بإعلان الرئيس السوري بشار الأسد سحب قوات سوريا من لبنان علي مرحلتين : إلي البقاع أولا ثم الحدود الدولية مع لبنان ، تكون سوريا قد ضربت عصفورين بحجر واحد ، فمن جهة ، استجابت لقرار مجلس الأمن رقم 1559 ضما وسحبت فتيل الموقف المشتعل مع أمريكا ، ومن جهة أخري رمت الكرة في ملعب القوي السياسية اللبنانية كي تجرب وتختار بين السوريين أو “الإسرائيليين” الذين يقفون علي الأبواب ويسعون لإشعال لبنان بحرب أهلية وضرب المقاومة !! .
فالرئيس السوري – الذي يدرك أن الهدف هو راس سوريا وحزب الله وايران معا – اختار بعناية الانسحاب علي خطوتين ، مع تحذير اللبنانيين من أنهم هم الخاسرون في النهاية ، لأن أمريكا و”إسرائيل” تستهدفان المقاومة وحزب الله في جنوب لبنان كي يمكنهم فرض اتفاق سلام غير متوازن يخرجون به لبنان من معادلة المقاومة ، وأن عليهم أن ينفذوا بقية القرار 1559 الذي ينص أيضا على “حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها”، و”بسط سيطرة حكومة لبنان على جميع الأراضي اللبنانية” .
بل أن بشار كان أكثر وضوحا في تحديد السيناريو الذي ترسمه واشنطن وتل ابيب للبنان ، في صورة استدراج لبنان لاتفاق سلام ، وتصفية من يقفون في وجه المصالح الأمريكية و”الإسرائيلية” في المنطقة وتجاهل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ، حين حذر اللبنانيين من أن المراد هو “إبرام سلام منفرد مع إسرائيل” ، وكان أكثر وضوحا في كشف وجود بنود خفية ” ليس في القرار 1559 ، ولكن في الاستخدامات المستقبلية هذا القرار، وأهمها القضاء على المقاومة في لبنان ، وتوطين الاجئين الفلسطينيين ” ! .
بعبارة أخري ، سعي بشار لتذكير اللبنانيين أن هدف الضغوط الغربية الحالية علي سوريا ليس مصلحة اللبنانيين ، ولكن فصل المسارين السوري واللبناني، وتدويل الوضع اللبناني لإحراج دمشق دولياً وإرغامها على إخراج قواتها من لبنان ، مما سيعطي لحكومة شارون الفرصة الذهبية للتحرك، وملء الفراغ ومن ثم قطف الثمار عبر التوقيع على اتفاق منفرد مع لبنان، على غرار ما حدث عندما احتل شارون نصف لبنان وضغط عليه وانتهي لتوقيع اتفاق مايو في العام 1983 .
وكان بشار يلوح بذلك لاتفاق 17 مايو 1983 بشأن السلام بين لبنان و”إسرائيل” الذي جري توقيعه أثناء الاحتلال “الإسرائيلي” لأجزاء عديدة من لبنان وفي غمرة الحرب الأهلية ، ولمحاولات تجاهل قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان (450 ألف لاجئ) ، وأنه في حال تمّ إخراج سوريا بالقوة من لبنان، فهذا سينعكس مباشرة على أمور ثلاثة هي: حالة المقاومة وسلاحها وحزب الله ووجود الجيش اللبناني جنوبا، وتوطين الفلسطينيين حيث هم ومنحهم الامتيازات التي تسقط حقهم بالعودة إلى بلادهم، وبالتالي إقفال أي باب لدعم النضال الفلسطيني والمقاومة بوجه “إسرائيل” .
الجزء الثاني من الخطة ضد سوريا ..جاهز
ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن الانسحاب السوري الجاري من لبنان سيكون مكسب لسوريا يقيها شر الخطط الأمريكية والصهيونية ، فأمريكا و”إسرائيل” وصفتا الإعلان السوري بأنه “غير كاف” ولا بد من انسحاب كامل دفعة واحدة ، وخطط استهداف سوريا التي هي الجزء الثاني من المخطط ، لا تزال مستمرة بدعوى أنها تساند الإرهاب ضد واشنطن (في العراق) وضد تل ابيب ( في العملية الاستشهادية الأخيرة) !.
فوزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس التي وجهت انتقادات شديدة لسورية، ووصفتها لشبكة (أي.بي.سي) التلفزيونية بأنها تمثل “عقبة أمام التغيير والسلام” في المنطقة ، وقالت بوضوح : ” إن لديها – ما وصفته بأنه- أدلة ثابتة على أن جماعة الجهاد الإسلامي الموجودة في سوريا، ساعدت في التخطيط لهجوم تل أبيب الأسبوع الماضي” وأن دمشق بالتالي لم تكن تعلم بأمر الهجمات فحسب، بل كانت ضالعة في التخطيط”.
وما قالته رايس مؤشر خطير علي نية واشنطن وتل ابيب تجاه سوريا ، خصوصا في ظل تهديد قائد الطيران الإسرائيلي بضرب سوريا لأنها تأوي جماعة الجهاد في دمشق رغم تأكيد سوريا أن هذه المكاتب مغلقه .
ولهذا جاء ما نشرته صحيفة “صاندي تايمز” اللندنية، في عددها الصادر 6 مارس 2005 بمثابة إشارة حمراء أخري ،حيث ذكرت الصحيفة إن جهات استخبارية “إسرائيلية” سلمت وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليسا رايس، فحوى محادثة هاتفية يأمر فيها زعيم الجهاد الإسلامي، رمضان شلح، بتنفيذ العملية في ملهى “هستيج” في تل أبيب، قبل أسبوع ، وهذه المحادثة هي علي ما يبدو ما عنته رايس عندما قالت، الأسبوع الماضي إن لديها “أدلة راسخة” تؤكد تورط الجهاد الإسلامي في عملية تل أبيب !!
ومعني هذا أن الانسحاب السوري ليس سوي تنازل علي الطريقة العراقية قبل أن تجتاح واشنطن العراق رغم هذه التنازلات التي قدمها صدام حسين واحدة تلو الأخرى .
ونشير في هذا الصدد إلى ملاحظة ذكرها نشطاء الانترنت عبر المجموعات البريدية وصلتني عبر البريد يقول فيها “محمد أبو النصر” الذي يتابع التفاصيل الميدانية في العراق يومياً بحكم إشرافه على تقرير المقاومة العراقية بالإنكليزية ، وهي أن 25 ألف جندي أمريكي سحبوا من العراق قبل أسبوعين تقريباً لم يعلن عن وصولهم بعد إلى الولايات المتحدة كما هي العادة، ولم تُعد لهم احتفالات العائدين من المعركة كما جرى التقليد العسكري فأين هم ؟ .
ومع أن النشطاء قالوا أن 25 ألف جندي لا يكفون لغزو سوريا، ولكنهم يكفون لغزو لبنان، خاصةً إذا تعاونت فرنسا، وإذا قدر التحالف الأمريكي-الصهيوني-الفرنسي أنهم سيلقون دعماً لبنانياً داخلياً كافياً ، فهم اعتبروا هذا مؤشراً ضمن مؤشرات عديدة علي السيناريو الذي يجري إعداده ضد سوريا وكان الرئيس بشار واضحا في ذكر أن سوريا ملمة به .
فاتجاه الضربة سياسياً يبدو أنه لبنان، وكل الضغط على إيران يصب في سياق دفعها لتقديم تنازل فيما يتعلق بحزب الله، فحزب الله هو القوة اللبنانية المنظمة الأكبر التي يمكن أن تعيق المشروع الإقليمي وترتيب الأوضاع اللبنانية الداخلية، وإسقاط لبنان يطبق الخناق على سوريا ويضعها في موقف ضعيف، لأن دمشق لا تبعد إلا بضع عشرات الكيلومترات عن الحدود اللبنانية.
والمهم بالتالي هو أن التحالف الأمريكي-الصهيوني-الفرنسي يضع سوريا الآن في حقل من التوتر المتصاعد الهادف لفرض تنازلات عليها في الملفات العراقية واللبنانية والفلسطينية على المدى القريب، والهادف لتكسير المركز الإقليمي السوري على المدى البعيد، فهذه التنازلات نفسها، لو تمت، تحسن موقف الطرف المعادي استراتيجياً .
وقبول سوريا الانسحاب من لبنان جزء من هذه التنازلات ، ولو وافقت سوريا على تفكيك حزب الله مثلاً أو على التضحية برأس المعارضة الفلسطينية وكف اليد تماماً عن الملف الفلسطيني أو على طرد البعثيين العراقيين كما أعلنت ، فإن موقفها هي يصبح أسوأ في ميزان القوى الإقليمي بأي حساب بارد .
