تمهيد: يعد تفسير (جامع البيان عن تأويل آي القرآن ) لأبى جعفر محمد بن جرير الطبري، من أعظم التفاسير وأفضلها، “وهو من وجهة نظري كتاب في التفسير لا يدانيه كتاب آخر في هذا الفن، بل لا يستغني عنه باحث في سائر العلوم الشرعية والعربية، فهو بحق أم أمهات المراجع بلا منازع” ابن جرير ومنهجه، ص 7. وفي هذا المقال نقدم تعريفاً موجزاً بصاحب هذا التفسير، وبمنهجه، وثناء العلماء عليه. من هو ابن جرير الطبري: هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري. هذا ما ذكره الخطيب البغدادي، وياقوت الحموي والذهبي وغيرهم. واتفق كل من ابن النديم وابن خلكان والصفدي على أن جده الثاني اسمه (خالد بن غالب) وليس (كثير بن غالب). وقد كني بأبي جعفر تعظيماً لشأنه، جرياً على عادة العرب في تكنية ساداتهم، ولم يكن له في الحقيقة ولد يكنى به، بل لم تكن له في حياته كلها زوجة، فقد قال عن نفسه: “ما حللت سروالي عن حرام ولا حلال قط” معجم الأدباء، لياقوت، ج 18، ص 155. وقد كان رحمه الله تعالى يعتز بهذه الكنية، فيقول كثيراً في تفسيره: (قال أبو جعفر) والجعفر في اللغة هو النهر الملآن أو النهر الكبير الواسع. مولده ووفاته: ولد رحمه الله في أواخر العام الرابع والعشرين بعد المائتين من الهجرة 224هـ، أو أوائل الخامس والعشرين.، وهو ما يوافق عام 839م أو 840م. وتوفي رحمه الله تعالى في 310هـ . وقد ولد بمدينة (آمل) عاصمة إقليم طبرستان، وأكبر مدينة في سهلة، ولهذا لقب بالطبري ونسب إليها. أوصافه الجسمية: كان الإمام الطبري مديد القامة، نحيف الجسم، أسمر اللون إلى الأدمة، واسع العينين، كبير اللحية، توفي ولم يمتلئ رأسه بالشيب، وسواد لحيته غالب على البياض. صفاته وأخلاقه: تميز رحمه الله تعالى عن كثير من معاصريه بالزهد والورع، والحلم والسخاء، وإنكار الذات، وصدق الحديث، فقد عاش رحمه الله عازفاً عن الدنيا، “مكتفياً بما كان يرد إليه من حصته في مزرعته خلفها له أبوه” طبقات الشافعية، ج 2، 137. وصفه عبد العزيز الطبري فقال : “شديد التوقي مما لا ينافي التدين والورع، وكان على قسط عظيم من النزاهة” معجم الأدباء ج 18. علمه ومكانته: نشأ الطبري في بيت علم، وبيئة دينية، حرصت على حفظ القرآن، وتعلم اللغة العربية، فقد “حفظ القرآن الكريم في السابعة، وصلى بالناس في الثامنة، وكتب الحديث في التاسعة”! معجم الأدباء ج 18، ص 50. وهب ابن جرير الطبري نفسه للعلم، وقصر عليه جهده طوال حياته، وجاب في طلب العلم البلاد شرقاً وغرباً، من طبرستان إلى الشام، ثم إلى مصر، ثم إلى بغداد حيث طاب له المقام حتى لقي ربه عز وجل، “وكان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنحوي الذي لا يعرف إلا النحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب” معجم الأدباء ج 18، ص61. قال الخطيب البغدادي عنه: “وكان أحد أئمة العلماء، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره” تاريخ بغداد، ج2 ، ص 163. وقال أبو علي الحسن بن علي الأهواري المقرئ في كتاب الإقناع: “كان أبو جعفر الطبري عالماً بالفقه والحديث والتفاسير والنحو واللغة والعروض، له في جميع ذلك تصانيف