عند الحديث عن الطواف نجد أن الفقهاء يذكرون أمورًا لا بُدمن توافرها فيه، على اختلاف بينهم في عدِ بعضها أركانًا أو شروطًا؛ فهم إفاضة، ومنها كذلك: ابتداء الطواف من الحجر الأسود، وحصول الطّائف حولالكعبة العدد المطلوب من الأشواط، ووقوع الطّواف في المكان الخاصّ وهو حولالكعبة المشرّفة داخل المسجد الحرام، قريباً من البيت أو بعيداً عنه، وستر العورة، والموالاة بين أشواط الطّواف، وغيرها من المسائل المتعلقةبالطواف.
و"مما تعم به البلوى" في الطواف: مسألة الطّهارة من الحدث أثناء
وفي هذه المسألة قولين للفقهاء:
القول الأولأنّ الطّهارة من الأحداث ومن الأنجاس شرط لصحّة الطّواف، فإذا طاف والشّافعيّة([2])، والحنابلة([3]).
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "ولا يجزىء الطواف إلا بما تُجزىء ورجع فبنى، وأحبُ إليَّ في هذا كله لو استأنف… وإن قطع الطائف الطواففتطاول رجوعه أن يستأنف فإن ذلك احتياطًا"([4]).
ومما استُدل به على هذا القول الأدلة التالية:
1)حديث عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يطوفتوضأ، ثم طاف"([5])، وفعله في الحج بيان تؤخذ منه المناسك والأركان لقولهصلى الله عليه وسلم: "لتأخذوا عني مناسككم"([6]).
2)عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطوافبالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير"([7]).
وجه الدلالة فيه([8]):
أ- أنه سمى الطواف صلاة، وهو لا يضع الأسماء اللغوية وإنما يكسبهاأحكاماً شرعية، وإذا ثبت أنها في الشرع صلاة لم تجز إلا بطهارة لقوله صلىالله عليه وسلم: "لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ"([9])، وفي رواية: "لاتقبل صلاة بغير طهور"([10])ومما عللوا به لهذا القول ما يلي:
o .
o .
القول الثاني:
وهو مذهب الحنفية([13])، ورواية عن الإمام أحمد([14])، أن طهارة محدثًا، أو جنبًا، أو نجسًا، فإن كان بمكة أعاد طوافه، وإن رجع إلى بلدهأجزأ عن فرضه ولزمه دم لجبرانهقال الكاساني -رحمه الله- في بدائع الصنائع: "فأما الطهارة عن الحدث،والجنابة، والحيض، والنفاس، فليست بشرطٍ لجواز الطواف، وليست بفرضٍ عندنابل واجبةٌ، حتى يجوز الطوافبدونها"([15])ومما استدلوا به على عدم اشتراط الطهارة في الطواف، وصحة الطواف بدون طهارة:
قوله تعالى:(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْوَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)([16]).وجه الدلالة: أن اللهسبحانه وتعالى أمر بالطواف مطلقًا عن شرط الطهارة فيجري على إطلاقه.
ومما ذُكر لهم من التعليلات ما يلي:
أن الطواف ركن من أركان الحج، فوجب أن لا تكون الطهارة من شرطه كالسعي والوقوف بعرفة([17])ولأن الطواف عبادة ليس ترك الكلام شرطاً فيها، فوجب أن تكون الطهارة شرطاً فيها([18])ولأن للحج أركاناً ومناسك وليست الطهارة واجبة في واحد منهما، فوجب أن يكون الطواف لاحقاً بأحدهما([19]).
قال في بداية المجتهد([20]): "وعمدة من أجاز الطواف بغير طهارة إجماعالعلماء على جواز السعي بين الصفا، والمروة من غير طهارة وأنه ليس كل عبادةيشترط فيها الطهر من الحيض من شرطها الطهر من الحدث".
المناقشات والردود:
أولاً: بعض ما ورد من مناقشات على ما استدل به أصحاب القول الأول:
أن معنى الطواف الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: " الطواف بالبيتصلاة…"، أنه كالصلاة، وكلام التشبيه لا عموم له فيحمل على المشابهة فيبعض الوجوه.
أن الطواف يشبه الصلاة و ليس بصلاة حقيقة. فمن حيث أنه ليس بصلاة حقيقة لاتفترض له الطهارة، و من حيث أنه يشبه الصلاة تجب له الطهارة، عملاًبالدليلين بالقدر الممكن([21])ثانيًا: بعض ما ورد من مناقشات على ما استدل به أصحاب القول الثاني:
فأما قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ([22])، فلا يصحالاستدلال بها لأن الطواف بغير طهارة مكروه، والأمر لا يجوز أن يتناولالمكروه.
وأما قياسهم على السعي والوقوف، فالمعنى فيه أن الطهارة لما لم تكن واجبةفي السعي والوقوف لم تكن شرطاً في صحة السعي والوقوف، ولما كانت الطهارة .
وأما قولهم إن الطواف لا يخلو أن يكون لاحقًا بالأركان أو بالمناسك؛ فرُدعليه بأنه ليس بلاحق بواحد منهما لأن الطهارة تجب له ولا تجب لواحدمنهما([23]).
