الشرط الأول: قوّة لبناته ومتانتها.
الشرط الثاني: قوّة الروابط التي تربط بين هذه اللبنات.
أي أنّ قوة اللبنات، تساوي خمسين بالمئة من شروط صنع القوّة الحقيقية للبناء القويّ، فيما تساوي قوّة الروابط والعلاقات بين اللبنات .. الخمسين بالمئة الباقية من تلك الشروط، فلنتأمّل!..
إنّ قوّة اللبنات لا تتحقق إلا بالتربية العملية الصحيحة، فيما قوّة الروابط بينها لا تتحقق إلا بالتنظيم المحكم مع التربية الحقة، وغني عن الذكر أن كل ذلك لا يتحقق إلا بالتخطيط العلميّ السليم المواكب لروح العصر!..
قوّة اللبنات وقوّة الروابط بينها تجعل البناء قوياً محكماً منيعاً: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضُهُ بعضاً) (متفق عليه)، وأي خللٍ في أي لبنةٍ أو رابطةٍ ستوهن البناء في الموضع الذي تشغله تلك اللبنة أو الرابطة، وكلما اشتدّ الخلل واتسع.. وَهَنَ البناءُ وتداعى، إلى أن ينهارَ كله دفعةً واحدة، أو يتماسكَ إلى حدٍ ما بالترقيع، فيكون بحكم البناء المنهار المتداعي، لكنه ينتصب خادعاً مَن ينظر إليه، وفي هذه الحالة هو أخطر على الأمة من البناء المنهار، الذي يستدعي إعادة بنائه من قبل الحريصين المخلصين، في الوقت المناسب!..
الإنسان المسلم هو اللبنة في بناء المسلمين وأمّتهم.. وبناؤه بناءً جيداً صحياً سليماً.. سيؤدي إلى قطع نصف الشوط لقيام بناءٍ قويٍ متكامل، وعماد بناء الإنسان المسلم هو (الأخلاق) الإسلامية الحسنة.. فحُسن الخُلُق، هو الأساس الذي يؤدي إلى لبنةٍ سليمةٍ قويةٍ متينة.. والأساس لتحقيق الشرط الثاني من شروط البناء القويّ المتماسك المتراصّ، ذلك الشرط هو (كما ذكرنا آنفاً): (قوّة الروابط بين اللبنات)، أي بمعنىً آخر: تحقيق قوّة العلاقات والروابط بين الإنسان المسلم وأخيه المسلم الآخر ضمن النسيج الاجتماعي للأمة المسلمة!..
لذلك لا بد لنا أن نذكِّرَ ببعض معالم (حُسن الخُلُق)، الذي يجب أن يتحلّى به كل فردٍ منا، ليكون عند حسن ظنّ إخوانه به، وعند حسن ظن أمّته به كذلك!..
(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:34و35).
تدبّروا في الآيتين السابقتين جيداً، لتستمتعوا بعظمتهما وعظمة كلمات الله عز وجل!.. فما يُستنتج من قول الله العظيم هو:
(.. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: من الآية 134).
إنهم الذين يتخلّقون بالإحسان، ويقابلون إخوانهم بالعفو والرحمة!..
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتّقِ اللهَ حيثما كنت، وأتْبِع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُهَا، وخالِقِ الناسَ بِخُلُقٍ حَسَن) (الترمذي).
* * *
* * *
أولاً: حُسن الخُلُق .. لماذا؟!..
يقول إبراهيم عليه السلام -كما جاء في محكم التنـزيل-:
(رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الممتحنة:5).
أي: لا تجعل فعلي يخالف قولي.. فأكون فتنةً للكافرين.. الذين –عندئذٍ- سيُعرِضون عن الإيمان بك!.. فأكون أنا السبب في ذلك، لأنني لا ألتزم (عملياً) بما أبشّر به (نظرياً)!..
لذلك، لنجاح دعوة الدعاة إلى الله.. ينبغي أن يكونوا على وعيٍ تامٍ بهذه الحقيقة، فأنت قد تمضي السنين الطويلة لدعوة الناس إلى الإسلام وإلى الالتزام به، لكنّ موقفاً واحداً عملياً غير لائق تقوم به، قد يأتي على كل ما بنيته!.. وبالعكس، قد يكون لموقفٍ واحدٍ أو سلوكٍ واحد عمليٍ حميدٍ دالٍّ على مطابقة عملك لقولك.. قد يكون له أثره العظيم في بناء صرحٍ ضخمٍ قد لا تتوقّعه، وفي زمنٍ قياسيّ!..
(قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فلانةٌ تقوم الليلَ وتصوم النهارَ وتؤذي جيرانها، قال: دَعوها، إنها من أهل النار) (متفق عليه).
3- لأنّ غايات الإسلام وأهداف المسلم شريفة سامية، فلا بد أن تكونَ وسائلُ الوصول إليها ساميةً شريفة:
فلا يجوز مطلقاً، ولا يمكن.. أن يصلَ المسلمُ إلى هدفه السامي بوسيلةٍ خسيسةٍ أو وضيعة.. وعماد ذلك كله.. هو حُسنُ الخُلُق!..
4- لأنّ الله عز وجل أمرنا بِحُسن الخُلُق، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك:
ثانياً: مصادر الخُلُق الحسن
1- الإيمان بالله عز وجل، والخشية منه، واستشعار رقابته سبحانه وتعالى:
فعندما يعيش المسلم المؤمن بالله، أجواءَ الإيمان به، ويستشعر داخل أعماقه -في كل لحظةٍ من حياته-أنّ الله سبحانه وتعالى يراقبه، ويراقب كل حركاته وسكناته، ويعلم السرّ وما تخفي الصدور.. فسيكون لذلك أثره العميق، في صقل النفس البشرية، وتهذيبها، واختيارها لطريق الخُلُق الحسن مع عباد الله الأقربين والأبعدين!.. وقد رُوِيَ في الأثر [أنّ الخليفةَ الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بغلامٍ يرعى الغنم، فقال له: بِعْني واحدة، فقال الغلام: إنها لسيدي، فقال عمر: بعني إياها وخذ ثمنها وقل لسيدك: أكلها الذئب (أراد الفاروق أن يمتحنَ الغلام)!.. فقال الغلام: فأين اللهَ يا سيدي؟!.. فبكى عمر رضي الله عنه، واشترى الغلام من سيده وأعتقه قائلاً له: هذه الكلمة أعتقتك في الدنيا، وأسأل الله أن تُعتِقَ رقبتكَ يوم القيامة]!..
2- القرآن الكريم :
فأنت مثلاً: مهما ألقيتَ على أولادك في بيتك المواعظَ والدروسَ بأن يبتعدوا عن الغيبة والنميمة مثلاً، فلن يكونَ لمواعظك أي أثرٍ، حين يجدونك تقترف هذا الذنب ولو مرةً واحدة، بل سيفعلون مثلك إن لم يسبقوك في اقتراف هذا الذنب الكبير!..
يقول الله عز وجل في محكم التنـزيل:
(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (الممتحنة: من الآية 4).
4- الخوف من عذاب الله عز وجل في اليوم الآخر :
[.. وبعد أن أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحدّ على (ماعز)، سمع رجلين يقولان: ما أحمق ماعزاً، ستره الله ففضح نفسه!.. فأنّبهما عليه الصلاة والسلام، ثم قال: (.. إنه الآن لمنغمس في أنهار الجنة)!..].
5- استشعار قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته :