لا شكّ أن حادثة اغتيال الحريري من أشد العمليات التي تشهدها المنطقة تعقيدا، سواء من حيث التخطيط أو التنفيذ أو القدرة وهول الكارثة، وللأسف فقد كانت العملية ناجحة بكل المقاييس وهو الأمر الذي يضفي مزيدا من الغموض على فاعلها ويخلط الأوراق على جميع الأصعدة محليّا وإقليميا ودوليا.
فعلي الصعيد المحلي:
يعتبر رفيق الحريري بحكم التوزيع الطائفي للحكم في لبنان وبالنظر إلى التركيبة اللبنانيّة شديدة التعقيد ممثّل السنّة والمعبر الوحيد عن قوتهم بعد الشيخ حسن خالد الذي تم اغتياله أيضا ورشيد كرامي الذي اغتيل أيضا، لذلك اعتبر السنة أنهم مستهدفون في هذا الإطار، وقد لحقهم ما يكفي من الضيم في هذا البلد كما قال مفتي الجمهورية الذي أحسن عندما دعا إلى ضبط الأوضاع والتهدئة.
وفي السياق الداخلي أيضا وضمن الصدام بين المعارضة والسلطة، راحت المعارضة تستغل ورقة الحريري وتتاجر بها وتشده إلى تيارها على الرغم من أنه لم يكن من هذا التيار، وقد تم الخلط في هذا الإطار عن عمد بين الذين كانوا في الحكومة السابقة التي استقالت وأصبحوا حكما في المعارضة وبين التيار المعارض المتشدد المعادي لسوريا والمتمثل في “قرنة شهوان” وانضم إليها جنبلاط، وبدأت هذه القوى تتمسّح بدم الحريري ورفع قميصه والمطالبة بدمه، وسيرتكب السنة خطأ فادحا إذا ما انجروا إلى هذا المنزلق مع هذا التيار، ولعل هذا ما أريد لهم من هذا الاغتيال.
على الصعيد الإقليمي :
تم توريط سوريا في هذه القضية واعتبارها المسئولة، واتهامها بذلك في وقت حرج جدّا بالنسبة لها وفي ظل المطالب الملحة بتنفيذ القرار 1559 حتى ولو بالقوة. في حين قامت “إسرائيل” بتلبيس سوريا أيضا هذه القضيّة.
دوليا:
برز الموقف الفرنسي الذي طالب بفتح تحقيق دولي واستنكر بشدّة ما يجري، وهو الأمر الذي يعني عدم ثقتها بالأجهزة الأمنيّة والقضائية اللبنانية وأنها تعطي العملية طابعا دوليا، وهذا يشير إلى أن الطرف الفرنسي أيضا يريد التصعيد وهو غير بريء ولا يسعى إلى فرض حلول دبلوماسية، وهذا الجهد الفرنسي للتدخل بقوة يجب أن ينظر إليه من زاوية تحسن العلاقات الأمريكية الفرنسية في الآونة الأخيرة واتفاقهما على قضايا استراتيجية لمصلحة البلدين ومن ضمنها سوريا ولبنان.
فيما قامت أمريكا على الفور بإعطاء دروس بضرورة أن يكون لبنان حرا ومستقلا وطالبت بانسحاب القوات السورية من لبنان وتطبيق القرار 1559 وهو ما يؤكد أن للعملية بعدا دوليا.
وسط هذه التصريحات غاب عن الجميع الفاعل الحقيقي لهذه العملية، ولكن نستطيع القول إن لأي عملية دائما مخططا ومنفذا ومستفيدا، فإذا لم تكن تعرف المخطط والمنفذ لهكذا عملية، عندها تستطيع أن تستنتج ذلك من خلال البحث عن المستفيد، والمستفيد من هذه العملية كما بدا حتى الآن طرفان:
الأول:
المعارضة اللبنانية التي سارعت مباشرة باتهام السلطة اللبنانية والسورية بارتكاب هذه العملية ولم تتهمهم مثلا بالتقصير كما أنها لم تنتظر التحقيقات. لكن أي محلل سياسي يعرف أن هذه العملية أضرت جدا بالسلطة اللبنانية وبالسورية وليس من مصلحتهما فعل ذلك، وإن فعلا ذلك فليس بهذه الطريقة وليس في هذا المكان في قلب لبنان السياسي والاقتصادي والسياحي، فللمكان أيضا دلالاته التي لا تخفى على أحد في هذا المجال، لأنّه إذا تدمّر مركز البلد بهذا الشكل، فماذا ستحكم السلطة إذا كانت هي الفاعلة؟ ومن؟ وماذا ستستفيد سوريا الضغوط ازدادت عليها والتهديدات توالت كما سنرى؟!.
