في خضم ما تعانيه الأمة اليوم من فتنٍ ومصائب يصيب بعض المسلمين بسببها نوعٌ من الإحباط ممزوجاً بشيء من التساؤل متى نصر الله ؟ كما أصاب بعض أتباع الرسل قديماً (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) ، ثم تجد بعض المتشائمين من أبناء جلدتنا يجهد ذهنه في استحضار صوراً عديدة من الانتكاسات التي منيت بها أمة الإسلام على مر التاريخ !
صورة تعكس مدى الإحباط النفسي الذي مني به هؤلاء ، ناسين أو متناسين وعد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين ، بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزا يعز الله به الإسلام ، وذلا يذل الله به الكفر) ، تاركين العمل و الأخذ بالأسباب ، متغافلين عن سنن الله تعالى ؛ إذ قدَّر بحكمته الباهرة،وقضى بإرادته القاهرة ، أن يُعرِّض عباده لجزيل ثوابه،وعظيم فضله وإحسانه، بابتلائهم بمحنٍ متعددة،واختبارهم بشدائدَ متكاثرة متنوعة،ليرفع لهم بذلك قدرا،ويعظم لهم في الباقية أجرا،إذ المحنة مدرسة الريادة،وأمارة الاجتباء والولاية،تزكي في أصحابها معاني اليقين،وترسخ فيهم أصول الثبات على الدين ،وهي علامة محبة من الرحمن،ورفعة من الكريم المنان، تذر صاحبها مصفَّى من أدرانه وذنوبه، مطهراً من خطاياه وعيوبه.
وحتى لا يكون الأمر مجرد موعظة عصماء ، ومعلقة أدبية تطرب لها أذن السامع ، أريد أن أسرد لك أخي الحبيب أحداث قصة قدر الله لي أن أكون حاضراً لمشاهدها ، حتى نقف جميعاً على مدى عظمة الإسلام ، وأنه يملك مقومات النصرة ، لكن أين بنوه؟!
في نهاية العام الدراسي(32-1433هـ) عرض على الجامعة المشاركة في برنامجٍ حواري يحضره ممثلين من عدة جامعات في الولايات المتحدة الأمريكية ، فرشحت مع مجموعة من الأساتذة للمشاركة .
في بادئ الأمر ترددت كغيري لكن لما رأيت أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم -وهو الداعية الأول- أنه يتغشى المشركين في أنديتهم ، ضارباً أكباد الإبل ليصل إلى أسواقهم -كسوق عكاظ-؛ مبلغاً حجة ربه . وأن القضية ليست في ذات الحوار بل القضية تكمن في المسلك الذي يسلكه المحاور ؛ فإن كان قد دخل للحوار بنفسية مهزوزة مستلبة كان في حضوره مغرماً ، وإن كان حضوره مبنياً على ثقته بدينه وتبليغاً لرسالة ربه كان حضوره مغنماً .
فعزمت أمري ، واستعنت بربي ، مستحضراً قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) ، فالقوة في الآية القرآنية جاءت نكرة ، وهي تشير إلى العموم ، خصوصًا مع دخول ( من ) عليها ، وكأن المعنى : أعدوا لهم أي قوة تستطيعون بها إرهاب عدو الله وعدوكم ، فشرعنا بالإعداد لهذا المؤتمر لاسيما وسيحضره من كبار دهاقنتهم سواء على المستوى الفكري أو الديني ، جاءت ساعة الصفر تجمع الركب ميممين شطر ” بنسلفانيا ” إحدى ولايات أمريكا ، استغرقت الرحلة أكثر من عشرين ساعة ، وصلنا بحمد الله وتوفيقه بعد رحلة مضنية ، فلما وصلنا إلى مكان الفندق وصلنا اتصالٌ يخبرنا بأن موعد اللقاء برئيس ” مركز الحوار ” سيكون غداً قبل افتتاح حلقة المناقشة ، وبالفعل في تمام الساعة الثامنة والنصف من صباح الغد أتى السائق فأقلنا إلى جامعة “تمبل” فلما وصلنا كان في استقبالنا رجلٌ طويل القامة قد بلغ من الكبر عتيَّا-83سنة- قد سقط حاجباه على عينيه ، فقيل لنا هذا هو البروفسور رئيس المركز ، فاستقبلنا بحفاوة ، ثم بدأ يسألنا واحداً واحداً عن تخصصاتنا ، واهتماماتنا ، ووقر في نفسي أنه يريد أن يقيِّم الحضور حتى يعرف كيف يصوغ خطابه في الغد ، ثم عرَّفنا بنفسه – ويظهر لي أنه إن لم يكن أكبر المستشرقين في الولايات المتحدة فهو من كبارهم- وذكر أن له أكثر من ستين مؤلفاً في الحوار بين الأديان ، انتهى اللقاء وودعنا مؤكداً على ضرورة الحضور المبكر لبداية حلقة المناقشة في الغد.
