ما سجد لله سجدة واحدة قط , ولم يكن يكتفي بذلك , بل كان يجاهر بالمعاصي , إذ لا يمر يوم إلا ويحتسي فيه الخمرة ( أم الخبائث ) وما خفي كان أعظم , لكن النزعة الإنسانية كانت لاتفارقه , فعلاقاته مع أهله وجيرانه وأصدقائه وأهل حيه
( باب السباع ) طيبة , فها هو ذا يفرح لفرحهم , ويحزن لحزنهم , وكثيراً ما كان يحمل من يراه في الطريق من العجزة والفقراء منهم بشاحنته الصغيرة من نوع
( سوزوكي ) يحملهم إلى حيث يريدون دون أجرة .
وهذه الشاحنة الصغيرة كان قد اشتراها بكد اليمين وعرق الجبين , منذ سنوات عدة , لتكون عوناً له على إعالة أسرته , هكذا كانت حياة ( أبو العز ) قبل انطلاق الثورة السورية , ولكن حياته سرعان ما تغيرت عندما كان عائداً من العمل , فقد أوقفه بعض المتظاهرين , وطلبوا منه أن يحمل اثنين من رفاقهم الجرحى إلى أحد المشافي الميدانية , فقام على الفور بالمساعدة , وانطلق بهما مسرعاً , لكن الآجل المحتوم كان قد وافاهما قبل الوصول .
تأثر بما رآه , أخذت دموعه تتساقط , أخذ يتساءل : شابان في عمر الزهور لاذنب لهما سوى التظاهر يطلق عليهما الرصاص . قال في نفسه : ما هذه الوحشية ؟ … تذكر الموت الذي لم يكن يحسب له حساباً. عندما رجع بهما سمع عويل الأمهات والأخوات , ورأى بأم عينيه دموع الآباء والإخوة والأصدقاء والجيران , عادت به الذاكرة إلى أنه سيلقى مصيره المحتوم في قادم الأيام , وسيبكي عليه الأهل والأصدقاء … لم يذهب إلى بيته , انتظر التشييع , وها هم أهالي حي باب السباع يأتون من كل حدب وصوب ليشاركوا في مراسم الدفن ….. صلى معهم صلاة الجنازة لأول مرة … استمع إلى كلمة ألقاها شيخ الحي أنس السويد , كانت كلمة مؤثرة أعادته إلى رشده , أضمر في نفسه أشياء كثيرة كان أولها التوبة , وفي صلاة المغرب كان في الصف الأول خلف الإمام , بعد الصلاة سلَّم على الإمام وقال ياشيخ : اسأل الله لي الشهادة , أخذ في المحافظة على صلاة الجماعة , لم يكتف بذلك ففي كل يوم أخذ يرافق المظاهرة بسيارته إلى أن تنتهي خوفاً من وقوع مصابين برصاص النظام الغادر .
مضى الأسبوع الأول على توبته وهو فرح بما أقدم عليه , بعده بيوم همس في أذن الشيخ بعدة صلاة الفجر . يا شيخ : إنني أدعو الله أن يميتني شهيداً , فلماذا لا يستجيب ؟ يظهر أنني لا أستحقها فسجلي حافل بالمعاصي !! أليس كذلك ؟ يا شيخ ادع الله لي بالشهادة الآن …. أريد أن أسمعك …. هيا أسمِعْني …
أخذت عيناه تذرفان بالدموع , تابع كلامه أرجوك يا شيخ أنس : أسمعنيها, فأنت رجل صالح … رأى الشيخ منه صدقه في المقال , فقال : اللهم ارزقه الشهادة .
ودع الشيخ فرحاً … قال الشيخ لمن حوله : من صدق الله صدقه , وفي اليوم الثاني تحققت الأمنية , فقد أُصيب بطلق ناري وهو يمضي بسيارته خلف المظاهرة غير آبه ولا خائفٍ من أحد .
رحم الله أبا العز الحمصي ! وكتبه عنده من شهداء هذه الأمة الذين هم أحياء عند ربهم يُرزقون .