ليست المملكة العربية السعودية وحدها التي تشير بياناتها وإحصائياتها الرسمية إلى زيادة ملحوظة في نسبة الطلاق , بل معظم المجتمعات العربية والإسلامية تعاني من هذه الظاهرة , وقد ساهمت عدة عوامل في نموها وانتشارها بشكل مطرد , حتى أضحت مشلكة عامة وأزمة مزمنة تحتاج إلى تضافر وتعاضد الكثير من الجهود لتشخيص الحالة بشكل صحيح , ومن ثم وضع العلاج المناسب والدواء الناجع الموجود أصلا في ديننا الحنيف .
آخر ما كشفته التقارير الصحفية عن هذه الظاهرة في المملكة العربية السعودية جاء في عناوين صحيفة عكاظ نقلا عن “مصادر موثوق بها” تقول : إن محافظة جدة تشهد 24 حالة طلاق يوميا ، تم إثباتها بصكوك رسمية ، منها 572 حالة خلال شهر محرم من هذا العام 1438 هجري.
وأكدت المصادر أن الدائرة الإنهائية بمحكمة الأحوال الشخصية بالمحافظة أرجأت الحكم في عشرات القضايا لعدم وجود العدد الكافي من القضاة، إذ لا يوجد سوى قاضيين لاستقبال تلك القضايا , و وصفت مصادر عدلية هذه الحالات بـ«الصعبة» إذا استمر تدفق طلبات الطلاق على المحكمة بتلك “النسب المخيفة”، على حد وصفها.
من جهة أخرى قال المتحدث الرسمي لوزارة العدل السعودية ، الشيخ منصور القفاري : إن عدد قضايا الطلاق في محاكم الأحوال الشخصية ودوائر الأحوال الشخصية في المحاكم للعام الماضي 2015م بلغ 35.268 ألفا , في حين تم توثيق 133.687 عقد نكاح (زواج) في العام نفسه ، مضيفا أن نسبة الطلاق للعام 2015م وصلت إلى 26.3%.
وبمقارنة هذه الأرقام الأخيرة بالتقرير الذي نشرته “عكاظ” في نهاية العام الهجري الماضي , والذي كشفت فيه وزارة العدل عن تسجيل حوالى 240 ألف حالة طلاق خلال عام 1435هـ الموافق لعام 2014م ، بما نسبته 20% من إجمالي عقود النكاح التي أجراها مأذونو الأنكحة في عدد من مناطق ومدن ومراكز وقرى المملكة خلال ذات العام (1.2 مليون عقد نكاح)….فإن ذلك يشير بوضوح إلى ظاهرة ارتفاع نسبة الطلاق بين عامي 2014- 2015م من 20% إلى 26% , وهي بلا شك نسبة كبيرة !!
وبعيدا عن دلالة هذه الأرقام على حقيقة زيادة نسبة الطلاق في المملكة , حيث اعتبر بعض الباحثين أن هذه الأرقام وإن كانت مستمدة من وثائق وسجلات وزارة العدل السعودية , إلا أنها لا تعبر عن واقع المجتمع السعودي المتمسك بأحكام الشريعة الغراء , مؤكدا أن السبب الأهم وراء هذه الأرقام الكبيرة المفزعة هو ظهور أنواع جديدة من “الزواج” كزواج المسيار وما يسمى زواج “الوناسة” ……الخ , وأن حالات الطلاق بعد الزواج العادي المعروف أقل بقليل من حالات الطلاق بعد تلك الأنواع الجديدة …..
أقول : بعيدا عن هذا النقاش فإن زيادة نسبة الطلاق في المملكة وغيرها من الدول العربية والإسلامية كبيرة بكل المقاييس , ولا يمكن القبول بها في مجتمعاتنا التي تدين بالإسلام الذي يجعل من الطلاق أبغض الحلال إلى الله تعالى , ويعتبره الحل الأخير بعد سلسلة من الإجراءات قبل الزواج وبعده دون فائدة .