وفي الصباح في تمام الساعة الثامنة بدأت فعاليات حلقة النقاش حيث افتتح اللقاء البروفسور بالتعريف بالمركز ونشاطه ، ثم بدأ شيئاً فشيئاً يبين أن الحق متعددٌ ، وأن أصحاب الأديان لا بد أن يستوعب بعضهم بعضاً ، وبدأ يلقي الشبهة تلو الأخرى في كلامٍ طويلٍ ، إلا أن الملاحظ أنه في خلال إلقائه كأنه يُنَظِّرُ لفكرة مسلمة ولا يسع الحضور إلا التسليم بها و العمل بمقتضاها ، فلما انتهى من إلقاء ورقته ، تتداخل معه أحد الإخوة وبدأ يفند قوله وينقض أصوله ؛ وذكر له بأن ما قاله لا يعدو عن ترديدٍ لمقولة الفيلسوف ( اسبينوزا) في قوله بنظرية (نسبية الحقيقة) ، وأن هذه النظرية كما أن العقل يكذبها فكذلك الواقع ، فجاء على كلامه من أصوله ونقض بنيانه من قواعده ، فلما انتهى الأخ من نقض كلامه لم يسع البروفسور إلا أن يعلن أن كلام هذا المداخل حق وأن هذا الأخ المداخل (فيلسوف) ، ومكانه ليس هنا بل أستاذاً في جامعة ” تمبل ” !!
وانفتح النقد والنقاش على مصراعيه ، فلا يأتي بشبهةٍ إلا ويأتيه الرد بها من قبل المشاركين غير منقوص ، والبروفسور يظهر لي أنه لم يتوقع مثل هذه الإجابات فرأيته يجمع بين كفيه وقد احمر وجهه ، لا سيما وقد أصبحت نظريته وكلامه أثراً بعد عين.
لم يستطع البروفسور من مجابهة تلكم المشاركات ، فأخذ يلملم أفكاره التي تم بعثرتها على طاولة الحوار ، معلناً انتهاء لقاء اليوم .
وفي الغد أخبرنا أن حلقة النقاش ستكون بحضور رجال الكنيسة ” البروتستنتية ” وسيكون اللقاء في كنيستهم ، تم عقد اللقاء بحضور قساوستها ومؤرخو الكنيسة ، وبدأ أحد الإخوة بإلقاء ورقته وبيانه لحقيقة الحوار في الإسلام في أسلوبٍ أُعْجِبَ به الحضور وبعد انتهاء ورقته ، تمت المداخلة من قبل القساوسة وبدأت النقاشات في جوٍّ غلب عليه الموضوعية -وهذا ما لم نره في غير هذه الكنيسة – ، وبعد انتهاء الحوار أعلن أحد القساوسة أمام المؤتمرين – وهو مؤرخ الكنيسة- بأن الدين الإسلامي حق ٌوهو أكثر الأديان السماوية وضوحاً ، فكبر الإخوة فرحين .
ثم شارك أحد طلاب الدراسات العليا من جامعة ” تمبل ” وهو أحد أفراد الكنيسة بقوله: ( لم أكن أعلم بواقع الإسلام إلا الآن ، وأنا أؤمن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً كغيره من الأنبياء ، وأرغب زيارتكم في بلادكم للوقوف أكثر على الإسلام ) فانهالت عليه أرقام الإخوة وكل واحدٍ يريد أن يستضيفه ، انتهت الجلسة وشعرنا جميعاً بنوعٍ من الرضى .
وفي الغد كان اللقاء مع أحبارٍ من اليهود ، فلما عقد اللقاء طلب مؤرخ معبدهم من المشاركين وضع الطاقية اليهودية من باب تقدير دينهم زاعماً بأنهم إذا أرادوا دخول مساجد المسلمين يضعون أحذيتهم خارج مصلياتهم احترماً لشعائرهم !
فأجبناه بأن وضع الحذاء سلوك تواضع عليه الناس ، أما وضع الطاقية فهو شعار اليهود ونحن لا نقبل أن نرتدي شعار دينٍ يخالف ديننا ، فقال : أتفهم ذلك .
