هذا كتاب انقلابي عنوانه: قصص لا ترويها هوليوود مطلقاً، تأليف هوارد زِن، وترجمة د.حمد العيسى، وتقديم بول كوخرن. صدرت طبعته الأولى عن منتدى المعارف عام (2013م)، ويقع في (192) صفحة من القطع المتوسط. ابتدأ الكتاب بإهداء عام وآخر خاص، ثم شكرٌ من المترجم لمن وقفوا معه بعد إصابته بجلطة في المخ؛ وما تلاها من شلل واكتئاب-عظم الله أجره-، وبعدها تنويهات وتعريف مختصر بالمترجم، ثم تعريف به من قبل بعض الكتاب، وأظن أن أبا ياسر قد تجاوز الحاجة إلى من يقدمه للقراء.
في تقديمه للكتاب ذكر الصحفي بول كوخرن أن هذا الكتاب مهم وجاء في الوقت المناسب، وتقوم فكرته على أن للمبدعين- وهو وصف يشمل فئات عديدة- دوراً أساسياً في أزمنة الحرب والصراع، ومع أن الكتاب خاص بأمريكا فإن أفكاره يمكن تعميمها؛ بحيث يفكر المبدعون خارج الحدود التي تضعها السلطات، وقد أسدى حمد العيسى خدمة كبيرة إلى المكتبة العربية حين ترجم هذا الكتاب الذي تزامن صدوره مع الربيع العربي.
بعد ذلك كتب المترجم عن مسؤولية المبدعين التي يراها في القيام بدور إيجابي لتطوير المجتمع ومقاومة الاستبداد، وهذه المسؤولية لا يمكن أداؤها على الوجه الأكمل إلا بسمو التفكير عن الدائرة المسموح بها من السلطة والإعلام المسمِّم للوعي، وعدم الانسياق وراء هستيريا الشوفينية الوطنية المتطرفة. وفي ختام كلمته شكر المترجم زوجه الوفية نادية بوشعيب عبد الله رقيب التي كتبت ما أملاه عليها من ترجمة يدوياً ثم طبعته حاسوبياً.
ترجم العيسى بإيجاز للمؤلف هوارد زِن(1922-2010م) الذي ولد لأبوين يهوديين، وشارك في قذف القنابل خلال الحرب العالمية الثانية؛ مما كون لديه وعياً سياسياً جعله أحد مناهضي الحروب، ثم درس التاريخ وتخصص في العلوم السياسية؛ وما أشد الارتباط بين التاريخ والسياسة! وفي عام(1980م) أصدر كتاباً غير مسبوق عن التاريخ الشعبي للولايات المتحدة منذ عام(1492م) روى فيه تاريخ أمريكا من وجهة نظر المستضعفين، وقد ترجمه للعربية الأستاذ شعبان مكاوي ونشره المجلس الأعلى للثقافة في مصر عام (2005م)، وكان زِن قد ألف كتاباً عام(1967م) عن حرب فيتنام، ولم يتجرأ أحد في أمريكا على عرض الكتاب كما قال صديق المؤلف المفكر الفذ نعوم تشومسكي.
ولهوارد زن أقوال تعبر عن قناعاته، فهو يرى أن القوة الحقيقية بيد الشعب وليس السلطة؛ لأن الأفعال الصغيرة عندما يقوم بها ملايين الناس يمكنها أن تحول العالم! ويعد معارضة الحكومة في أخطائها أهم شكل من أشكال الوطنية، ويفضح الحروب بأنها تسوغ نفسها على أنها مساعٍ إنسانية لمساعدة الناس والحقيقة أنها تؤذي الأبرياء أكثر من عقابها للمجرمين، ويرى أن تقليص حرية التعبير نتيجة مباشرة لأي حرب! ويجزم أن قول الحقيقة هو أكبر فعل ثوري يمكن للمرء أن يقوم به في عصرنا، ويصرخ مخاطباً المبدعين والمثقفين بما قاله ألبير كامو: في عالم الضحايا والجلادين: لا تكونوا مع الجلادين!
