إنها تلك الجدران التي تبدو في جو السماء بالليل مضيئة , لا بأنوار مصنوعة , بل بآثار الصالحات في جوف الليل , من تلاوة وصلاة وذكر ودعاء .
إنها جدران البيوت المؤمنة الكريمة , التي تلون خارجها بلون التواضع , وتلون داخلها بلون الورع والتقوى والطاعة والإيمان .
إن البيت دوما يمثل لصاحبه السكينة والأمن , كما يمثل الحماية والاستقرار , قال سبحانه :" الله الذي جعل لكم من بيوتكم سكنا .. "
والبيت عندما تكون فيه اسرة مستقرة هادئة , يكون ملاذا آمنا من طاحونة الحياة في الخارج , ويصير مرتكنا للهدوء ومركزا للتفكر والإبداع .
وعندما يصير ذلك البيت الهادىء بيتا مؤمنا , يكتسب جميع صفات الفضيلة , وتكسوه سمات الحسن كلها , فتملؤه البركة وتتنزل فيه الملائكة, ويحفظ الله أصحابه .
إن بيوتا ربما كانت من أوبار الأنعام أو من قماش الخيام أو من الطين النيىء , ليس فيها كثير اثاث , ولا تستخدم أجواء التكنولوجيا المعروفة , لكنها تنعم في ظل وارف من النعيم الرائع , تحيطها المودة , وتملؤها المحبة , وعلى الضد نرى بيوتا صنعها اصحابها من الذهب والياقوت وجعلوا اثاثها لؤلؤا وأحجارا ثمينة .. ثم هي بائسة كئيبة , يملؤها الياس وتعشش فيها الخفافيش !!
إن بيوتنا المؤمنة هي التي صنعت التاريخ السامق بين جدرانها , واحتضنت علماء هذه الأمة الكرام الكبار , الذين زهت بهم صفحاتها واضاؤوا للبشرية طريقها
أتصور بيوتنا المؤمنة أقرب ما تكون ببيوت النحل , تشتعل حركة ونشاطا وتنتج عسلا فيه شفاء وبركة … غذاؤها الرحيق وعملها بين الأزهار ..
إن تكوينا عجيبا تجتمع مفرداته لينتظم بعضه ليكون منظومة كعقد متناغم في تلك البيوت ..
فالمرجعية الكلية لمنهج الإيمان , والقوامة الابوية عمود فقري لبنيانها , والمرجعية الثقافية قائمة على كتاب الله وسنة نبيه , والمرجعية السلوكية قائمة على الأخلاق الصالحة , ومرجعية حل المشكلات قائمة على حكم الله بين الطرفين ..
الكل يؤدي ما عليه من واجبات ويتباسط فيما له من حقوق , الجميع يتهم نفسه بالتقصير , ويرى الخطأ – حين الخلل – من عنده لا من عند غيره , ينظر إلى الإيجابيات ويغض طرفه عن النواقص .
عمود الرحى في بيوتنا هو ذاك العقد المقدس الرحيم , ورباطها هي تلك الحبال المتينة من المودة والرحمة , شعارها الرفق , ودثارها الصبر والرضا .
إنني لأراها مصفاة لتكرير نفوس أفرادها و مولدات طاقة دينامية تبعث النشاط والحراك في النفس والجسد ليقوم بعبوديته المرجوة , وأتصورها كدافعات إيمانية خلفية لكل امرئ غفل عن حق ربه .
إن بيوتا في شمال الأرض وجنوبها وشرقها وغربها – قد حرمت نفسها من معنى الإيمان وغفلت عن رونق العبودية – , لتشكو ليل نهار من قسوة الحياة , وضيق الصدر , وظلام الداخل , وقسوة نفوس أبنائها على بعضهم البعض , فنراها – برغم أموالها المتكاثرة , وإمكاناتها التكنولوجية الباهرة , – وقد تفسخت أوصالها , وسكن الشيطان في صدور أفرادها , فصاروا أنماطا متفردة مستقلة متنازعة , لا رابط بينها , إلا ماديات الحياة .
ومن تأمل البيوت التي خلت من الإيمان والهدى , علم كم للإيمان من قيمة في بناء الأسرة المؤمنة , وفهم مقدار التأثير الإيجابي لتعاليم الإسلام على نفوس الكبار والصغار فيها .
