الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد فإن مما تقرر عند أهل الإسلام شمولية الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وتفصيلها الأحكام كما قال ربنا تعالى: (وكل شيء فصلناه تفصيلاً) [الإسراء: 12]، (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) [النحل: 89]، (ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) [يوسف: 111]، (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً) [الإسراء: 9]، قال صاحب الأضواء بعد أن استرسل في تفسير هذه الآية: "ولما كان تتبع جميع ما تدل عليه هذه الآية الكريمة من هدي القرآن للتي هي أقوم يقتضي تتبع جميع القرآن وجميع السنة؛ لأن العمل بالسنة من هدي القرآن للتي هي أقوم، لقوله تعالى: (وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا) [الحشر: 7]، وكان تتبع جميع ذلك غير ممكن في هذا الكتاب المبارك، اقتصرنا على هذه الجمل التي ذكرنا من هدي القرآن للتي هي أقوم تنبيهاً بها على غيرها والعلم عند الله تعالى"، وليتأمل من شاء ما كتبه صاحب الظلال على قوله تعالى: (يهدي للتي هي أقوم)، أو ليكتف بحديث سلمان رضي الله عنه لما قيل له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟! فقال: أجل! لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم[1].
وهذا كله مما نجل مقام فضيلة الشيخ عوض القرني –زاده الله هدى- عن التلوث به، بل هو في منأى عنه نحسبه كذلك والله حسيبه، فالشيخ عندي غير مجهول القدر ولا مجحود الفضل.
أما الإشكال الذي ظهر في الحوار فإشكال لحظته في العقد الأخير، بدأ في إشهاره بعض الأفاضل من أهل العلم منذ سنوات قليلة، ولعله ينحصر في تصورهم للديمقراطية أولاً، ثم في إشكاليات على التصور الذي يستسيغون استنساخه في عالمنا الإسلامي.
أما التصور فالشيخ -بورك فيه- يعلم أن الديمقراطية ليست نظاماً لتولية الحاكم فحسب بل هي آلية لاختيار الحاكم وانتخاب المشرعين الذين يليهم سن التشريعات الدستورية والتعديل فيها… فهي في النهاية وسيلة لاختيار النظام الذي يرضى الشعب أن يحكم به، وتعريفها الذي ينصون عليه هو: حكم الشعب، وبعضهم يقول: حكم الأغلبية، وفلسفتها قائمة على جعل السلطة العليا للشعب، والشعب يمارس سلطته بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال نظام يمثله عادة ما يتم تشكيله دورياً وفقاً لانتخابات حرة.
وهنا الإشكال فالشيخ يفترض ديمقراطية لا وجود لها تقوم على مبدأ الانتخاب بحيث لا تخالف تعاليم الشريعة، وهذا لا يكون وفقاً لمبادئ الديمقراطية، ولا يكون كذلك وفقاً للأحكام الشرعية:
ولو طبق نظام ينتقص من حدود الحريات بالمفهوم الأممي وكذا المساواة لما رضي المراقبون الدوليون بتسميته نظاماً ديمقراطياً، ولما ساوت تسمية الشيخ له ديمقراطية شيئاً عندهم، كشأن ديمقراطية بعض الساسة في عالمنا الإسلامي.
وللشيخ حفظه الله كلمات أخرى ربما فهم منها أنه لا يقبل أصلاً بتعددية تدخل حزباً كافراً في المنافسة، كجوابه على السؤال السادس وليس هذا بالبين في كلامه فالتعددية التي تدخل في الإطار الشرعي كلمة واسعة استوعبت في دولاً قريبة حتى الحزب الشيوعي وإن لم يجز تصويت المسلمين له أو دخولهم فيه، وكان ذلك بناء على آراء منظرين إسلاميين، يزعمون أن التعددية في العهد النبوي استوعبت في دولة المدينة أطياف اليهود! ولو لم يصرح الشيخ في جواب السؤال الثالث والخامس بما يفهم منه أن لغير الإسلاميين أن يترشح لالتمست لكلامه على ما قال في جواب السؤال السادس تخريجاً حسناً، وإن كنت أخالفه –ويخالفه العالم- في تسمية مثل هذه ديمقراطية، كما يخالفونه على جعل الانتخاب مجرد طريق لمعرفة توجهات الناس ومراداتهم لا الحكم.
مع أن المصالح المرسلة قد تدخل القوانين التنظيمية والإدارية دون التشريعات القضائية الحكمية إلاّ في حدود ضيقة كالتعزيرات، والنظام الديمقراطي يتحكم في الأمرين معاً ما فيه نص وما هو محل اجتهاد، لكن لو قدر أنه في تعريف الشيخ حفظه الله أو اصطلاحه يتعلق بشأن الأمور التنظيمية والإدارية –وظاهر كلامه لا يفيد هذا- لما كان موافقاً للشريعة بل مخالفاً لها إذ يجوز أن يتولى الشأن غير أهل الشأن، فنفس النظام الذي يجوز هذا نظام غير شرعي، فهو يجوز ما يمنعه الشرع، فعلم أن نفس الوسيلة النابعة من آليات الديمقراطية غير مباحة.
فتبين مما سبق أن الشيخ بارك الله في علمه لم يوفق في تصور مبادئ الديمقراطية، ولم يوفق كذلك في الحكم على آلياتها المجردة وذلك بناء على ما أفهمته ألفاظه، ومع ذلك أقول ربما كان للشيخ تصور آخر للديمقراطية لم تسعفه العبارات والحوار المقتضب على بيانه كما يريد، لكنَّ هذا لا يخليه من عتب المحبين فقد علم أن من مدارك الشرع ترك الألفاظ المجملة والعبارات المحتملة، فكيف بالمنكرة، وقد واشتهر عن الإمام أحمد أنَّه قال: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع"[5]، وذلك لأن التحدث بالألفاظ المجملة ليس من جادة أهل السنة، فالتحدث بها شيء، والحكم عليها مسألة أخرى مبنية على الاستفصال من مراد القائل.