وبغض النظر عما تبديه القيادة السورية من ليونة أو تشدد، فإن الاتجاه العام هو اتجاه التصادم مع سوريا وحلفائها في لبنان، حتى لو نجحت الدبلوماسية السورية بتأجيل ذلك الصدام مؤقتاً .
حزب الله ..العقبة الباقية
من الواضح أن الضغط علي سوريا والانسحاب السوري من لبنان هدف جوهري للتحالف الأمريكي – “الإسرائيلي” بهدف تخفيف العبء عن الجبهة الشمالية “الإسرائيلية” وتفكيك حزب الله للتفرغ لمواجهة الداخل الفلسطيني من جهة ،وتوجيه ضربات إلي إيران بدون الخشية من رد حزب الله ، ولهذا تختلف التقديرات بالنسبة لتأثير الانسحاب علي حزب الله .
فهناك من يري من المحللين أنه سيعطي حزب الله قوة أكبر على الصعيد السياسي والشعبي دون أن يتخلى عن علاقته الإستراتيجية بسوريا ، ويقولون أن حزب الله عاني كثيرا من ربط تحركاته في لبنان بالرغبات السورية في التصعيد أو التهدئة ، ما يعني أن حزب الله سيكون حر الحركة وسيسعي لملء الفراغ في لبنان كقوة سياسية وعسكرية ويلعب في الجنوب وفق مصالحه أو مصالح ايران بدون قيد سوري .
ولكن هناك وجهة نظر أخري تقول أن الانسحاب السوري الكامل من لبنان يخدم في النهاية المشروع الأمريكي و”الإسرائيلي” في المنطقة الذي يسعى إلى إضعاف المقاومة من جانب وتقوية شوكة “إسرائيل” في لبنان ، وأن الدور سيكون علي حزب الله بعدما قويت شوكة معارضي سوريا في لبنان وقوي الجناح الماروني والجناح الدرزي وضعف الجناح السني باغتيال الحريري !.
وربما لهذا تحرك حزب الله سريعا ودعا لمظاهرة تأييد لسوريا في بيروت مضادة لمظاهرات أنصار الغرب ، ربما لتعويق الانسحاب السوري النهائي وقصر الأمر علي سهل البقاع مثلا كمرحلة أولي وأخيرة ، كما تحرك للمطالبة بتحالفات أقوي بين معسكر المقاومة في لبنان خشية أن يأتي الدور عليه ، ولكنه تحرك بهدوء خشية أن يؤدي التصعيد لصدام بين الطرفين في لبنان يعيد أجواء الحرب الأهلية.
وما يدفع حزب الله إلى التحرك السريع هو أن تنفيذ سوريا لقرار مجلس الأمن في شقه المتعلق بسحب قواتها من هناك يفتح الباب لتطبيق باقي بنود قرار مجلس الأمن 1559 وهي حل الميلشيات المقصود بها أساسا حزب الله بهدف تخفيف ورقة الضغط هذه على “إسرائيل” ، وفتح الطريق أمام اتفاق سلام مفروض بقوة السلاح الأمريكية و”الإسرائيلية” علي لبنان .
بقي أن نقول أن الرئيس السوري تطرق في خطابه لقضايا شائكة عديدة أبرزها قاله ضمنا عندما هاجم الحكام العرب الذي نصحوه بالانسحاب والرضوخ وتقديم التنازلات ، حيث انتقد بعض المسئولين العرب الذين كثفوا تحركاتهم لتخفيف الضغط على سوريا و”حفظ ماء وجهها”، مؤكدا أن القوات السورية حفظت ماء وجهها بالفعل عندما نجحت في مهمتها داخل الأراضي اللبنانية بنجاحها في منع انقسام لبنان خلال فترة الحرب الأهلية ما بين عامي 1975 و1990 .
أيضا كان بشار الأسد أكثر وضوحا في التحذير من مخطط شامل للمنطقة من فلسطين واغتيال عرفات إلي لبنان واغتيال الحريري ، فالعراق وما ري فيه ، والتصعيد ضد سوريا ، في إشارة ذات مغزى إلى أن هناك مخطط واضح يجري تنفيذه حتى رغم التنازلات ، ولهذا ركز في خطابه علي أن الانسحاب من لبنان يجري وفق اتفاق الطائف لا قرار الأمم المتحدة وعاد للتصلب في قضية السلام مع تل ابيب مشددا علي أن تبدأ المفاوضات من حيث انتهت وفق مرجعية مدريد ، فلم تعد هناك خسائر أخري سيخسرها طالما أن المخططات واضحة ويجري تنفيذها !؟.
Hijri Date Correction:
1