في رمضان المنصرم أصدر الملك -وفقه الله- أمراً بقصر الفتوى على أعضاء اللجنة الدَّائمة للإفتاء وأعضاء هيئة كبار العلماء، وجاء في نصِّ الأمر الملكي الوعيد الشَّديد لمن تقَّحم حمى الفتوى وهو ليس من أهلها، خاصَّة في الأمور العامة؛ وفي الفتاوى التي تُذاع عبر وسائل الإعلام. وبغضِّ النَّظر عن مآلات هذا الأمر وكيفية تطبيقه بطريقة شرعيّة مناسبة، فقد انعقد في روع الكَّافة أنَّ الفتوى باتت محميَّة؛ فأمر الملك المكتوب والمعلن واضح؛ والويل لضحيته الأولى.
والاعتراض على الفتوى فتوى ثانية وليست حرّية رأي، فلا يستقيم بحال أن تكون الفتوى محصورة في هيئة أو لجنة؛ ثم يُباح لكلِّ ذي قلم أو صوت أو صورة أو موقع مناقشة الفتوى وهو ليس من أهل التَّخصص؛ بل إنَّ منطوق الأمر ومفهومه يمنعان أهل التَّخصص(!) من إبداء أيِّ رأي عن فتاوى الهيئة أو اللجنة بَلَه غيرهم، وبغير هذا الفهم لا يكتمل الأمر، فلا معنى لتضييق ابتداء الفتوى مادامت دائرة الاعتراض واسعة لمن لا يعلم في الشَّريعة ما يؤهله للحجاج أو المذاكرة.
وبعد صدور فتوى اللجنة الدَّائمة للإفتاء بتحريم عمل المرأة "كاشيرة" هبَّت عاصفة الاعتراض من بعض كتَّاب صحفنا، ولن أقول إنَّهم لم يحترموا التَّخصص فقد حفظنا عنهم مواقف كثيرة لا تُحصى في هذا الباب، ولن أشير إلى تسفيه العلماء والاستهزاء بهم لأنَّه دأبهم منذ عشر سنوات وقلم التَّاريخ شاهد وسيروي شهادته، وإنِّما الذي لا أجد له تفسيراً هو جرأتهم على انتهاك الإرادة الملكية وتجاوزها كأن لم تكن! وهم الذين طاروا بها قبل ثلاثة أشهر فقط! ويزداد الاستغراب إذا علمنا أنَّ التَّوجيه الملكي لا يزال حاضراً في الذِّهن والواقع؛ فوزارة الإعلام وهيئة الاتِّصالات قد مضتا في إعاقة عدد من المنابر بدعوى مخالفة الأمر، وها هي الوزارة اليوم جامدة أمام صحافتنا الجريئة بينما تلهث خلف ضبط النَّشر الإليكتروني، وقد كان "مربع" واحد يُبَّشر بطول سلامة فيما مضى؛ فصاروا اليوم مرابعاً كثيرا.
وليست هذه هي الحادثة الأولى التي تهمل الصَّحافة السُّعودية فيها توجيهات ولاة الأمر، فقد استضاف الملك مرَّة رؤساء التَّحرير واستنكر عليهم -مشكورا- الصُّور النِّسائية في صحفهم، وكان مقتضى الأدب أن يخرج الرؤساء المعمِّرون من ديوان الملك ويكتبوا شيئا عن غيرته؛ ثم يصوموا عن نشر الصور ولو أسبوعاً واحدا، بيد أنَّهم لم يبرزوا الأمر الشَّفهي ولم ترعوِ صحفهم عن نشر صور الفاتنات. وفي حفل استقبال أهالي القصيم أمر الملك بهجر التَّصنيف في خطبته القصيرة ومع ذلك فأكثر ما يكون التَّصنيف عبر صحفنا، ومن صنَّف صُنِّف! وهذا الاطِّراد في مواقف الصَّحافة المتعالية على الأوامر العُليا ليس له ما يسوّغه؛ إلا إن حظيت الصُّحف بضوء أخضر داخلي على منوال الغارات الصّحفية المتكررة، أو باركت مسعاها التَّخريبي دول ومنظمات خارجية على غرار تأييد الأعداء للرَّوافض والباطنية وكلِّ مَنْ يخرق سفينة وحدتنا.
ولم تكتف بعض الصُّحف بفتوى النَّقض لفتوى اللجنة، بل نشرت تصريحاً مكذوباً على لسان معالي الشَّيخ أ.د. عبد الله المطلق-حفظه الله-، وقد سارع الشَّيخ بتكذيب هذا التَّصريح المفترى، ونقضه بأسس نظامية، مع نصيحة حانية للصُّحف بالصِّدق والتَّحري. ولا ألوم المتابع لهذه الحملة الصَّحفية على فتوى اللجنة إذا أعتقد أنَّ الأمر الملكي لاغ؛ أو أنَّ الصَّحافة فوق كلِّ أحد! ولو أنَّ المعترض كان خطيب جمعة لقُطع لسانه وكُفت يده وربُّما دُق عنقه بتعاون ثلاث وزارات ذات شأن.
والمتفائلون يقولون إنَّ موسم الحج قد استحوذ على الأحداث المحليَّة، ويجزمون أنَّ نهاية موسم الحج سيتبعها نهاية رؤوس صحفية كثيرة، وطيِّ صفحة حقبة طويلة من الرَّأي الواحد في صحافتنا الورقية، ويحلمون أنَّ عيد الأضحى القريب ستكثر بعده الضَّحايا، ويبنون رأيهم على أنَّ من رجال الملك المخلصين في الحكومة وفي الدِّيوان أغيار لا يرضون بهذه الفوضى، فضلا عن أنَّ الملك حريص على متابعة هذا الموضوع ويستعجل إنهاء لائحته التَّنفيذية، وأنَّه سيضرب بيد قوية الذين تجرأوا دون أن تكون لهم أهليَّة، فاللهم انهِ موسم الحج على خير، واعد الحجَّاج سالمين مقبولين آمنين، واسمعنا بعد الحج أخباراً تشنِّف آذاننا، وتسعد قلوبنا وقلوب الغالبية الصَّامتة التي لا ترضى إلا بما يرضي الله ويرضيه عنَّا أهل البلد وحماته.