فلما جلسنا عرَّفنا بأحد اليهود وهو أستاذ جامعي متخصص في علم مقارنة الأديان قد جيء به خصيصاً من جامعة ” جورج واشنطن ” لحضور اللقاء .
بدأ مؤرخ اليهود في سرد بدايات دخول اليهودية إلى أمريكا ، وبداية إنشاء معبدهم ، ثم أزال الستار عن مخطوطات قديمة قد لُفَّت بأعمدة من الفضة ، وذكر أنها لفائف تاريخية من الكتاب المقدس – التوراة- بعضها يعود إلى القرن الخامس الميلادي وبعضها قبل ذلك ، ثم بدأ يضفي عليها هالة من القداسة ، وأنه لا يجوز لأحدٍ أن يمسها أو أن يقرأ منها إلا ” الحبر الأعظم ” وهو غير موجود الآن ، فلما انتهى من شرحه سألته سؤالاً وأنا أقصد ذلكم السؤال ، فقلت له : هذه النسخة القديمة مترجمة من النسخة (الماسورية أم السبعينية)- فالتوراة باعتراف مؤرخي اليهود قد فقدت سبع مرات ولم تدون إلا بعد عشرة قرون من وفاة موسى عليه السلام، وبالتالي هذه النسخ الموجودة اليوم ماهي إلا كتباً لا إسناد لها باعتراف مؤرخيهم ، فيكون المترجم عنها بالتالي لاقيمة له- فلما سمع هذا السؤال انتقع وجهه وتلعثم وحاول أن يطرح موضوعاً آخر ، فأعدت السؤال عليه ، وقلت له لم تجب ؟ فانطلق مسرعاً تجاه الدكتور الذي أوتي به من جامعة جورج واشنطن وهو يقول أن لا أعلم شيئاً وأنا مجرد مؤرخ ، ولعل الإجابة تكون حاضرة لدى الدكتور ، فالتفت إلى ذلكم المتخصص فأعدت عليه نفس السؤال ، فنظر إليَّ وهو محبط قائلاً ترجمت عبر النسخة ” الماسورية ” ، قلت الآن أكمل شرحك .
ولا شك بأن هذا السؤال سيهدم الأرضية التي يريدون الانطلاق منها ، وهذا السؤال جعل طرحهم لجميع القضايا فيما بعد يشوبه نوع من الفتور ؛ إذ أن أصولهم التي ينطلقون منها فاقدة للمصداقية من منظور علمي أكاديمي ، وبالتالي كل قضية تطرح من قبلهم تكون مهزوزة ؛ لانهزاز الأصل الذي بنيت عليه .
تحدث الدكتور اليهودي وبدأ يسرد حقيقة الدين اليهودي وأنهم شعب الله المختار…الخ ، وبعد انقضائه بدأت المناقشات ، وسلك أحد المشاركين معه مسلكاً علمياً رائعاً وهو مسلك الإلزامات ، وذلك عن طريق تقريره ببعض المسلمات لكي يأخذه بها شيئاً فشيئاً حتى يصبح أمامه أحد طريقين إما القبول أو الرفض وفي كلا الحالين ينتقض مذهبه .
فلما وصل به إلى نقطة الإزام أحرج الدكتور اليهودي إحراجاً شديداً ، وخروجاً من مأزقه أتى بقولٍ لم تقل به أمة اليهود عبر التاريخ ، وهو الزعم بأن جميع أتباع الأديان في الجنة!
بعد ذلك لم يجد ذلكم الدكتور اليهودي بداً من إنهاء كلامه بسرعة البرق ، ثم الاستئذان.
انتهت جولة اليوم باعترافٍ صاخبٍ عن طريق أكبر مرجعٍ لهم بأن الإسلام وأهله مقبولون عند الله تعالى ، وهم على حقٍ ، وهم من أهل الجنة ؟!!
كانت الجولة الأخيرة مع نصارى لكن من نوعٍ خاص ، نصارى يطلق عليهم ” الأمش ” لايرون ركوب السيارات ولا الوسائل الحديثة ، ولولا الضرورة لم يدخلوا جهاز الهاتف ، ولكن خروجاً من الحرج الديني لديهم وضعوا جهاز الهاتف في كوخٍ صغير خارج المنزل !
تم استقبالنا من قبل رجال الكنيسة ، وتم النقاش ، والعجب أنهم خلال عشرين دقيقة تقريباً أعلنوا إفلاسهم ، حتى أن رئيس الكنيسة لما سئل من قبل أحد الإخوة سؤالاً عقلياً دقيقاً عن حقيقة المسيح عيسى u نظر إلى السقف متأملاً دقيقة ، ودقيقتان ، وثلاثة دقائق !
