متابعة الشأن العراقى، أو الهم العراقى مسألة تنتج الكثير من التوتر، ومئات علامات التعجب والاستفهام، شأنها شأن متابعة ما يقوله أوباما عن أفغانستان، وما تقوله الرباعية عن فلسطين.
السيناريو المتبع فى كل الحالات واحد، يبدأ بشيطنة سلطة أو زعيم، أو نزع الشرعية عن نظام حكم، ويعتمد فى بناء خطواته التالية على الذاكرة العربية التالفة، والوهن الرسمى العام المتكرر الظهور فى كل المواضع، والشعوب المقهورة الصامتة، أو بالأحرى المكممة حتى تنطلق طاقاتها بغياب السلطة بأيدى جنود الاحتلال، ثم الدخول فى عملية إلغاء الثوابت الوطنية والمعانى المتعارف عليها فى القاموس الإنسانى، ليحل محلها مصطلحات أمريكية وصهيونية تحدد الخير والشر للشعوب، وفقا للمقاييس الأمريكية.
الحالة العراقية ..
ويعرف الجميع كيف بدأت بكمية من الأكاذيب المفضوحة والتى أثبت التفتيش الدولى عريها من أية مصداقية، وقد سقط هذا من الذاكرة العربية الواهنة، ثم الاحتلال الغاشم البغيض الذى دمر كل البنية التحتية للعراق المتحضر عمدا، بقصف محطات الكهرباء والمياه والصرف الصحى والمدارس والجامعات، وإغتيال معظم الكفاءات العلمية والتقنية مستخدمين فى ذلك تعاون العملاء القادمين على دبابات الاحتلال والدعم الإيرانى عبر "عصابات فيلق بدر"، لتحقيق هدف تفتيت الشعب العراقى على أساس مذهبى، بعد فصل تعسفى أشرفت عليه عناصر من العصابات الصهيونية للشمال العراقى على أساس عرقى، ويتم هذا تحت لافتة كتب عليها "حرب تحرير العراق"، ويصمت الوهن العربى، حتى تتموضع حقائق على الأرض لا يستطيع مواجهتها بوهنه، فيظهر الدور المنوط بالذاكرة العربية التالفة، ويبدأ التعامل مع الواقع المفروض بالأمس على الإرادة العربية العليلة، بإعتباره حقيقة تاريخية، وهى ذاكرة تالفة وليست ضعيفة لأنها فى نفس الوقت تنكر واقع المقاومة البطلة الحية والفاعلة فى كل المواضع المبتلاة من جسد الأمة، ولأن المقاومة الباسلة هزمت خطط العدو العسكرية وأحبطتها، فإن الأمر يحتاج إلى الزج بقاموس المصطلحات الجديد للإيهام بأن ثمة إنجاز يحدث، قاموس مصطلحات مقلوبة المعانى.. من العملية السياسية، إلى عملية السلام، إلى مكاسب بدء المفاوضات التى لا تنتهى إلى شيئ، إلى عملية إجراء الإنتخابات الناجحة بالطبع، وسنجد هذه الكلمات تتكرر فى كل مكان تقتل فيه الآلة الأمريكية البشر والحرية وحلم الانعتاق من سيطرتها المتوحشة.