الثاني :
الجهة الثانية المستفيدة من هذه العملية هي أمريكا و”إسرائيل” ، حيث أعلن المتحدّث باسم البيت الأبيض سكوت ماكليلان: “إن الجريمة التي وقعت اليوم هي عامل تذكير مريع بأن الشعب اللبناني يجب أن يكون قادرا على تحقيق تطلعاته وتقرير مستقبله السياسي بعيدا عن العنف والترهيب، وبحرية من دون الاحتلال السوري”، وهي تسعى الآن كما ذكر إلى معاقبة المسئول عن الانفجار بالتعاون مع الأمم المتّحدة في مجلس الأمن (المعني سوريا)، لذلك فهي تصعّد الملف في الأمم المتّحدة ومجلس الأمن ليصل في النهاية إلى حد التدخّل العسكري، ولا نستغرب إذا تحرّك حلف شمال الأطلسي في هذه المجال في ظل مطالبة كوفي أنان بتدخله في عدد من المناطق، ونستطيع أن نلمس ذلك عبر ما قاله الأمين العام للناتو “ياب دي هوب شيفر”، وأمام مؤتمر ميونخ الدولي لسياسات الأمن السبت 12-2-2005 : “يجب أن نبدأ في التفكير بشأن دور محتمل لحلف الأطلسي في دعم السلام في الشرق الأوسط”، وربط دوره بالحصول على موافقة مجلس الأمن.
في هذه الأثناء ظهرت مسرحيّة “جماعة النصرة والجهاد في بلاد الشام”، حيث تبنت هذه الجماعة غير المعروفة هذه العملية الضخمة وذات الأبعاد الدولية الآنفة الذكر، وفي هذا الإطار تبرز عدد من التساؤلات منها؟ لماذا تم تلبيس القضية لجماعة سلفيّة ووهابية كما قيل؟ لماذا تمّ الإعلان عن أنها عملية استشهادية كما قال صاحبها؟ لماذا قيل إن منفذها فلسطيني الجنسية؟ ولماذا زج باسم السعودية في هذا البيان؟ لماذا تتمسك السلطة اللبنانية بأن الفاعل هو صاحب البيان؟ ولماذا تصر المعارضة على أنها سوريا؟ من الفاعل الحقيقي؟ ولماذا شخص الحريري وليس غيره؟
بداية، كل من تابع طريقة السجال الهابط بين السلطة والمعارضة في الآونة الأخيرة والتدخلات السافرة للسفير الأمريكي في لبنان ودولته في الشؤون الداخلية والحملة الفرنسية أيضا، ومن ثم موقع الانفجار وطريقته وطبيعة الشخصية المستهدفة، يرفض تسطيح القضية ونسبتها إلى هذه الجماعة مجهولة الهوية، أما الأسباب التي تدفعنا من الناحية المنطقية إلى رفض هذا التلبيس هو:
1 ـ لا يوجد في لبنان جماعات “وهابية” كما قيل، فالمتدينون السنة في لبنان ينخرطون في الجماعة الإسلامية في معظمهم والباقي هم أفراد مبعثرون في مناطق متعددة ومن أتباع السلفية العلمية، ولم يحملوا السلاح نهائيا باستثناء جماعة”الضنية” التي كانت معروفة ومرصودة ومحدودة العدد، وأقصى ما استطاعت فعله هو استخدام “الكلاشنكوف” التقليدي.
2 ـ لو افترضنا وجود هكذا جماعة مزعومة، فالمواد المستخدمة في التفجير الهائل (350كلغ كما قيل لاحقا) والذي أحدث حفرة قطرها 9 أمتار وعمقها 4 ووصل ضرره إلى 3 كلم، تفرض على أجهزة المخابرات كشف الخلية والمواد التي تم استخدامها، خاصة أن المكان الذي تم التفجير فيه يعج أيضا بوحدات للجيش اللبناني، علما أن المعارضة كانت تشكو من هيمنة المخابرات اللبنانية والسورية في الحياة المدنية، فإذا كانت هكذا جماعة الفاعلة، فكيف لم تكشفها كل أجهزة المخابرات؟
3 ـ من الناحية الشكلية، عادة ما كانت تعلن الجماعات المسلحة في العراق مثلا أو في السعودية أو في غيرها من المناطق وعند ارتكابها لأي عملية، عن تبنيها للعملية عبر بيان مكتوب ترسله إلى أجهزة الإعلام أو تنشره على الإنترنت، ثم بعد فترة يتم شرح العملية وأهدافها في تسجيل صوتي أو مرئي، في حين أن الإعلان عن تبني هذه العملية كان سريعا جدّا، ويبدو من طريقة عرضه أنه أعد مسبقا، و نذكر أنه في مرحلة من مراحل الحرب في العراق قام أحد الهاوين الأمريكيين بشريط (وهمي) على أساس أنه من جماعة عراقية تذبح أحد الأسرى ولم يكتشف أحد أن الشريط غير حقيقي إلا عندما أعلن صاحبه عن ذلك في الصحف والإعلام ليظهر إمكانية صنع هكذا أفلام دون أن يكتشف أحد ذلك. لذلك ليس من الصعب على من قام بهذه العملية أن يأتي بشخص ملتح ليدعي أنه من قام بالعملية.
