وليس سوءُ الفهم هو السبب الوحيد في النزاعات بين الناس, ولكنّ كثيرا منها مُسبَّبٌ عنه. يُساء الفهم؛ فتنشأ الخلافات, أو تتعمق الفجوات التي يصعب جَسْرها, وقد تندلع الحروب غيرُ المُسَوَّغة…
وأكثره يقع بعمليات التخاطب؛ متسببا عن رسالة كلامية غير مكللة بالنجاح, ومفتقرة إلى الوضوح، أو قد يكون عن خلل يعتري متلقي الرسالة، وسقم أدواته، أو غفلة حواسه، أو تحكم هواه في فهمه، وعقله!
ونحن هنا لا نتحدث عن الكلام والنصوص التي تروم أهدافا أخرى غير الهدف الإبلاغي, كالأدبية- مثلا- التي كثيرا ما تُقوِّض الدلالةَ الواحدة للملفوظ اللساني؛ تَقصُّدا منها لتعدد القراءات, وإشراكا للمتلقي في صنع المعنى؛ ذلك أن الفرق كبيرٌ بين اللغة ذات الوظيفة الاجتماعية, واللغة ذات المهمة الجمالية.
كما أننا لسنا بصدد النصوص التشريعية الإسلامية الظنية الدلالة التي تتعدد مدلولاتُها, ويختلف المجتهدون في إدراك معانيها, واستنباط أحكامها؛وَفْق معاييرَ وضوابط من الشرع واللغة؛ لحكمة أرادها الله- سبحانه-؛ فاحتمالية الدلالة, هنا, مسألة مقصودة, وقد شاء الله- عز وجل- لأحكام شرعية أن تكون قطعية؛ فأوردها في نصوص مُحْكَمة قاطعة الدلالة, لا تحتمل الخلاف.
فتلك السابقات, دون مقارنة بينها, أو مقاربة، تقصد إلى تعدد الدلالة, ولا تنشىء حَرَجا بذلك, وهي تريد الدلالات المستفادة منها, ما دامت محتملة, أو تَقْبلها؛ فلا إشكال في ذلك, ولا سوء فهمٍ يَنْجُم.
ولكن سوء الفهم ينشأ في التخاطب الاجتماعي, بكل أطيافه وفروعه, وهو علامة عجز عند المرسل, أو المستقبل, أو هو نذير إخفاقٍ لعملية التخاطب؛ هذا إذا لم تكن سببا لنتائج عكسية ضارة.
فكما يكون سوء الفهم سببا في اتخاذ العدو صديقا؛ فإنه كثيرا ما يفضي إلى تحويل الأخ والصديق إلى عدو، وما هذا دَيْدن العقلاء؛ إذ هم يجتهدون في تكثير الأصدقاء, واستمالة الناس بدلا من استعدائهم دون سبب.
وليس غريبا أن يكون سوءُ الفهم مسؤولا عن كثير من النزاعات على الصعيد الفردي, أو الجماعي, والدولي؛ لسبب معروف, وهو أن النشاط اللغوي المنطوي على المضامين الفكرية المتنوعة هو من أبرز النشاطات الإنسانية, وعليه الكثيرُ من التعويل في تكوين الرأي عن الآخرين, وتحديد المواقف منهم.
وقد ينشأ سوءُ الفهم من غير الكلام, كأنْ يقع خطأ في فهم واقعة, أو موقف ما؛ فيحمله مَنْ يراه على غير محمله الحقيقي. وفيما ترشد إليه الآية:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين)[الحجرات:6] وفي سبب نزولها ما يؤكد هذا المعنى, ويشرح مَضارَّه…, وقد "اختلفت القراء في قراءة قوله : { فتبينوا } فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة " فتثبتوا " بالثاء , وذكر أنها في مصحف عبد الله منقوطة بالثاء . وقرأ ذلك بعض القراء فتبينوا بالباء , بمعنى : أمهلوا حتى تعرفوا صحته , لا تعجلوا بقبوله , وكذلك معنى " فتثبتوا " . والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى , فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ." تفسيرالقرطبي.
فالواجب التثبت من صحة الخبر, وهذا يحيل إلى شروط الرواي, من عدالة وضبط, وعدم إغفال, وغير ذلك. والتبين الذي يكون بفهم ما احتوى الخطاب من مضامين؛ بحيث يُفهم, على الكلامُ على وجهه, وكما تدل عليه عباراتُه, لا كما يريدها السامع, أو يتمناها.
وحبُّك الشيءَ يُعمي ويُصم, وهذا القول, وإن كان لا يصح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا أن معناه_ كما قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله- صحيح.
* عجز المُرْسِل, أو المُخاطِب عن توضيح كلامه, وإيصال مراميه, ومقاصده إلى المتلقي, وهذا يتطلب التزود بالمعارف اللغوية اللازمة, من علوم البلاغة, واللغة, وقد يطال هذا العيبُ بعضَ الناس, حتى لو تكلم اللهجة الدارجة؛ إذ قد يكون الخلل ناتجا عن حاجته إلى تقوية ملكة الكلام, والكتابة. كما قد تتطلب معالجةُ هذا القصورِ في التعبير التدرُّبَ؛ لامتلاك مهارات التواصل, وهي تجمع بالإضافة إلى المعارف اللغوية مهارات اجتماعية, وقدرات نفسية.