كثيرة هي الأسباب التي ذكرها العلماء والباحثون والأطباء النفسيون لظاهرة ازدياد نسبة الطلاق , وإذا كان تنافر الطباع وعدم الالتقاء الفكري واختلاف الاهتمامات والذي يخلق فجوة عميقة بين الزوجين أحد تلك الأسباب كما يؤكد استشاري الطب النفسي الدكتور طارق الحبيب , بالإضافة لـ عدم التكافؤ العاطفي و اختلاف التوقعات التي يرسمها الزوجان عن الواقع للحياة الزوجية …. فإن السبب الأهم برأي الكثير من علماء الأمة والمفكرين هو الابتعاد عن التمسك بأوامر الدين الحنيف الذي يأمر أتباعه بالاختيار الصحيح الذي يعتبر الخطوة الأهم للوقاية من الوقوع في الطلاق مستقبلا .
فمن المعلوم أن مبدأ “الوقاية خير من العلاج” معمول به في دين الله بشكل واضح , ولعل في توجيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لأمته بحسن اختيار الزوج لزوجته على أسس صحيحة يعكس الاهتمام بهذا المبدأ , ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ ) صحيح البخاري برقم/5090 , كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الفتيات قبول خطبة من يرضون دينه وخلقه في المقام الأول , فقال صلى الله عليه وسلم : ( إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ ) سنن الترمذي برقم/1085 وقال : هذا حديث حسن غريب .
ولا يعني الظفر بذات الدين إغفال بقية الصفات التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في المرأة التي تنكح لأجلها , وإنما يعني تقديم صفة ذات الدين على بقية الصفات , وعدم الاقتصار على الجمال أو المال والحسب أثناء اختيار المسلم لزوجته , أو إغفال مسألة التدين أو تركها في آخر قائمة شروط الخاطب في مخطوبته كما هو حاصل في هذا العصر بشكل واضح , الأمر الذي أدى بطبيعة الحال – مع الأسباب الأخرى – إلى ازدياد حالات الطلاق بعد الزواج .
ولا يمكن أغفال مسألة ضعف معرفة المقبلين على الزواج من الجنسين بحقوق وواجبات كل منهما تجاه الآخر في دين الله الخاتم … كسبب بالغ الأهمية في زيادة نسب الطلاق في المملكة .
ومن هنا يمكن فهم مطالبة وزارة العدل السعودية المقبلين على الزواج بالالتحاق بالدورات المكثفة التي تعقد ما بين وفترة وأخرى وتقدم مجانا لتعريف الزوجين بواجبات كل منهما تجاه الآخر , للمساهمة في تقليل حالات الطلاق بالمملكة .
وفيما يتعلق بمسألة الحد من هذه الظاهرة أو التخفيف من حدتها , فهناك الكثير من الأفكار والمقترحات والوصفات , إلا أن أعظمها أثرا هي تلك التي تأمر المسلمين بالعودة للتمسك بهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم , الذي ضرب لأمته من خلال سيرته العطرة أروع الأمثلة في حسن العشرة مع أمهات المؤمنين , وهو القائل : (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي ) صحيح ابن ماجه للألباني برقم/1608 , والقائل : (لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِىَ مِنْهَا آخَرَ ) صحيح مسلم برقم/3721
ختاما يمكن القول : إن كثرة حالات الطلاق وزيادة نسبتها في السعودية والمجتمعات الإسلامية عموما هي أثر من آثار عدم تمسك المسلمين بدينهم وابتعادهم عن أوامره وعقوبة التخلي عن هديه , وفي ذلك يقول المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي : “إن التخلف الذي يعاني منه المسلمون اليوم ليس سببه الإسلام، وإنما هو عقوبة مستحقة من الإسلام على المسلمين لتخليهم عنه؛ لا لتمسكهم به كما يظن بعض الجاهلين”.