الخلاصة والترجيح:
الناظر لحال الناس عند الطواف، وأوضاعهم؛ يرى أن أعداد الطائفين وكذا أيام الحج، في طوافي الإفاضة، والوداع أشد ما يكون الزحام([24]) فيهذه الأزمنة، بينما لو أتى أحدنا طائفًا في غير هذه المواسم لم يجد هذا الحجر الأسود مرارًا وتكرارًا، لذا كله، وجمعًا بين القولين السابقين: :
لا شك أن الأفضل والأكمل، والذي فيه اتباع لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلمالمحافظة على الطهارة في سائر الأشواط السبعة، خاصة إذا كان متيسرًا بعدموجود الزحام الذي يُلحق المشقة، لكن لو أحدث الإنسان أثناء طوافه في زحام سيما إذا لم يبق عليه إلا أشواط قليلة فيه مشقة شديدة، وما كان فيه مشقةشديدة فإنه ينبغي أن نتبع ما هو الأسهل والأيسر. وهنا أنقل كلام شيخ بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه أمر بالوضوء للطواف، مع العلم بأنه قد حجَّ معهخلائق عظيمة، وقد اعتمر عُمَراً متعددة، والناس يعتمرون معه، فلو كان بيَّنه لنَقل ذلك المسلمون عنه ولم يهملوه، ولكن ثبت في الصحيح أنه لما طافتوضأ، وهذا وحده لا يدل على الوجوب"([25]).
font-family:Tahoma” dir=”LTR”>).
([2])الأم (2/179)، مغني المحتاج (1/36)، الحاوي الكبير (4/144-145) .
([3])المغني (3/397)، شرح منتهى الإرادات (1/574)، الكافي في فقه الإمام أحمد ابن حنبل (1/433)،شرح العمدة (3/585).
([4])الأم (2/179([5])أخرجه البخاري، في كتاب الحج، باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أنيرجع إلى بيته ثم صلي ركعتين ثم خرج إلى الصفا (2/584)، رقم (1538)، الإحرام وترك التحلل (2/906)، رقم (190).
([6])أخرجه مسلم، في كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحرراكبا وبيان قوله صلى الله عليه وسلم: "لتأخذوا عني مناسككم"، (2/943)، رقم (310)، من حديث جابر رضي الله عنه أنه قال: " رأيت النبي صلى الله عليه لا أحج بعد حجتي هذه([7])أخرجه الترمذي، في كتاب الحج، باب ما جاء في الكلام في الطواف (3/293)، رقم (960)، وابن خزيمة في صحيحه، في كتاب الحج، باب الرخصة فيالتكلم بالخير في الطواف و الزجر عن الكلام السيىء فيه (4/222)، رقم (2739)، وابن حبان في صحيحه، في كتاب الحج، ذكر الإخبار عن إباحة الكلام المنطق فمن نطق فلا ينطق إلا بخير"، (9/143)، رقم (3836)، والدارمي في سننهبلفظ ابن حبان، في كتاب الحج، باب الكلام في الطواف (2/66)، رقم (1847)، font-family:Tahoma” dir=”LTR”> (1686)في الطواف، بلفظ: "إلا أنه قد أذن فيه بالمنطق فمن استطاع أن لا ينطق إلابخير فليفعل"، (5/85)، رقم (9074)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب ).
([8])انظر: الحاوي الكبير (4/145([9])أخرجه البخاري، في كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور (1/62)، رقم (135).
([10])أخرج هذه الرواية مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة في الصلاة (1/203)، رقم (224).
([11])المغني (3/397([12])الحاوي الكبير (4/145([13])بدائع الصنائع (2/129)، المبسوط (2/48)، تبيين الحقائق (2/59)، البحر الرائق (2/360).
([14])المغني (3/397)، شرح العمدة (3/585).
([15])بدائع الصنائع (2/129([16])الآية رقم (29)، من سورة الحج. (فائدة): سمى البيت عتيقًا: لأن اللهتعالى أعتقه من أيدي الجبابرة، فلم يسلط عليه جبار قط، بل كل من قصده بسوء رقابنا ورقاب أبائنا وأُمهاتنا من النار. انظر: إعانة الطالبين (2/288).
([17])بدائع الصنائع (2/129([18])بدائع الصنائع (2/129([19])التعليلات (1 ، 2، 3) انظرها في شرح فتح القدير (3/53)، البحر الرائق (2/360)، الهداية شرح البداية (1/165)، بتصرف.
([20])([21])بدائع الصنائع (2/129([22])الآية رقم (29)، من سورة الحج.
([23])الحاوي الكبير (4/145([24])زحم القوم بعضهم بعضاً: ضايقوهم، وازدحموا وتزاحموا: تضايقوا، أسماء مكة شرفها الله وحرسها انظر: لسان العرب، مادة (زحم)، (12/262).
([25])مجموع فتاوى ابن تيمية (21/273). وقد استدل على وجوب الطهارة للطواف بأن مشروعية مناسك الحج أخذت عن طريق فعل النبي صلى الله عليه وسلم لقولهخذوا عني مناسككم ، وقد ثبت أنه توضأ ثم طاف في الحج فدل على الوجوب .