إن طمأنينة علوية تعلو البيت المؤمن قد تٌسكن قلب الكبير , فتدعوه لرفع يديه داعيا ربه لولده الصالح أن يحفظه من كل سوء , وربتة حانية على ظهر طفل صغير ترسم بسمة صافية على شفاهه , فيسارع إلى تقليد أباه في الصلاة والسجود .
ونظرة مشفقة من عين أم لابنتها , تدعوها بها إلى الإفصاح عما يحزنها ويدور بخلدها , فتقترب البنت , وتبوح بكل ما يزعجها , فتعلمها أمها الصواب والخير .
وموقف حرص ونصح أمين من أخ لأخيه , يمنعه به عما يضره , لينقش رسما صالحا في ذاكرة الأخ , فلا ينسى عبر السنين , وصلة رحم نقية من قريب إلى قريب لتبارك الرزق وتنسأ الأثر .
ومن مثلنا – نحن المسلمين – في بيوتنا ؟! فالوالد في بيوتنا : راع , ومرب , وخطيب , ومعلم , وإمام , وقدوة , وحارس , ونبع شفقة .
والأم في بيوتنا : رقة وحنان , وخدمة , وعطر يملأ جنبات البيت , وحبل ارتباط بين الجميع , مربية ومعلمة , وناصحة وموجهة وقاضية بالعدل , وحافظة لحدود الله .
والابن في بيوتنا : نتاج حلال وبركة , ثمرة حلوة نضرة , مذاقها حلو وريحها حلو , يحفظ الآداب , وينبغ في العلم , ويتفوق في المروءة , وينشأ في طاعة الله .
والبنت : زهرة متفتحة , وحياء بالغ , وحجاب مسدل , وقيم ومبادئ , وشخصية قوية وأثر إيجابي فعال .
والجد في بيتنا كهف علم , وقاموس تجربة , ونبع حكمة , له الوقار والتقدير, والمحبة والاحترام , ومنه العطاء الدائم , وعلى يديه تصير البركات والصالحات ..
فمن مثلنا إذن ؟!!
وإذا دعا ذلك البيت المؤمن المهيب داعي الإيمان اجتمع أبناؤه فتعاونوا على البر والتقوى, فتعاهدوا على الصيام , وتداعوا إلى الصدقة , وصنعوا منظومة لصلة الأرحام ورعاية الجار, وكتبوا أجندة للطاعات , وخرجوا في مظاهرة حب وعبودية لدعوة الخلق من حولهم .
لكأنني أراهم في بيوتنا وقد نزعوا ثياب الغفلة , وتخلوا عن أنماط الكسل , وألقوا بالنفعية والأنانية عبر البحر , أقدموا ولم يحجموا , وفاقوا في خطوهم آثار الخيال , قد تبدى الإخلاص من حركاتهم وسكناتهم , ورسم التواضع محياهم , وداعب عيونهم البكاء كلما التقوا صغيرا محتاجا أو عاجزا مقيدا أو فقيرا حييا .
فما أحسن إثرهم على من حولهم من الناس , وما أطيب عطرهم الفائح تهذيبا وتأديبا , وما أعمق بصماتهم على وجه الأيام بين الناس إصلاحا وتقويما .
إن تلك البيوت على الحال التي ذكرناها , لتعد نموذجا نورانيا في مجتمعاتنا , ولبنة صلبة تقيم عود المجتمع وتشد جيده , وتقوي عزمه , وترفع قدره وقيمته نحو الإنجازات العاليات .
فهل لي أن أسائل نفسي وقارئي : متى الأيام تنجب مثل ذاك النموذج التربوي الساحر؟ ومتى المجتمع المسلم يرعى أمثال تلك اللبنات المجتمعية الفائقة الروعة ؟ فلا يقتصر حديثنا حولها حول الرجاءات والآمال والأمنيات , فتتحول من أمل إلى واقع , ومن منى إلى تطبيق , ذاك أن ديننا ميسور مقدور التنفيذ , ومنهجنا التربوي قابل العمل سريع الأثر , وبين أيدينا كلام ربنا , ووصايا نبينا , وقلوبنا النابضة بالوحدانية والدعاء .
————————————————
(1) بعض مقاطع من المقال مستفادة من مقال سابق لنا بعنوان " بيوتنا النورانية والايام الفاضلات "