رجل بألف رجل، حمل على عاتقه الدعوة إلى الله في كل الميادين، كان عالماً وفقيهاً ، مجاهداً ومرابطاً ، مربياً ومعلماً ً، زوجاً وأباً ، لم يقابله أحد داخل أو خارج فلسطين إلا وترك في قلبه بصمة رائعة، قدم ابنه شهيدا لله تعالى، وانتظر الوقت بفارغ الصبر حتى يلقاه …
هو الشهيد البطل – نحسبه كذلك ولانزكيه على الله – الدكتور نزار ريان ، الذي استشهد في معركة الفرقان العام الماضي وكان لموقع المسلم هذا الحوار مع ابنه براء :
علمنا أبي الشهيد أن الذي بيننا وبين اليهود عقيدة، فانغرس هذا في وجداننا جميعا، وأصبح غاية كل منا أن يكون مجاهدا في كتائب القسام، يحب أن يلقى ربه شهيداً، كانت هذه أحلام حتى هلت بركات انتفاضة الأقصى.
في سنوات الطفولة، كنا –نحن الثلاثة الكبار بلال وإبراهيم وبراء- جيلاً واحداً، فبين كل منا والآخر أحد عشر شهرا فقط.. وكان أخي الأكبر بلال يتميز بقوة شخصيته ورجولته المبكرة، بينما كان يتميز الشهيد بعاطفته الجياشة وطيبة قلبه وحبه للخير ورقته وكان شهماً في حين تميزت أنا بالذكاء والتفوق والبراءة .
في الانتفاضة الأولى، كنا وإبراهيم صغارا، رجمنا اليهود بالحجارة ونحن دون السادسة من العمر، لكن ذلك لم يكن ليشفي غليل ضعاف الهمة مثلي، فكيف يشفي غليل إبراهيم رحمه الله .
كانت انتفاضة الأقصى فرصة ذهبية، ولم يكن والدنا يمنعنا –كما كان الكثيرون- من الخروج إلى المواجهات، فطفنا على جميع مواطن المواجهات من إيريز إلى نتساريم، لم يقدر لأحد فينا أن يستشهد، وقدر لإبراهيم أن يكون أول مصاب في بيتنا.
تحدثنا جميعاً عن رغبتنا في الاستشهاد، لكن إبراهيم كان الأمر بالنسبة له فوق الجدّيّ، وأرسل لإخوانه يرجوهم بكل وسيلة، يستحلفهم بالله، ويبكي لهم. لم يكن أمامهم إلا الاستجابة له، بعد تدخل والدي حفظه الله لصالحه، ولم يطل الأمر على إبراهيم حتى وُجِد الهدف، فأُخذ ودُرِّب، وتم التجهيز لعملية كانت أول عملية اقتحام لمستوطنة في انتفاضة الأقصى.
كان كل من في بيتنا يعلم أن إبراهيم خارج لعملية استشهادية، كنا جميعا تيقنا من ذلك، بما في ذلك الوالدة، التي كانت مشجعة له ولغيره، وكانت –رحمها الله – أول خنساء في تاريخ فلسطين، ترسل ابنها إلى الموت وهي به عالمة. ولم يسبقها إلى ذلك أحد فيما أعلم.
لم يلبث إلا أن خرج في اليوم الذي يليه، وفي ذلك اليوم كان موعده مع الشهادة، استمرت المعركة أربعة ساعات ونصف على الأقل، وما أن ذاعت محطات الأخبار نبأ استشهاد منفذي العملية ومن ضمنهم إبراهيم، حتى سمعت زغرودة مدوية، لم أكن أسمعها فقط، بل والله لكأنني أنظر إليها تضرب الجدران ، وتطوف على آذاننا وتتردد، لا أكذب إن قلت: إن زغرودة والدتي لحظة استشهاد إبراهيم لا تزال ترن في أذني حتى الآن.
ثم علا البكاء والنحيب، وكلنا بكى سوى والدي كان يثبت القلوب ويجبر الكسور، جزاه الله عنا خير الجزاء، وبفضل الله كانت العملية ناجحة فوق الحدود، وقال شارون يومها: إنها ليلة مرعبة.
تسلمنا الجثمان وفوجئت بشقيقي، ممددا بينهم، جثمانا نهشه الرصاص نهشا، حينها بكيت.. بل أقسم أنه لو جمعت دموعي كلها قبل استشهاده ثم وزنت بما نزفته حينها لعادت ضئيلة. بكيت ومسحت على رأسه، فصادفت رصاصتين كانتا مختبئتين في مقدمة شعره. فازداد بكائي، عندما استشهد، كانت يده على هيئة التشهد بشكل واضح جدا.
بقي أن أذكر أن لإبراهيم الشهيد أربعة إخوة شباب غيره، كلهم أصيب في سبيل الله إلا أنا، أحدهم كاد يفقد رجله، وعانى من عدم المشي عليها أكثر من عامين، وثان أصيب أكثر من خمس مرات بالرصاص الحي، ويحتفظ بقطعة من البلاتين في يده بطول عشرين سم، والثالث الصغير – رحمه الله – فقد عينه في سبيل الله.