ثم يبدأ الكتاب الذي يتكون من سبعة فصول، الأربعة الأولى تمثل الكتاب الذي وضعه المؤلف وجعل عنوانه: "المبدعون في أوقات الحرب" لكن المترجم كعادته في اختيار عناوين ترجماته استبدل بالعنوان الأساسي عنوانَ الفصل الثالث الذي وضعه المؤلف:"قصص لا ترويها هوليوود مطلقاً"، لانسجامه مع فكرة الكتاب. وأما الفصول الثلاثة الأخيرة فهي حوارات مع المؤلف أضافها المترجم الذي تتجاوز أعماله مجرد الترجمة إلى خدمة المؤلف والكتاب والقارئ على أحسن وجه.
عنوان الفصل الأول: المبدعون في أوقات الحرب، وفيه ينعي تأطير قدرة المبدع في حدود إبداعه فقط؛ وحرمانه من الخوض في القضايا الكبرى والشأن العام كونها شأن مؤسسة الرئاسة فقط؛ فالحكومة هي وحدها التي تعلم، وعجبت وأنا أقرأ ذلك؛ فحتى الأمريكان يعانون من وطأة المقولة الشعبية: الشيوخ أبخص! ويقول المؤلف إن ترك حسم القضايا المهمة للحكومة فقط خطأ فادح؛ فليس المبدعون أغبياء لهذه الدرجة، وإن معرفة شيء من التاريخ تؤكد خطورة الاعتقاد بأن من يحكم البلد يعرف جيداً ماذا يفعل! وينقل عن أستاذ كبير في الإعلام أهم كلمتين يقولهما لطلابه كي يتميزوا في الممارسة الصحفية وهما: الحكومات تكذب.
وبحس المحب لوطنه يقول: إن معارضة الحكومة ليست طعناً في الوطنية، وإن ولاء الإنسان لبلده لا يقتضي سكوته عن أخطاء مؤسسات الحكومة، وينقل عن مارك توين أن الولاء للعلَم والهتاف له نوع من الولاء السخيف لقماش لا قيمة له، وعندهما أن الحكومة مصطنعة كالملابس يمكن تغييرها إن اتسخت أو خلِقَت خلافاً للبلد الذي يجب على الجميع مساندته، وأجزم أن كلامهما يجلب المغص لبعض الأبواق في إعلامنا العربي وخاصة إذا رأوا قول المؤلف المناضل: كل فرد في المجتمع يستطيع أن يفعل شيئاً، يستطيع أن يسأل أسئلة، يستطيع أن يرفع صوته!
وأما الفصل الثاني فعن المناضلة إيماغولدمان، التي تعيش حياتها كما تريد هي لا كما تفرضه السلطات، وقد قاومت هذه المرأة "القوانين التآمرية" في أمريكا التي تأخذ الناس أو حتى تقتلهم بمجرد الاشتباه دون بينة أو دليل، ومن أخطر ما قالته وأدى لاعتقالها بعد أن خطبت في جموع من العاطلين صارخة:" لا توقِّعوا عرائض..ولا تناشدوا الآخرين..ولاتزوروا نائبكم في البرلمان، بل قوموا بعمل مباشر ضد مصدر مشكلتكم"، وطريقتها تسمى العمل المباشر وهي من نتاج الفكر الفوضوي. وفي هذا الفصل إشارة لما فعله السيناتور جوزيف مكارثي(1908-1957م) في ملاحقة المتعاطفين مع الفكر اليساري في أمريكا باعتبار ذلك جريمة وخيانة وطنية، وكانت التهم تكال للمثقفين جزافاً في صورة بشعة من الإرهاب الفكري الذي انتهى دون قضاء على اليسار؛ وبقي الذم للمكارثية، وكأني بالمكارثية تتكرر هنا وهناك!
