عندما يمر الإنسان ـ وحتماً سيمر ـ بموقف متعب، وأزمة مرهقة مؤرِّقة، وأحداث مؤلمة، واضطرابات عاطفية، وكلمات جارحة يعيش أحداثها لحظة لحظة، ويوماً يوماً، وينتظر نهايتها على أحر من الجمر؛ فلا بد أن يدرك تماماً ويضع في حسبانه أن هذا الأمر منته لا محالة، وليست العبرة بانتهائه، بل بأن يعتبر بنتيجة هذا الموقف كيف كانت وإلى أي أمر آلت؛ فالفترة التي بعد انتهائه مباشرة هي جزء للتفكير في أمر جديد أضيف إلى عقلك وخبراتك، ولا بد أن يكون هذا التفكير تحليلياً ليبقى عندك كتجربة فقط، وهذا الذي عنْوَنّا له بفرصة للتحليل، وذلك من عدة زوايا وجوانب:
– الإدراك التام أن ما حصل كان قدراً مقدوراً، ومستقراً في علم الله قبل أن يخلقك ويخلق السموات والأرض، وهو يعلم مبدأه ومنتهاه وكيف ستدخل فيه وتخرج منه، وحتماً سيصيبك ولن يخطئك، ففيم الضجر والألم؟
– أن تعرف كيف حدث هذا الأمر، من خلال معرفة نقطة بدايته، ومن هم الأطراف الذين كان لهم دور في تحريك أحداثه، وما الأفعال التي ارتكبت والإجراءات التي اتخذت فأدت إلى نهايته على هذه الطريقة، ولو تفاديتها في تجارب مستقبلية فستكون النهاية أرجى، وهذا من الحصافة والعقل الراجح، وفوات الحاجة خير من طلبها من غير أهلها، والحماقة أعيت من يداويها، وقد ذم الله العبد المملوك الكل على مولاه، الذي لا يأتي بخير أينما وجهه، وهناك كلمة قرأتها حول ذلك وهي: وصف الخليفة المأمون للرجل الذي التمسه عضداً له عندما تولى الخلافة؛ حيث ذكر مـن صفاته: " قد هذَّبَتْهُ الآداب، وأَحْكَمَتْهُ التجارب"؛ فالأحداث تهذب الإنسان طبعًا وعقلاً، وسلوكًا وعاطفةً، وتكسبه تماسكًا وإحكامًا ونضجًا.
– اضطراب أعصابك أثناء حدوث ذلك الأمر كان طبيعة بشرية؛ لأنك كنت في لحظة أمل تنشد الوصول إلى ما تريد، ولم تكن في فرصة للتحليل آنذاك؛ فالأمر لما ينته، بل بقيت فيه خيوط موصولة؛ أما عندما تحلل فقد أمسكت بزمام الموضوع وأحداثه من أولها إلى آخرها، فتكتبه قصة أو فائدة للتجربة، وهذه هي الفرصة التي لك بعد وقوع الحدث مباشرة، مثل المريض في حال نقاهته، أو الحامل بعد ولادتها، أو المسافر بعد عودته بمدة.
– تأمل جملة يوسف عليه السلام في آخر قصته: { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (100) سورة يوسف؛ فلطف الله في مشيئته وانتهاء الأمر على أي نتيجة هي من قدره ومما شاءه سبحانه، ولو كانت على حساب رغبات البشر وربما أدركنا الحكمة أو لم ندركها، وقصة يوسف كلها عرض لماضيه وحاضره ومستقبله في تاريخ حياته.
– إن الناس عندما تسمع فكرة ما تتفاعل معها بما هو مستقر عنها في أذهانهم، ومنهم من يريد التغيير ولكن ليس عنده الاستعداد له ولمواجهته، فلا يقتنعون بها في كثير من الأحيان، وذلك ليس لأن المقول غير صحيح، بل لأنه صادم المغروس فيهم، ولذا كان لزاماً على المتكلم ولا سيما الداعية أن يحسن التعامل مع ذلك بحسن عرض فكرته، ومحاولة انتشاله للناس من مستنقع المعتقدات المدفونة، وفي هذا الصدد يقول أحد المفكرين الإسلاميين :" على الداعية أن يدرك أن المدعوين أمامه عبارة عن كتل من المشاعر والأذواق، والارتباطات الذهنية، والمعاني القديمة التي ربما تلقاها الواحد في الطفولة، ولا سبيل له إلى التخلص منها بسهولة".
– بعد تحليل ما جرى، واستفراغ الجهود الذهنية في تتبع نقاط الموضوع ستكون هناك تبعات؛ عليك أن تضبطها بميزان الشرع والعقل، ومن هذه التبعات هجرانُ شخص ما، أو اعتذار، أو تطييب خاطر، فأنت لا تملك إلا ذلك، أما أن تعيد أحداث الموضوع لتسييرها وفق رغبتك فلا يمكنك ذلك؛ لأنها أمور خارجة عن الإرادة البشرية؛ وقد يكون هناك فئام من المجتمع يُمِرُّون الأمر بكل برود، ويقولون ما جرى جرى وانظر إلى الإمام، أو اطوِ صفحة الماضي؛ وإذا وقفنا مع أمثال هذه العبارات فعلينا ألا نؤمن بها على إطلاقها؛ ذلك أن هناك أموراً في الحياة ـ رغم إيماننا بقضاء الله وقدره، وبأهمية العفو والصفح وجلالتهما ـ إلا أنه كان ينبغي لمن فعلها ألا يفعلها ابتداء، إذا كان ذا عقل يحجمه عن العجلة، وارتكاب ما لا يحمد عقباه، فمن الأفضل التحسب، ودراسة العواقب، وبعد النظر وإعادته المرة تلو المرة حتى يقدم المرء على ما يريد وهو مطمئن أنه خطط وقدّر النتائج وراعى المشاعر والخصوصيات، وبعد ذلك ما يريد الله يمضيه سبحانه، ونحن ندرك أن هناك دية وضعت للقتل الخطأ ، وهو مثال يحتاج إلى تفصيل ليس هذا مقامه، وفي مثال آخر قال صلى الله عليه وسلم "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال"؛ وذلك في حادثة الرجل الذي جُرِح فلم يرخص له أصحابه في التيمم فاغتسل فمات،
فهذا أمر ماضٍ والرجل قد قُتِل ومات، فهل سيعيده غضب النبي صلى الله عليه وسلم، أم أنه لا بد من أن يدرك كل مخطئ خطأه؟ ويهز أعماقه؟
– وفي المقابل كان هناك أمور من العقل والحكمة أن تُفْعل:
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
وربما فات قوماً جلُّ أمرهم
مع التأني وكان الرأي لو عجلوا..
وهذا أمر ينبغي على الإنسان أن يتعلمه، ويُحْكِمَ نفسه فيه ليكون سريع البديهة.
– إن النسيان نعمة من الله تعالى على عباده، حيث يجعل الإنسان يتابع أعماله ومعيشته، ولو لا ذلك لما استمرت الدنيا بعد وفاة سيد البشرية صلى الله عليه وسلم، بل إن مبعثه كان من أجل استمرار التاريخ، ونشر الإسلام وضبط حياة الناس، لا من أجل أن تتوقف الدنيا بعد موته.
فلنجلس جلسة هادئة نفكر فيها في الحقائق من حولنا، ولنفرغ في ورقة كل ما يمكن أن نتفاعل معه مما هو بين أيدينا، ونطوره في الأيام القادمة، ولا ننس من ذلك الإيمانيات: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} [وذلك في الماضي ] {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ وذلك في المستقبل] (53) سورة الزمر
– المستنكر والمعيب في ذكرى الماضي أن نعيش فيها وفي أحداثها، ويمتلئ القلب حقداً والنفس شحناء من أجل أمور ماضية حصلت، وكنا نود لو أنها لم تحدث، والتفكير بهذه الطريقة لن يفيدنا، وليس من شيم العقلاء، ولكن الذي ينبغي أن يستوقفنا لنكون منصفين:
1. أنه لا شيء في النفس يُمحى، هذه قاعدة عند أهل العلم بالنفس، (فحوادث النفس ذات ديمومة، فهي رغم تحولها وتغيرها إلا أنها تبقى فينا، وتظل ترافقنا، وقد نشرد عن تذكرها، ولكن من المحال أن تنمحي، وكل إنسان يحمل ماضيه معه، سواء الأفراد الذين قابلهم في الطفولة، والأعياد التي عاش فيها، والكلمات الطيبة أو النابية التي نطق بها أو سمعها، كل هذا يبقى دفيناً في النفس). ـ وحقاً ـ من الذي ينسى طفولته وما حصل له فيها من ذكريات جميلة أو أليمة؟ ومن ينسى أيام دراسته؟ ولكن القضية كلها كما قال شوقي رحمه الله في السينية المشهورة التي عارض فيها البحتري:
اختلاف النهار والليل ينسي..اذكرا ليَ الصبا وأيام أنسي
ونبينا الكريم صلى الله عليه وسلم كان يتذكر حلف الفضول الذي حضره وهو في الخامسة عشرة من عمره، بعد أن بُعِث نبياً، وعمر رضي الله عنه كان يتذكر الجاهلية فيضحك؛ لأنهم كانوا يأكلون من الأصنام المصنوعة من التمر، وعمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يتذكر مشيته أيام ضلاله وانحرافه فيَعُدُّها ضرباً من الجنون، ولم يستوعب كيف كان يمشي تلك المشية؛ فالعقل ينضج، والله يلهم ويهدي، والمشاغل تأتي، وأمور الحياة تمحو أشياء كثيرة من الماضي، ولكن لا بد من لحظات الخلوة التي تعيد الماضي كالبرق اللامع.
2. ما الضوابط الشرعية التي تجعلنا نحكم تصرفاتنا وإراداتنا بعد كل موقف، مع مراعاة ما سيحدث من آثار في النفس البشرية كما أسلفنا، وذلك حتى نتجنب الاندفاعات العاطفية والانحرافات السلوكية؛ ورد في صحيح البخاري أن وحشي بن حرب قتل حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد قِتلةً شنيعة، فاشمأزت منها نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستطع نسيانها، فلما عرف أن من قتله هو وحشي ارتبطت الصورة السابقة ـ أعني منظر وجه عمه الشهيد ـ بهذا الاسم تماماً، فلما أسلم وحشي جاؤوا به إلى رسول الله مسلماً موحداً معصوم الدم والمال والعرض، فقال له: أنت قاتل حمزة؟ قال نعم، فطلب منه طلباً واحداً مما لا يمحى من النفس البشرية ألا وهو أن يُغَيِّب وجهه عنه فلا يراه طيلة حياته، وقد علق ابن الجوزي رحمه الله على ذلك فقال:
(في هذا إشكال على من قلّ علمه فإنه يقول إذا كان الإسلام يَجُبُّ ما قبله فما وجه هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول يشبه موافقة الطبع، وأين الحلم؟
والجواب: إن الشرع لا يكلف نقل الطبع، إنما يكلف ترك العمل بمقتضاه وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما رأى وحشيا ذكر فعله فتغيظ عليه بالطبع، وهذا يضر وحشيا في دينه فلعله أراد اللطف في إبعاده.)
ومعروفة قصة ابن عمر رضي الله عنه عندما راقب الرجل الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، فقال في نهايتها: " أني أبيت ولا أحمل في صدري على أحد شيئاً"، فماذا كان رد ابن عمر رضي الله عنه:" هذه التي لا نطيق"، وهي فعلاً التي لا نطيق لأننا بشر نفوسهم ضعيفة، ينزغ الشيطان بينهم، إلا أننا نحتاج إلى المجاهدة حتى نكون من أهل قوله تعالى:" وَمَا يُلَقّاهَا إلا الّذين صَبَرُوا وما يُلَقّاها إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ".
3. الذكرى والتذكر أمر طيب، وذلك للخواطر الجميلة، والمواقف النبيلة التي تبهج النفس والروح، فتجعلك تدعو لإخوتك في ظهر الغيب، وتذكرهم ذكراً جميلاً، ولا سيما الأموات منهم، ولا سيما العلماء الصادقون، والصحبة الأخيار، وأن تتذكر جميع من ساعدوك ووقفوا معك في طريق حياتك فتدعو لهم، وكذلك من أساء إليك وظلمك وعصى الله فيك كافئه بأن تطيع الله فيه بالعفو والدعاء والإحسان إليه إن كان شخصاً من آحاد الناس، فكيف وهو من أهلك أو أرحامك.