جاءت أولى الجولات الخارجية للرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما بعد 100يوم من دخوله البيت الأبيض، لتثير اهتماماً واسعاً لقراءة ما يريده الرجل فعلاً، بعد انقشاع الألعاب النارية الملونة ، وزوال الفرقعات الانتخابية البراقة. وقد ضاعف من هذا الاهتمام أن جولة أوباما اشتملت على المشاركة في قمة مجموعة العشرين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من عرش الرأسمالية المتداعي، وكذلك احتفال حلف شمال الأطلسي"ناتو"ببلوغه العام الستين من عمره الحافل بالتوسع والإرهاب والاعتداء على الشعوب في شتى أنحاء العالم.
واستغلت الآلة الدعائية الأمريكية بخبراتها الهوليودية المتراكمة التركيز الدولي على جولة أوباما، واختارت له توقيتاً مدروساً إطلاق "قنبلة"من عيار ثقيل، تلخصت في التلميح بموافقة واشنطن للمرة الأولى على إخلاء العالم من الأسلحة النووية!! وانهالت علامات الاستفهام وانطلقت القراءات المتضاربة حول الفكرة وحدودها والغاية من إعلانها . . . فهل هو جدا في طرحه؟ أم أنه يراهن على تعقيدات هذا الملف التي تَحُولُ دون تنفيذه بحيث تنقلب الصورة وتبدو أمريكا باحثة عن سلام الكون، في حين يرفض آخرون هذا الهدف؟ وبذلك يحقق الرجل مكسباً دعائياً ضخماً بلا مقابل!!
على مستوى شخصي مباشر، يلاحظ أن فريق الإعلام المسؤول عن تلميع صورة الرئيس الجديد وصورة بلاده القاتمة عالمياً، يسعى إلى إقناع الأمريكيين قبل سواهم، بأن فكرة إزالة أسلحة الدمار الشامل النووية من الأرض، هي من بنات أفكار أوباما، وأنها انبثقت مؤخراً على نحوٍ عجائبي سحري!! ولو سلّمنا –جدلاً-بأن استراتيجيات العم سام ترتبط بشخص الرئيس ومزاجه، فإنها تصبح مستحيلة في قضية بهذا المستوى غير المسبوق، والتي تأخذ دلالات عميقة بل جذرية لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، بل منذ قيام أمريكا على قاعدة تفوق طبقة العرق الأبيض البروتستانتي الأنجلوسكسوني"الواسب"!!
فما الذي يدعو بلداً قامت أهميته الدولية على أساس قوته العسكرية الهائلة(في السلاح الشامل فقط يملك القدرة على تدمير الكرة الأرضية500مرة!! )، ما الذي يدعوه إلى مجرد مناقشة الاقتراح بينما دأب على رفض مقترحات دول نووية كبرى تقليص المخزون من أسلحة الفتك الشامل؟
وكيف يراد لنا أن نصدّق هذا الوعد-مهما كان غامضاً وملتبساً-من دولة هي الأشد فجوراً في استخدام هذه الأسلحة فعلياً، بدءاً من "التفرد"بإلقاء قنابل ذرية على البشر في هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين فور امتلاكها تقنية السلاح الذري في طفولته المبكرة!! ثم السلاح الكيميائي الفظيع فوق غابات فيتنام وسكانها العزل، ثم استخدام اليورانيوم المخصب والمنضب في العراق وأفغانستان، والفوسفور الأبيض في غزة ولبنان بوساطة حلفائها اليهود!!
وبما أن الفصل في مدى جدية "قنبلة"أوباما يتطلب وقتاً غير يسير، فإنه ينبغي البحث عن دوافع أمريكا وصناع قرارها الاستراتيجي العابر للرؤساء والساسة كلهم، إذا كان الاقتراح صادراً عن اقتناع بتطبيقه. فهل هم يترجمون في المضمار العسكري إرهاصات تراجع الدولار عن سيطرته المطلقة في سوق النقد العالمي، بحيث يغدو عملة رئيسية من بين عملات أخرى، مثلما لاح على استحياء حتى في قمة العشرين الأخيرة في لندن؟ وبديهي أن ذلك مؤشر على انحسار الهيمن الأمريكية الأحادية في سائر الشؤون الدولية الأخرى. وهل هو الخوف الأمريكي العميق إلى حد الهوس من التقدم الصيني الذي لا يتوقف، إذ ثبت أن بكين ليست موسكو سواء أكان في السياسة أم في الاقتصاد؟ فكيف إذا أخذنا في الاعتبار بوادر استعادة روسيا شيئاً من حيويتها الذاهبة وبعضاً من مناعتها المفقودة؟
ويضاف إلى مجمل ما سلف بيانه، حرص واشنطن على استباق لاعبين إضافيين يمكن أن يلجوا النادي النووي، بعد فشل الغرب في منع باكستان وربما إيران من دخوله، وبذلك يبقى للعم سام تفوقه في الأسلحة الحيوية"البيولوجية"والكيميائية فضلاً عن الأسلحة التقليدية المتقدمة.
ويبقى الأهم من كل ذلك، أن الولايات المتحدة الأمريكية بعد إخفاقاتها في العراق وأفغانستان وزلزالها المالي العاصف لم تعد قادرة على المضيّ في سباق تسلح مفتوح، بعد أن كان متعتها الوحيدة لإذلال الآخرين وإفقارهم!!