لم يعد غريباً أن تسمع أو تقرأ لأحد الباحثين أو ربما – الدعاة- مدحاً وثناء عطراً لبعض من عُرف واشتهر بأفكاره وأفعاله الإفسادية في المجتمع ، وممن يُعد من أساطين الفكر الليبرالي العلماني .
وللوهلة الأولى تـتوقع أن سببَ ذلك المدح والثناء انقلابٌ وانتكاسٌ في حال أولئك ، فلا تملك إلا أن تردد وتبتهل : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . لكن عندما تـتأمل ما قالوا وما كتبوا تجده لا يعدو كونه غفلة وقلة علم بحال أولئك المفسدين وصفاتهم ، وبالمنهج الرباني في التعامل مع خداعهم وتلبيسهم .
وقد قال سفيان الثوري رحمه الله : "من العجب أن يُظن بأهل الشر الخير" .
وفي هذا المقال عرضٌ موجز لعدد من الحقائق والمفاهيم عن المنافقين وبعض أساليبهم وطرقهم في خداع المؤمنين ، والحال التي ينبغي للمسلم أن يتحلى بها عند التعامل معهم .
من كثرة ما يسمع الأخيار ويرونه مما يفعله المنافقون من الإفساد في الأرض ، يظن بعضهم أن المنافق سيء الخلق ، بذيء اللسان ، غليظ في التعامل .. فإذا لقي أحدهم ورأى حفاوته البالغة وجمال عبارته ودماثة خلقه ولطفه أربكه هذا التعامل وفاجأته تلك الحفاوة ، وقد يصل به ذلك إلى أن تهتز لديه الكثير من القناعات والحقائق عن ذلك المنافق وأفعاله .. فيصبح يُـثـني عليه في المجالس ووسائل الإعلام ، بل ويتهم من يظنون بذلك المنافق ظن السوء بـ (المتحمسين) و (قليلي العلم) وغير ذلك من الأوصاف الجائرة ، والله المستعان على ما يصفون .
ولو علم وفقه أولئك بعضَ صفات المنافقين التي وصفهم الله تعالى بها حال تعاملهم مع المؤمنين لم يفجأهم حسن كلامهم وجميل حديثهم وعظيم حفاوتهم . فقد وصفهم عالم السر والنجوى سبحانه فقال : (هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) آل عمران: 119 . قال ابن كثير رحمه الله : "وهذا شأن المنافقين يُظْهِرون للمؤمنين الإيمانَ والمودّة، وهم في الباطن بخلاف ذلك من كل وجه. وقال صاحب الظلال : يتظاهرون للمسلمين – في ساعة قوة المسلمين وغلبتهم – بالمودة . فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة . وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم الود والثقة ، وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال"
وقال عالم السر وأخفى سبحانه في وصفهم: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) المنافقون : 4 . قال البغوي : "فتحسب أنه صدق ، قال عبد الله بن عباس: كان عبد الله بن أُبيّ جسيمًا فصيحًا ذلق اللسان" .
وقال جل وعلا عنهم : (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) البقرة:9. قال ابن كثير : "وَقَالَ سَعِيد عَنْ قَتَادَة : نَعْتُ الْمُنَافِق عِنْد كَثِير : خَنِع الْأَخْلَاق يُصَدِّق بِلِسَانِهِ وَيُنْكِر بِقَلْبِهِ وَيُخَالِف بِعَمَلِهِ يُصْبِح عَلَى حَال وَيُمْسِي عَلَى غَيْره وَيُمْسِي عَلَى حَال وَيُصْبِح عَلَى غَيْره وَيَتَكَفَّأ تَكَفُّأ السَّفِينَة كُلَّمَا هَبَّتْ رِيح هَبَّت مَعَهَا" .
قال ابن القيم رحمه الله في طريق الهجرتين : "ومن صفاتهم (أي المنافقين) أنهم أعذب الناس ألسنة ، وأمرّهم قلوباً ، وأعظم الناس خلفاً بين أعمالهم وأقوالهم … وأن أعمالهم تُكذِّب أقوالهم، وباطنهم يُكذب ظاهرهم ، وسرائرهم تـناقض علانيتهم" .
فإن تحدثت يوماً ما في مجلس عن أحد المنافقين ، وعن خطر ما يفعله من إفساد وتضليل انبرى لك أحد الصالحين البسطاء المخدوعين فقال : لا تقل فيه إلا خيراً .. فلقد رأيته في المسجد يصلي وللمال ينفق وسمعته باسم الله يلهج .