فقال حقيقة لا جواب لدي .
فقلنا له : إن هذا السؤال يجيب عنه أحد طلاب المرحلة الابتدائية لدينا ؛ لأن ديننا لا تشوبه القضايا الفلسفية ، وليس لديه خصومة مع البدهيات العقلية.
فأحرج إحراجاً شديداً ، وتدخل البروفسور تدخلاً سريعاً يريد إنقاذ الموقف ، فجوبه بثورة – من جنس الثورات العربية- تطلب منه عدم التدخل ، والأخذ بالحياد حتى نخلص من المناقشة ، فعاد إلى مقعده و قد أصابته الحيرة .
قام أحد الإخوة بعد ترشيحٍ من قبل الوفد بشرح عقيدة المسلمين تجاه عيسى عله السلام ، بأسلوبٍ يقبله المنصف .
وبعد انتهاء اللقاء عدنا إلى مقر الإقامة ، وقد كنت أتأمل فيما جرى من أحداثٍ ، فهذا بروفسور قد أمضى جُلَّ وقته في التأليف قد أُلجم مع أول لقاء به ، وذلكم القس الذي غزى الشيب رأسه يعترف أمام الجميع بأفضلية الإسلام على جميع الأديان السماوية ، وذلكم الشاب الذي أصبح محمداً صلى الله عليه وسلم في نظره نبياً من الأنبياء بعد أن لم يكن .
كل تلك الأحداث جعلتني أردد في خلجات نفسي قائلاً( كم نحن مقصرون!!) ، لذلك قمت من باب الشعور بالمسؤولية بصياغة بعض التوصيات التي أرجو أن يكون لها آذانٌ صاغية لدى بعض المسؤولين .
التوصيات :
1. ينبغي على الجامعات إنشاء أقسام متخصصة للعناية بعلم مقارنة الأديان ، وتهيئة خريجين يأخذون على عواتقهم نشر الإسلام وتبليغه ، ولم أكن أتصور يوماً أن الإسلام لم يبلغ إلى دولة كحجم الولايات المتحدة إلا بصورة محرفة ! فالبعض يعرف الإسلام مقروناً بالإرهاب ، والبعض الآخر يعتقد أن المسلمين يعبدون رجلاً يقال له محمداً …وغير ذلك من التصورات المغلوطة ، فأين المسلمون ؟!
2. ينبغي على وزارة الشؤون الإسلامية تهيئة دعاة يخوضون هذا المجال ، ويتعلمون اللغة الإنجليزية حتى يستطيعون توصيل حقيقة الإسلام كما يجب ، وهذا الدور في رقاب القائمين على هذه المؤسسة المباركة . وقد التقيت برجل من أوربا قد أسلم قبل حوالي عشر سنين ، وتعلم شيئاً من العلم الشرعي ، وقد دخل على يديه ما يزيد على عشرة آلاف ، وعقدت له جلسة مع أحد كبار المشايخ فقال ذلكم الشيخ كم نحن مقصرون؟!
3. من السهل جداً على الداعية المتخصص أن يرفض المشاركة بمثل هذه المؤتمرات ويقول : السلامة لا يعدلها شيء ! لكن من الصعوبة بمكان الاحتساب في ذلك ، وحشد الجهد والوقت والتخطيط لنصرة الإسلام وإعلائه والذب عنه لا سيما مع التشويه المستمر له ، والمرء مجتهد فإن وافق اجتهاده صواباً أجر مرتين ، و إن وافق ذلك خطأ أجر مرة واحدة.
4. إن قضية الحوار بين الأديان والحشد الإعلامي الكبير لها مع عزوف بعض دعاة المنهج الحق عنها له خليقٌ بالنظر والتأمل من قبل أهل العلم والفضل : هل من المصلحة ترك الدخول بهذه المؤتمرات بحيث يدخل بها من أصحاب التوجهات والنفسيات المنهزمة فيمثلون الإسلام وأهله شئنا أم أبينا ، أم الأولى أن نكون أصحاب مبادرة وندخل بها ونبلغ دين الله تعالى كما أمرنا ربنا -من غير تنازلٍ عن ثوابتنا -، ولتكن الممانعة عن دخول وسائل الإعلام المرئية قديماً ثم الانكباب عليها حديثاً درساً لنا .
وأخيراً: أجزم أن هذه اللقاءات المتكررة إن لم تكن سبباً لهداية بعض الحضور ، فقد أزالت كثيراً من القناعات السلبية تجاه الإسلام وأهله .
جعلنا الله وإياكم مباركين أينما كنا ،،،