وقد أثنى على من وقفوا ضد الحرب والإرهاب الحكومي، حتى إن بعض المثقفين امتنعوا عن دفع الضرائب في موقف أخلاقي مقاوم لطغيان الحكومة، وفضح المؤلف وغيره الحجة الرسمية الجاهزة للاعتذار عن الدمار والقتل المصاحب لأعمال الحكومة الحربية، وخلص زِن إلى أنها لا تخلو من أن تكون حجة داحضة، أو نقبلها من "الإرهابيين"؛ لأن منطقهم لا يختلف عن منطق الحكومة في قتل الأبرياء وتدمير المنشآت دون قصد مباشر.
وحمل الفصل الثالث عنوان قصص لا ترويها هوليوود وفيه يخلص المؤلف إلى أن هوليوود لن تنتج أفلاماً ترفع وعي الناس، بل ستجعلهم ضمن الركب الحكومي كالعميان والصم، وذكر أن الأفلام مجدت الحروب والقتال وحسنت صورتها في فكر جيل الشباب، ثم عرج على حروب خاضتها أمريكا في المكسيك وكوبا والفلبين، فضلاً عن تعاملها مع الهنود الحمر والأفارقة السود؛ وتحدى هوليوود أن تعرض الحكاية الحقيقية لهذه الأحداث. وامتدح شخصيات عامة دخلت السجن بسبب مواقفها، وأرسل للحكومات رسالة خبير مفادها: ينبغي للحكومة أن تحذر من عدد الناس الذين ترسلهم إلى السجن، لأنها باختصار تغرس في المساجين وذويهم عداوتها، وتنزع من صدورهم هيبتها.
وجاء الفصل الرابع بعنوان: النشرات في أمريكا، وفيه إلماح إلى أهمية مخاطبة الشعب بطريقة مباشرة، ومختصرة وواضحة، وغير مكلفة مع سهولة انتشارها، ونقل عن الثورة الفرنسية أنها قامت على أكتاف "الطبقة الثالثة"؛ وهم جماهير الشعب الذين حُرموا من الامتيازات التي تمتعت بها طبقتا النبلاء ورجال الدين. وفي كلمة خالدة قال أحد المتهمين بكتابة نشرة مضادة للحكومة وهو يخاطب محلفي المحكمة: "هل يعتقد النائب العام أن المشنقة قادرة على حل خلاف فكري؟ إن الفكرة التي تعد جريمة في عصر ما ستصبح عقيدة في العصر التالي"!! وبخبرة تاريخية وسياسية يقول المؤلف: إن الفكر الراديكالي وكتابة النشرات كانا دائماً شريكين طبيعيين، فغالب النشرات ثورية المحتوى، وتطالب بتغييرات رئيسية في المجتمع.
وفي الفصول الثلاثة الأخيرة ترجمة إضافية للقاءات وحوارات مع المؤلف؛ تعبر عن مجمل فكره الذي يرفض تقديس الرئيس وفريقه، ويأبى منح الحكومة شيكاً على بياض، ويمتنع من القبول بكارثة لعلاج كارثة أخرى خوفاً من كارثة محتملة؛ لأن ذلك داخل في دائرة الظن بكارثة متوقعة وهو عنده لا يغلب اليقين البتة. ويرى هوارد زن أن الثقافة طريق آمن لمعارضة الاستبداد، ورَفْع الرأس فوق المستوى الذي حددته السلطات، وأن الواجب على المثقف أن يعبر عن موقفه لا عن موقف الحكومة.
وبما أن المؤلف قد مات وهو يدافع "ضمنياً" عن عالمنا الواقع تحت القصف الأمريكي والعدوان المسلح وغير المسلح، ولم يجد من المسلمين أو من حكوماتهم شاكراً أو مستثمراً لأفكاره؛ فلا أقل من نشر فكره داخل المجتمعات الغربية؛ والبحث عمن يحملون هذا الفكر للتنسيق معهم في حملات منظمة تخفف من توغل دولهم القوية في عالمنا المستضعف، وأما أفكاره لنا نحن أهل الإسلام فلعل المناسب منها أن يعين في استحياء الأمة، وتفعيل مبدعيها الذين آثر كثير منهم دق طبول الاسترخاء؛ وتجمير مباخر النفاق.