والعجيب أن العقل العربى الرسمى، والإعلام العربى الرسمى، لا أقول يقبل هذه الترهات، ولكنه أيضا يروج لها بإعتبارها إنجازات تحررية إن لم تكن ثورية، ففى العراق تجرى إنتخابات فى ظل الاحتلال، ونحن نعلم كيف تجرى الانتخابات فى ظل حكومات مستقلة إسما، ويمكن تصور كيف ستكون فى ظل الإحتلال، وبعد إستبعاد الأطراف الأساسية الفاعلة فى الواقع العراقى، ويختلف باعة الأوطان على تقسيم الغنائم، فيعطلون " العملية السياسية الأمريكية" .. حتى يحسم المستفيد الأول من حالة العراق بعد تحطيمه الأمور لصالحه.. بعد لقاء المالكى/ نجاد، بحيث يظل الاحتلال الأمريكى قائما، فبقائه شرط للهيمنة الطائفية والمذهبية على مقاليد الأمور، يبقى بقوة قوامها خمسون ألف جندى نظامى، طبعا دون ذكر العدد الذى يعمل ضمن " شركات الأمن " الأمريكية والتى تمثل أكبر الميليشيات عددا، ثم يستغرق توزيع الكعكة شهورا طويلة، وكل طرف من الذين تداعوا على القسعة غير راض بنصيبه، ويعاد إنتاج كل هذا فى الإعلام العربى بإعتباره إنجازا غير مسبوق لحكومة " عراقية مستقرة ".
الحقائق العراقية البسيطة ..
إذا ما تخلصنا من عصابات الأعين التى يحكمون لفها حول وجوهنا، فى جوانتانامو العربى الكبير كل يوم وساعة، ومع كل نشرة إخبارية، وقبل وأثناء وبعد كل زيارة لمندوب سامى عن قيادة أركان العدو الأمريكى الصهيونى، فالحقائق البسيطة التى سنراها هى:
ـ العراق بلد تم تقسيمه على أسس عرقية ومذهبية لصالح الأكراد والشيعة، وعلى حساب السنة والعرب على وجه الخصوص، ووجود قوة الإحتلال التى أنهكتها المقاومة، وإستمرارها إلى إجل غير مسمى تحت زعم ضمان الاستقرار ما هو إلا لضمان بقاء هذا التقسيم التعسفى، للإبقاء على القوة العراقية خارج معركة الأمة الرئيسية، وحماية العملاء القائمين عليه.
ـ الاحتلال ما يزال قائما فى العراق، ولن يخرج إلا بفعل المقاومة العراقية المجيدة، وأى حديث عن خروج القوات الأجنبية "الأمريكية" هو حديث مضلل لإعطاء الإحتلال الأمريكى المعنى المطلوب فى القموس الجديد للحرية الأمريكية، ولإدانة أعمال المقاومة المشروعة وفق كل الشرائع، ووصفها بالإرهاب.
ـ كل الأشكال السياسية التى بنيت وقامت بأدوارها المرسومة فى وجود الإحتلال، هى أشكال لا شرعية لها ومقاومتها جزء من مقاومة المحتل، وقد يكون أساسا فى مقاومة المحتل وفقا لتموضع قوات القهر فى مواجهة الشعب العراقى، وبالتالى فلا شرعية لأية حكومة عراقية وضع دستورها الحاكم العسكرى الأمريكى.
ـ أن عودة الوحدة للعراق لا يمكن أن تتحقق فى ظل الإحتلال الذى يهدف على العكس إلى إن ينقل حالة التمزق العراقية إلى دول الجوار، وأن هذه القضية ليست قضية عراقية وحسب، بل هى قضية أمن قومى عربى، لا يمكن معالجتها بالوهن أو بالذاكرة التالفة.
ـ أن المقاومة هى الرقم العربى والإسلامى الوحيد القادر على إعادة أطراف المعادلة فى العراق، ومنطقة الخليج العربى، إلى حالة التوازن، وأن دعمها بكل السبل لتحقيق مهماتها فى الاستقلال، والحفاظ على عروبة العراق، وتعديل التوازنات الإقليمية للحفاظ على السلام الإقليمى، هو مهمة عربية إستراتيجية وحيوية، شعبية ورسمية، تحتاج للعمل العاجل لوقف التدهور من جهة، كما تحتاج إلى العمل المنظم طويل الأجل لبناء موقف أفضل فى المدى المتوسط وطويل المدى.
هذه هى الحقائق العراقية البسيطة، ولكن نظرة إلى ما يحدث عربيا وإقليميا وإسلاميا تكشف، أنها على بساطتها.. ما تزال صالحة لإثارة الدهشة.