4 ـ من الناحية التنفيذية والاستخبارية، تشير العملية إلى أن الفاعل هي جهة دولية وذات قدرات فنية وتقنية عالية وليس “أبو عدس”، لأنها رصدت تحركات الحريري ومن ثم نصب كمين له، ومن ثم توقع الطريق التي سيسير عليها ثم تعطيل أجهزة الرصد الموصولة بالأقمار الصناعية وقطع خطوط الهاتف الخلوي، ثم تفجير الهدف بدقة تامة ومتناهية، فإذا كانت تلك الجماعة هي الفاعل لكانت استغلّت قدراتها في تفجير موكب السفير الأمريكي الأقل تجهيزا من موكب الحريري، أو لكانت استهدفت مراكز أمريكية وبريطانية منتشرة في لبنان وبكل سهولة بدلا من استهداف الحريري الذي لن يقدّم ولن يؤخّر (بالنسبة لهم).
5 ـ لا يجب استبعاد توقيت العملية عن المسرح، فالتوقيت جاء إثر التجاذبات الداخلية والتي وصلت إلى مستوى بذيء ومقيت وهابط في ظل استعانة بعض القوى الداخلية بأطراف دولية كأمريكا وفرنسا، وفي ظل القرار 1559، وهذا ما لا دخل لأي جماعة إسلامية فيه.
وفي إطار الإجابة على التساؤلات السابقة، نقول إن المنفذ قد ألبس القضية للجماعة المذكورة لعدد من الأهداف من بينها:
1 ـ إن الأوضاع الإقليمية والدولية قد أثرت في الشريحة السنية اللبنانية التي اندفعت كغيرها للذهاب إلى العراق لمقاتلة الأمريكيين، كما أظهر الواقع وخاصة في ظل احتكار الشيعة في الجنوب وعبر حزب الله المعادلة في مواجهة “إسرائيل” بناء على توصيات سورية، وكان الفكر الجهادي والسلفي يلقى رواجا في هذه الفترة، فتم إلباس القضية لهذه الجماعة لتنفير العامة من هذه الاتجاه و سحب البساط من هكذا جماعات قد تنشأ مستقبلا، و لاستغلال الوضع أيضا من المنظور الأمريكي، على اعتبار أن الساحة اللبنانية أصبحت مخترقة من قبل “الإرهابيين”، وهو ما يستدعي تدخلا أمريكا لمحاربته وإعطاء اللبنانيين حريتهم.
2 ـ تشويه مسيرة الجماعات المقاومة خاصة التي تحارب الاحتلال الأمريكي في العراق و”الإسرائيلي” في فلسطين وإقحامها في أمور خارجة عن أجندتها الحقيقية وأهدافها الأصيلة في دحر الاحتلال. مما دفع ببعض الجهات القتالية في العراق إلى الإعلان أن المنفّذ لا ينتمي إلى أي تنظيم جهادي إسلامي كما نشر الزرقاوي بيانا على الإنترنت ونقله تلفزيون المستقبل نفيا لأن تكون أي جماعة إسلامية هي الفاعلة وأن هناك أولويات لديها.
3 ـ لقد تمّ الكشف على أن الفاعل هو فلسطيني الجنسية، كي يدفع ذلك إلى حملة طالما تحدثت المعارضة اللبنانية عنها وتهدف إلى مزيد من التضييق على الفلسطينيين وسحب باقي الأسلحة الخفيفة الموجودة لديهم، وهو ما لن تستطع السلطة اللبنانيّة فعله، وبالتالي على قوى دولية التدخل وبالقوة لحل هذه القضية، وللإشارة إلى أن الفلسطينيين إرهابيون في سياق الخلط بين المقاومة والإرهاب، وهو ما سيتيح لـ”إسرائيل” التدخل بناء لأجندتها الخاصة.
