضة فيستفزه الشعور بلطف صنعها فيقول:
يا مَنْ يَرى مَدّ البعوض جناحه في ظلمةِ الليلِ البهيمِ الأليلِ
ويرى نياطَ عروقها في مخِّها والمخُّ في تلكَ العظامِ النُّحّلِ
ويرى خريرَ الدمِ في أوداجها متنقلاً من مفصل في مفصلِ
ويرى مكان الوطء من أقدامِها في سيرِها وحثيثِها المستعجلِ
ويرى ويسمعُ حسَّ ما هو دونهَا في قاعِ بحرٍ مظلمٍ متهولِ
اُمنُنْ عليَّ بتوبةٍ تمحو بها ما كانَ مني في الزمانِ الأولِ
وآخر يسمع هتاف حمامة على غصنها في هدأة الليل، فتفيض نفسه بهذا الشعور الذي تسيل لحره القلوب:
لقد هتفت في جنح ليل حمامة على فنن وهناً وإني لنائم
فقلت اعتذاراً عند ذاك وإنني لقلبي فيما قد رأيت لَلائمُ
أأزعم أني هائم ذو صبابةٍ لربي ولا أبكي وتبكي الحمائم
كذبت وربِّ البيتِ لو كنت صادقاً لما سبقتني بالبكاء البهائم
الشعور من الجانب الآخر
والشعور مطلوب من جانبه الآخر: فجمود العين، وقساوة القلب، واسترسال الجوارح بالمعاصي، واستصغار محقرات الذنوب، يحتاج من العبد إلى التفات قبل الفوات، وإلا كانت الهلكة. كما أسرع أبونا آدم عليه السلام بالإياب إلى جناب الرب، ولم يضيع الفرصة بالجدل وشطط القول بعد سوء العمل.
ومما يروى في كتب الرقائق أن أحد أحبار بني إسرائيل دعا ربه فقال: يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني! فأوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن يقول له: “كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك لذيذ مناجاتي”؟!
يقول ابن عطاء السكندراني: “من جهلِ المريد أن يسيء الأدب؛ فتؤخر العقوبة عنه، فيقول: لو كان هذا سوء أدب لقطع الإمداد، وأوجب الإبعاد. فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر، ولو لم يكن إلا منع المزيد. وقد يقام مقام البعد وهو لا يدري، ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد”.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ “كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ”)([1]).
والمخلصون يحذرون اللمم كما يحذرون الذنوب الكبار، ولا يتبعون خطوات الشيطان كي لا يقتربوا من لهب الخطايا، ولا يستصغرون من المعاصي شيئًا. فقد روى الترمذي عن سَهْل بْن سَعْد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى جَمَعُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ, وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذُ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكُهُ)([2]).
ويقول الفضيل بن عياض: “بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله”.
ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه: “إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهلكات”.
ويقول هلال بن سعد: “لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى مَنْ عصيت”.
ولما حضرت ابن المنكدر الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟!، قال: “والله ما أبكي لذنبٍ أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم”.
المصدر/ القادسية
ــــــــــــــــــــ
[1] – رواه الترمذي وغيره وقال: حسن صحيح، وحسنه الألباني.
[2] – قال ابن حجر: أَخْرَجَهُ أَحْمَد بِسَنَدٍ حَسَنٍ, وَنَحْوه عِنْد أَحْمَد وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود, وَعِنْد النَّسَائِيِّ وَابْن مَاجَهْ عَنْ عَائِشَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: (يَا عَائِشَة إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوب فَإِنَّ لَهَا مِنْ اللَّه طَالِبًا) وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان.