إن مِن الفقه صيانةَ من نُراعي عن حِمى المشتبهات، ولاسيما إن عُلم من واقع الناس أن التوسع فيها باب عريض لشر عظيم… والاختلاط اليوم أعني الاختلاط الشائع في المجتمعات، الاختلاط المطلق عن قيود الشرع أو بعضها، لا الاختلاط الذي تدعو إليه الحاجة المنضبط بضوابط الشريعة، قد علم المنصفون الذين يعايشون واقعه أنه ذريعة شر غالبة، وحوادث الجامعات المختلطة التي يندى لها الجبين لا ينكرها إلاّ جاهل أو معاند.. وكذا غيرها[1]. قبل أيام قلائل زارني أحد المشايخ من أكابر المتصدرين للفتوى في بلد إسلامي أكثر محافظة من غيره، ولاتزال في رجاله بقية أخلاق، غير أن تلك البلاد لم تسلم من آفة الاختلاط في التعليم، فأثار الشيخ في المجلس مسألة العقد على الحامل من زنا! فعجب بعض الحاضرين، فقال الشيخ: في الآونة الأخيرة قل أسبوع إلاّ وترد عليه حالة حمل من سفاح يجهد الأهلون في الستر عن مقارفيها بالزواج! وجلها جراء الخلطة في نحو تلك الجامعات، و(إن في ذلك لآية لقوم يسمعون)!
ومفاسد الاختلاط المعاشة، لا تتسع لها هذه المقالة.. وعوداً إلى مفتي الفضائية.. ما كان منه إلاّ أن قال للسائلة عن العمل المذكور ما حاصله:
– أولاً: الاختلاط ليس محرماً من حيث الأصل، فقد عهد وكان في عصور الصحابة فمن بعدهم على مر تاريخ الإسلام، في المساجد، والأسواق وغيرها، لكن الإشكال في ممارسات ربما وجدت معه.
– ثانياً: بما أنه يوجد في المكتب الذي وصفته موظفان فليست ثمة خلوة محرمة.
فقد جعل اختلاط الرجال بالنساء غير محرم في الأصل بدعوى إقراره في عهد النبوة والقرآن يتنـزل، وهذا فقه قاصر التبس على صاحبه حكم الاختلاط المطلق غير المقيد بضابط الشرع، والاختلاط المقيد المنضبط، فاستدل لحل للاختلاط دون تقييد بواقع إما مقرٌ؛ وهو المقيد المنضبط بضوابط الشرع، وإما محرم؛ غير مقر لا حجة فيه.
فالنساء في العصر الأول إنما كن يخرجن للضروريات التي لابد منها، وكذلك للحاجات الشرعية كالجماعات المشروعة ونحوها أو الدنيوية كالسقي والاحتطاب وغيرهما، وخروج النساء إنما أبيح للحاجة بضوابط، وإلاّ فالأصل في الصالحات القانتات التزامهن أمر ربهن: (وقرن في بيوتكن) [الأحزاب: 33]، وقد استدل أهل العلم بهذه الآية على نهي النساء من الخروج إلاّ لضرورة[3] أو حاجة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدخول على النساء وذلك ثابت في الصحيحين ولا يمنع الدخول عليهن ويأذن في خروجهن بغير ضابط! فالأصل المقرر في حق المرأة القرار في البيت، وترك الخروج إلاّ لحاجة، بضوابط شرعية، لا حل الاختلاط للنساء بالرجال أو العكس، وعلى أصل القرار كان شأن النساء في العهد الأول، ثم كان خروجهن للحاجات مشروعاً خلافاً للأصل بقيود تحقق مقصود الأصل، فمن استدل بذلك الواقع المقيد بالحاجة والضوابط كالمحرم أو من يقوم مقامه مع الستر والحشمة ومنع الخلوة وترك الزينة حال كونها تفلةً، من استدل بذلك الواقع المقر على جواز الاختلاط دون أن يقيده بها، فهو كمن سئل عن شراب عنب مكث شهراً في وعاء جر! فقال مجيباً: عصير العنب أصله حلال! فعمرك الله كم عقلاً أذهبت وامرءاً أسكرت فتواه!
وهذه السائلة سوف تمكث أشهراً كل يوم تقابل ذينك الرجلين تسلم أو يسلمان، ينظران إليها وتنظر إليهما، يحادثانها في العمل –وربما غيره- وتحادثهما، يساعدانها وتساعدهما، قد يغيب أحدهم فينفرد بها الآخر! وقد يخرج أحدهم فتبقى مع الثاني!! وقد يجاز أحدهم شهراً فأين تذهب؟ ثم تدخل على المدير لا لتلقي أوراقاً على وجهه أو طاولته ثم تغادر!! فعمرك الله! لو حصل لطالب علم اشتباه فلم يميز بين الاختلاط المطلق وبين ما ساغ لحاجة مقيداً بضوابط تؤمن معها الفتنة، فهل تشتبه مثل هذه الحال المسؤول عنها على من تفقه ونظر ثم فكر وقدر؟!