فاق بها على سائر المصنفين، وله في القراءات كتاب جليل كبير… ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ، وعلل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها عن المشهور” انظر: معجم الأدباء لياقوت ، ج 18، ص 45. وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: “كان ثقة، صادقاً، حافظاً، رأساً في التفسير، إماماً في الفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفاً بالقراءات وباللغة، وغير ذلك” ج 6، ص 270. وقال السيوطي: “إنه جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظاً لكتاب الله، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عالماً بأحوال الصحابة والتابعين، بصيراً بأيام الناس وأخبارهم” طبقات المفسرين، ص 30 وقد عاش الإمام الطبري في أزهى عصور العلم والمعرفة، وهو القرن الثالث، وأدرك من القرن الرابع عقده الأول، وفي هذا العصر كانت قد استقرت دعائم المذاهب الأربعة، وكثرت مؤلفاتها، ووضعت كتب الحديث الستة، وانتهت مؤلفات القراءات إلى غاياتها، وجعلت روايات التفسير تشرق وتغرب، وظهر التفسير بالرأي، ونضجت علوم اللغة، وبرزت مذاهبها وكثرت مؤلفاتها، كما وضعت في هذا العصر كتب السيرة والمغازي والفتوح، إلى غير ذلك من العلوم. وقد التقى الطبري بعلماء الحديث في عصره، وعلى رأسهم أبو كريب، كما تلقى ببغداد فقه الشافعي عن الحسن بن محمد الصباح الزعفراني وأبي سعيد الاصطخري، ، وتلقاه بمصر عن الربيع بن سليمان، وإسماعيل بن إبراهيم المزني، محمد بن عبد الله بن الحكم وغيرهم. ، كما تلقى فقه المالكية عن تلاميذ ابن وهب بمصر، ودرس القراءات ببغداد على أحمد بن يوسف الثعلبي، ورحل إلى بيروت فلقي العباس بن الوليد المقرئ فقرأ عليه القرآن كله برواية الشاميين، ولقي بمصر يونس بن عبد الأعلى الصدفي، فاخذ عنه قراءة حمزة وقراءة ورش. ومن شيوخه في النحو والأدب واللغة: أحمد بن يحيى تعلب إمام نحاة الكوفة في عصره، وقد شهد ثعلب للطبري بالتبريز في النحو الكوفي. هؤلاء عدد من الأعلام الذين أخذ عنهم الطبري علومه وثقافته الحديثية والفقهية واللغوية. وكان الطبري أولاً شافعياً، ثم انفرد بمذهب مستقل، وأقاويل واختيارات، وله اتباع ومقلدون، وله في الأصول والفروع كتب كثيرة، غير أن مذهبه لم يقدر له الانتشار. انظر طبقات المفسرين للسيوطي، ص 30 وقد ظهرت مواهبه العالية ظهوراً واضحاً في تفسيره الكبير الجامع لكل ما يحتاج إليه المسلم في فهم كتاب الله تعالى، مما جعل له ولكتابه مكانة علمية فريدة بين العلماء في عصره بوجه خاص، وفي العصور التي جاءت بعده بوجه عام. هذا بالإضافة إلى مصنفاته الأخرى في العلوم التي برع فيها: ومن أبرزها: – تاريخ الأمم والملوك، وهو أوفى عمل تاريخي بين المصنفات التاريخية. – تهذيب الآثار، ذكره بهذا الاسم الخطيب البغدادي وابن النديم، وقال ياقوت الحموي: “وكتاب سماه تهذيب الآثار لم أر سواه في معناه، لم يتمه”. – رسالة البصير في معالم الدين وهو في مذاهب أهل البدع، ذكره ياقوت. – وكتاب القراءات، وأشار إليه الطبري في تفسيره.
ابن جرير الطبري وتفسيره (جامع البيان) 1/2
المقال السابق