4 ـ أيضا الإعلان على أن استهداف الحريري كان لعلاقته بالسعودية، يستهدف توريطها في لبنان وأنها سبب فيما يحصل، وهو يصب أولا وأخيرا في الحملات الأمريكية على المملكة على أساس أنها السبب في تفريخ الإرهابيين، وطالما أن المنفذ “وهابي” كما زعم فإن السعودية لا بد أن تكون موجودة في هذا الإطار، وبما أن الحريري كان على علاقة بالسعودية، فالمنفذ يفترض أن يكون “إرهابيا” كما تم التخطيط لذلك.
في هذا الإطار سارعت السلطة اللبنانية وأجهزتها إلى استغلال الفرصة وإلقاء اللوم في العملية على هذا التنظيم المزعوم (على الرغم من أنها تدرك أنه ليس الفاعل)، وذلك لاغتنام الوقت وقطع الطريق على هدف المعارضة التي تريد تدخلا من القوات الأجنبية والدولية على اعتبار أنها مستهدفة وليس هناك من حرية ولعدم تدويل القضية كما طالبت فرنسا بذلك، وبالتالي فإن هذا الخيار لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار إنهاء القضية بأسرع وقت ممكن، فجاءت هذه الجماعة كهدية، أضف إلى هذا أن المخطط لهذه العملية أراد التأكيد على أن منفذها قد مات، وأنها عملية انتحارية وذلك لأنه أصلا غير موجود فعليا، أو أنه أحد العملاء الذين قد تمنحهم المخابرات الأجنبية اسما مستعارا ويتم حمايته إلى أن تنجلي القضية على أساس أنه مات في العملية، وذلك للإيحاء بأن العملية ليست معقدة تكنولوجيا، وبهدف التأكيد على أن الجماعة هي الفاعلة، لكن الواقع يثبت عكس ذلك من خلال قطع خطوط الهاتف الخلوي والتشويش على أجهزة موكب الحريري المتطورة جدا.
أضف إلى أن مكان الاستهداف يفترض أنها إذا كانت عملية انتحارية، فهذا يعني دخول الانتحاري في وسط الموكب أو إعاقته له ثم التفجير في الوسط، وهذا ما لم يحدث لأن الطريق هي باتجاه واحد، وإما أن يكون الانتحاري أمام الموكب أو خلفه وهذا أيضا لم يحدث، مما يدل على أن المنفذ والمخطط جهة استخباراية ذات قدرات فنية وتقنية عالية جدا، وهذا ينفي ادعاء السلطة اللبنانية وتبنيها للسيناريو السابق، وإنما هي استندت إليه كي لا يطالبها أحد بالمنفذ الحقيقي وهو ما أراد المخطط لهذه العملية من السلطة فعله بطريقة غير مباشرة.
من جهتها قامت المعارضة بإلباس العملية للسلطة اللبنانية وسوريا، مما يرفضه كل عاقل، إذ إن المتضرر الأكبر من هذه العملية هي السلطة اللبنانية وسوريا، والغريب في الأمر أن “إسرائيل” كانت بعيدة عن الاتهام من قبل الطرفين، وهو ما يشير إلى أن العملية نجحت للأسف في خلط الأوراق وتوارى الفاعل الحقيقي والمخطط لها، وأرادت المعارضة استغلال الظرف لتحقيق مطالبها على حساب ورقة الحريري في اتهام سوريا بأنها وراء العملية، ولو كان ذلك صحيح لكانت اغتالت جنبلاط بدلا منه.
أما لماذا تم استهداف الحريري بالذات، نقول وانطلاقا من تصورنا للجهة المنفذة، أن دوره انتهى إقليميا ودوليا خاصة في ظل وجود أشخاص معروفي التوجه مثل جنبلاط وعون، في حين أن الحريري كان دبلوماسيا ماهرا يجمع بين مختلف الأطراف، ودوليا هناك من يرى أنه كان حياديا تجاه القرار 1559 على عكس ما قامت به المعارضة المسيحية وجنبلاط، وبالتالي كان عليه أن يقف غير الموقف الذي تبناه تجاه سوريا، أضف إلى ذلك أنه لا ينبغي إقصاء العامل الاقتصادي، حيث إن المخطط أرسل رسالة واضحة إلى لبنان في أنه سيعاني اقتصاديا بعد اليوم، وإذا لم تنصاعوا لما نريد سندفعكم للانهيار وسنتدخل حينها بالقوة وهذا ما أشار إليه موقع الاستهداف أيضا الاقتصادي والسياسي.
في كل الأحوال الذي قتل الحريري هو المستفيد من موته، وإلى الآن فالمستفيد الأكبر هي الأطراف المشار إليها سابقا، وهي الأقرب إلى التصور، خاصة أن استخدام القوة في مرحلة من المراحل ضد سوريا ولبنان يحتاج إلى كبش فداء كبير، فكان الحريري الهدف.
Hijri Date Correction:
1