وهكذا من لم يفرق بين الاختلاط غير المنضبط بقيد الشرع أو بعض قيده، ثم هو مع ذك ممنهج متكرر .. وبين خلطة عابرة اقتضتها حاجة معتبرة، مع التزام الرجال والنساء فيها بحدود الشريعة…
غير أن ثمة أمر لابد من التفطن إليه والتنبيه عليه، وهو أن كثيراً من الناس إذا ذكرت له مفاسد الاختلاط والمحرمات التي يؤدي إليها، لا يتبادر إلى ذهنه غير الفاحشة الممقوتة، ولا شك أن الاختلاط من أعظم أسبابها بشهادة المنصفين من الغربيين، وإحصائيات واقعهم التي تفند مزاعم الجاحدين، ولولا الإطالة لسردت بعض ذلك، ولضيق المقام أكتفي ببعض نصوص علمائنا رحمهم الله وهي وافية بالمقصود، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا"[4]، وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: "إن الله تعالى جبل الرجال على القوة والميل إلى النساء، وجبل النساء على الميل إلى الرجال مع وجود ضعف ولين، فإذا حصل الاختلاط، نشأ عن ذلك آثار تؤدي إلى حصول الغرض السيئ؛ لأن النفوس أمارة بالسوء، والهوى يعمي ويصم، والشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر"[5]، وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: "فالدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخص الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي ومن أعظم آثاره:الاختلاط الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنا الذي يفتك بالمجتمع، ويهدم قيمه وأخلاقه"[6].
غير أن ما يُغفل عنه هو أن الاختلاط يتضمن محاذير أخرى ومفاسد شتى، كزنا القلب والعين والأذن واللسان، كما أنه سبيل إلى "مرض القلوب، وخطرات النفوس، وخنوثة الرجال، واسترجال النساء، وزوال الحياء، وتقلص العفة والحشمة، وانعدام الغيرة"[7]، كما أنه باب لمفاسد أخلاقية، وأضرار تربوية، وقد يكون عائقاً عن وظائف المرأة وواجباتها الأساسية، وكل واحدة من هذه المفاسد كفيلة بتحريم الاختلاط إذ هو ذريعة غالبة إلى بعضها، وأخطأ من ظن أن منعه سداً لذريعة الفاحشة الكبرى فحسب، فيرخص فيه إذا ظن انتفاء هذه الريبة، وينسى غيرها من الريب والآثام، والأمر على ما قال شيخ الإسلام: "واعلم أن كثيراً من الناس يسبق إلى ذهنه من ذكر الذنوب: الزنا والسرقة ونحو ذلك، فيستعظم أن كريماً يفعل ذلك. ولا يعلم هذا المسكين أن أكثر عقلاء بني آدم لا يسرقون، بل لا يزنون حتى في جاهليتهم وكفرهم.."[8] إلخ ما قال رحمه الله.
غير أن خطر الاختلاط المنظم الممنهج يتجاوز هذه المحذورات إلى ما هو أكبر، فالنظرة مثلاً ذريعة محرمة، فإن تكررت حتى أُلِفت، وغدا التملي في المُحَيَّا والقسمات، وتبادل الأحاديث والابتسامات شأناً متكرراً معهوداً غير منكر، فما أقرب المنكر الأكبر حينها!
"إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي؛ لأن الله قد ناط به امتداد الحياة على هذه الأرض وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها، فهو ميلدائميسكن فترة ثم يعود، وإثارته في كل حين تزيد من عرامته؛ وتدفع به إلى الإفضاءالماديللحصول على الراحة، فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة"[9].
إن "هذا الدين لا يريد أن يعرض الناس للفتنة ثم يكلف أعصابهم عنتاً في المقاومة! فهو دين وقاية قبل أن يقيم الحدود، ويوقع العقوبات. وهو دين حمايةللضمائروالمشاعر والحواس والجوارح. وربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير . ."[10].
"ولأن هذه الفواحش ذات إغراء وجاذبية، كان التعبير: ولا تقربوا. . للنهي عنمجردالاقتراب، سداً للذرائع، واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة. . لذلكحرمتالنظرة الثانية -بعد الأولى غير المتعمدة- ولذلك كان الاختلاط ضرورة تتاحبقدرالضرورة. ولذلك كان التبرج -حتى بالتعطر في الطريق- حراماً، وكانت الحركاتالمثيرة،والضحكات المثيرة، والإشارات المثيرة، ممنوعة في الحياة الإسلاميةالنظيفة"[11].
لقد منع التشريع الحكيم النظر المتعمد، وأمر بصرفه إن وقع فجأة، فقد صح عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري"[12]، بل قيل لعلي –زوج البتول وناهيك به – : "يا علي، لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة"[13]، وفي معناه عدة أحاديث، بل لم يرخص الشارع في الجلوس بالطرقات للرجال إلاّ بشرط إعطاء الطريق حقَّه؛ ومنه غض البصر، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والجلوس بالطرقات"، فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها. فقال: "إذ أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"[14]… فالجلوس على الطرقات، والمشي على الأرصفة ممنوع من حيث الأصل إن أطلق من القيود الشرعية المنصوص عليها في الآثار النبوية، وإنما رخص فيه بضوابط.
فهل يستريب عاقل في النهي عن خلطة ممنهجة منظمة تقتضي الخضوع بالقول في الحديث، وتكرار النظر وإدمانه، وذلك أقل خطرها!