ويتجلى المشهد حين يقف احمد بن حنبل في سجنه وينصحه ناصح بان يهادن الخليفة ويسمعه ما يريد سماعه فيقول له : يا إمام, لو أنك ورَّيت فأبقيت على نفسك فقال له : انظر من خلفك عبر كوة في السجن , فنظر من خلفه فإذا ألوف قد جلسوا وهم يمسكون بالأوراق والأقلام ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد .
ثم قال له : يا هذا , لو أن أحمد بن حنبل ورى ما يدري هؤلاء أن أحمد بن حنبل يقول بالتورية , ثم قال " إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يتمادى في جهله، فمتى يتبين الحق؟ " وكان يقول: "من ينجّيني يوم القيامة من هؤلاء الذين يمسكون أقلامهم ينتظرون ما أقول؟
ومشهد آخر حبست فيه الأمة أنفاسها , بعد أن اجتاح التتار معظم أرجاء العالم الإسلامي وهتكوا ستر بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية وأبادوا أهلها وخربوا معالمها وعاثوا فسادا في كل شبر فيها , واشتد الكرب على الأمة التي يؤرخ لها ابن الأثير في أحداث سنة 617 وكان معاصرا لها محجما عن كتابتها حيث يقول : " لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى ، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب بيديه نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك ؟ فيا ليت أمي لم تلدني ، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً , ويقول " إنها الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى، التي عقمت الأيام عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن،لم يبتلوا بمثلها ،لكان صادقاً ،فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. [1]
وتعلقت قلوب الأمة بالقائد المجاهد سيف الدين قطز ومعه ركن الدين بيبرس ومن خلفهم يدفعهم ويحمسهم العالم الرباني " العز بن عبد السلام " الذي يتحرك في اتجاه تثبيت القلوب وتعظيم الأجر وتحفيز الناس للجهاد وتحقير شان الدنيا وبث الثقة والأمل في الجند والقادة معا.
فثبتت الأقدام ورسخت القلوب واطمأن الناس لنيلهم إحدى الحسنيين , وواجهوا تلك الجيوش التي لم تكن تعرف التوقف عن الولوغ في الدماء وثبتوا أمامهم , وانتصر الجيش المسلم الموحد القليل العدد والعدة على أقوى جيوش الأرض حينها في معركة عين جالوت .
ولم تكن هذه المشاهد إلا غيضا من فيض مواقف مشرفة لقادة الأمة وعلمائها ومجاهديها حين حبست الأمة أنفاسها وانتظرت وكان لها من الرجال من يستطيعون أن يلبوا لها حاجتها
هل هناك اليوم قائد تنتظر الأمة كلها موقفه ؟ وتتلهف على سماع كلمته التي تتوقف مسيرة الناس عليها ليمضوا في الطريق الذي يرسمه لهم ؟
أو هل هناك زعيم أو قائد يعلن رأيا تجمع الأمة عليه أو يحسم بكلمته خلافا فيزيله أو شبهة فيبينها ويظهرها
هل هناك عالم في جميع أرجاء الأمة الإسلامية يتطلع الناس إلى فتواه وكلمته التي يستطيع بها أن يهز أركان العالم فلا يقوى على الاستهانة بها لعظم تأثيرها على الناس ؟
وهل هناك خطيب للجمعة – على كثرة الخطباء والمساجد – ينتظر الناس خطبته بترقب وشغف وتهتز له المنابر وتتغير على يديه أفهام الناس وتوجهاتهم وينطق بالحق المر أو يعلمهم في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ .
وعلى الرغم من كثرة المطبوعات العربية وتنوع وسائلها اليوم , فهل هناك كاتب – في أي ميدان – تنتظر الأمة ما تخطه أنامله بشوق ولهفة وانتظار لتلك الكلمة التي تفعل في الناس فعل السحر فتحرك الجماهير وتصلح ما يفسد المفسدون ؟ وتضع الحق في نصابه وتستخلصه من بين ركام الزيف والبهتان ؟ .
أم هل هناك عالم أو صحفي أو محلل في أي مضمار أيضا تنتظر المطابع بلهفة ما تجود به قريحته حتى تدور آلاتها وتخرج للناس موقفا واضحا ثابتا لا تلون فيه أو مداراة ولا مواربة .