قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (المائدة:101).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (رواه الترمذي وحسّنه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأحمد والطبراني والحاكم وغيرهم، وقد اختلف في إسناده. وصححه الألباني في صحيح الجامع).
كم للغة العرب من أياد بيضاء في تهذيب الألسنة من اللحن! وكم لها – لمن استرشد بها في معرفة معرفة الحسن من القبيح – من أياد بيضاء في تهذيب الأخلاق!
كيف لا وكتاب الله – جل وعلا – الذي ارتضاه منهاجاً لنا.. نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}، فلا نفقه مواعظه وأوامره ونواهيه إلا بالدراية بها!
"الفضول" – كما في المعجم الوسيط -: ما لا فائدة فيه. يقال: هذا من فضول القول. واشتغال المرء أو تدخله فيما لا يعنيه. و(الفضولي) من الرجال: المشتغل بالفضول أي الأمور التي لا تعنيه.
وأما "العدْل" بفتح العين وإسكان الدال فهو – كما في القاموس المحيط -: ضد الجور، وما قام في النفوس أنه مستقيم، كالعدالة. ويقال للواحد: رجل عدل، وامرأة عدل، وعدلة، والجمع عدول.
كم من مغمور بين الناس صان نفسه عن آفة الفضول، والتطلع لما لا يعنيه من شؤون؛ فعظم شأنه في نفوس الناس بذلك، فيما تصاغر آخرون.. منهم من يشار إليهم بالبنان ؛ بانزلاقهم في مهاوي هذه الآفة؛ واقتحامهم في أسرار الناس وخاصة أمرهم بتساؤلات يجيبونهم عنها بسيف الحياء، ثم ينفضون عنهم وقد شوّه الفضولُ صورة العدول البيضاء النقية في مخيلاتهم!
وهكذا اجتمعت مع آفة حصول الفضول من عدل قدوة: آفة تسليط سيف الحياء على ألسنة الناس؛ لتلقي للفضولي بكلمات تطفئ أو تخفف نار فضوله؛ وفي مأثور الحكمة: "ما أخذ بسيف الحياء فهو غصب"!
فيالله العجب من إخوان ومتحابين يحسبون من حقهم على إخوانهم وأحبابهم في الله: أن يكون سرهم وعلانيتهم لهم سواء، وألا يكون لأمر لهم دونهم خفاء!
والأعجب أن يُنظر إلى المتعفف عن الفضول والتطلع إلى خفايا حياة الناس على أن فيه جفاءً وانقباضا وإحجاماً، دون تفريق بين ما يليق وما لا يليق! فشتان بين التواصل وتفقد أحوال الأصحاب، وبين التطفل على أسرار دونها ستر وحجاب!
ولله در القاضي الثقة "علي الجرجاني"، الذي أثنى عليه الإمام الذهبي في ترجمته له في "سير أعلام النبلاء"، ووصف أبياتاً له بـ"الفائقة" يقول فيها مما له صلة بموضوعنا؛ من التعفف عما لا يعني المرء، ولزومه عزة النفس، في فوائد أخرى رائقة مستطابة:
فما بال أقوام يفرّطون في مروءتهم بشروى نقير من فضول وتطلع واستشراف لما لا يعنيهم؟!
هذا مع كونها خصلة مذمومة ينحاز الحر بعرضه عنها، وقد ذمّهاَ السلف – رحمهم الله تعالى – وأصحابها، قال القرطبي – رحمه الله – في تفسيره: "قال ابن عون: سألت نافعا عن قوله تعالى: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ..} فقال: لم تزل المسائل منذ قط تكره. روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات وكره لكم ثلاثا: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال"… وقيل: المراد بكثرة المسائل: السؤال عما لا يعني من أحوال الناس؛ بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم والاطلاع على مساوئهم.." (انتهى مختصرا).
"ومعنى هذا الحديث: أنَّ من حسن إسلامه تَرك ما لا يعنيه من قول وفعل، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال. ومعنى يعنيه: أنْ تتعلق عنايتُه به، ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية: شدة الاهتمام بالشيء، يقال: عناه يعنيه: إذا اهتمَّ به وطلبه، وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس، بل بحكم الشرع والإسلام، ولهذا جعله من حسن الإسلام، فإذا حَسُنَ إسلامُ المرء، ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال..".
إلى أن قال: "وإذا حسن الإسلام اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فإنَّ هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامهُ، وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أنْ يَعْبُدَ الله تعالى كأنَّه يراه، فإنْ لم يكن يراه، فإنَّ الله يراه" انتهى كلامه رحمه الله.
* أنه ينبغي للإنسان أن يتطلب محاسن إسلامه فيترك ما لا يعنيه ويستريح، لأنه إذا اشتغل بأمور لاتهمّه ولا تعنيه فقد أتعب نفسه!
جزاء الفضولي..!
لا يلومنّ من أهان نفسه وأضاع وقاره بإدمان الفضول إلا نفسه.. إذا لحقه ما قد يلحق أهلها من هوان ومذلة؛ فالجزاء من جنس العمل، وقد قيل: "من طلب ما لا يعنيه نال ما لا يرضيه"!
بل لعل في صدّ الفضوليين عما يستشرفون إليه بحكمة وحنكة من كل لبيب عاقل نهياً لهم عن هذه الآفة يردعهم عن مقارفتها أو بعض ذلك؛ حفظاً لماء وجوههم!
ففي ذلك توجيه لصرف المرء عن تطلعه لما لا ينفعه.. إلى ما ينفعه، فما أوجزها من تربية نبوية بليغة!
الفضول المقبول..!