ولو كان هناك شيء من التدبر لكتاب الله تعالى لزال اللبس وانقشعت الغشاوة عن أعين أولئك المخدوعين عندما يرون أحداً من المنافقين يؤدي طاعة من الطاعات .
لقد وصف الله عز وجل المنافقين بأنهم يصلون مع المسلمين في المساجد لكنهم لا يأتون إلى الصلاة إلا بتـثاقل وكسل ، ولا يدفعهم إليها إلا مراءاة الناس ومصانعتهم ، ورغبة في مدحهم وخوفاً من فضحهم . قال الله تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ) النساء : 142قال الطبري : "يَعْنِي : أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا مِنْ الْأَعْمَال الَّتِي فَرَضَهَا اللَّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْه التَّقَرُّب بِهَا إِلَى اللَّه ، لِأَنَّهُمْ غَيْر مُوقِنِينَ بِمَعَادٍ وَلَا ثَوَاب وَلَا عِقَاب ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ مَا عَمِلُوا مِنْ الْأَعْمَال الظَّاهِرَة بَقَاء عَلَى أَنْفُسهمْ وَحِذَارًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يَسْلُبُوا أَمْوَالهمْ ، فَهُمْ إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة الَّتِي هِيَ مِنْ الْفَرَائِض الظَّاهِرَة ، قَامُوا كُسَالَى إِلَيْهَا ، رِيَاء لِلْمُؤْمِنِينَ ، لِيَحْسَبُوهُمْ مِنْهُمْ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ؛لِأَنَّهُمْ غَيْر مُعْتَقِدِي فَرْضهَا وَوُجُوبهَا عَلَيْهِمْ ، فَهُمْ فِي قِيَامهمْ إِلَيْهَا كُسَالَى. عَنْ قَتَادَة ، قَوْله : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كُسَالَى } قَالَ : وَاَللَّه لَوْلَا النَّاس مَا صَلَّى الْمُنَافِق ، وَلَا يُصَلِّي إِلَّا رِيَاء وَسُمْعَة ".
أما حال المنافقين مع الصدقة فهم يتصدقون ولكن بشح وكره للإنفاق ، كما قال الله تعالى عنهم (ولا ينفقون إلا وهم كارهون) التوبة : 54 أي "من غير انشراح الصدر وثبات النفس" ، كما قال ذلك السعدي رحمه الله .
سُئل شميط بن عجلان رحمه الله : هل يبكي المنافق ؟ فقال : يبكي من رأسه ، أما من قلبه فلا.
رضي الله عن الصحابة أجمعين الذين لم يكن يستغفلهم أحد من المنافقين بزخرف من القول مهما كان ذلك القول صواباً ، وحتى لو قيل بحضرة نبيهم وقائدهم صلى الله عليه وسلم .
كان عبد الله بن أُبيّ بن سلول إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله بين أظهركم أكرمكم الله تعالى به وأعزكم، فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس … لكن بعد أن خذل المسلمين في غزوة أحد ورجع بثلاثمائة من المقاتلين أراد أن يفعل ذلك، فلما قام أخذ المسلمون بثوبه من نواحيه وقالوا له:"اجلس عدو الله، والله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت" .
ولأحد كبار التابعين وهو الحسن البصري رحمه الله قولاً نفيساً يُحذِّر فيه من الانخداع بالأقوال ويدعو إلى النظر في الأفعال ، فيقول : "اعتبروا الناسَ بأعمالهم ، ودعوا أقوالهم ؛فإن الله لم يدع قولاً إلا جعل عليه دليلاً من عمل يُصدِّقه أو يُكذِّبه ، فإذا سمعت قولاً حسناً فرويداً بصاحبه ؛ فإن وافق قوله عمله ، فنعم ونعمة عين ، فآخه، أحببه، وأودده، وإن خالف قولاً وعملاً فماذا يشبه عليك منه ؟ أو ماذا يخفى عليك منه ؟ إياك وإياه، لا يخدعنك".
كان صياد يصطاد العصافير فييوم ريح، فجعلت الرياح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان، وكلما صاد عصفوراً كسر جناحهوألقاه في شباكه ، فقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا!، ألا ترى إلى دموع عينيه؟فقال له الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه، ولكن انظر إلى عمل يديه .
رابعاً : الحكم على الأشخاص ليس وفق مصالحنا الشخصية المتحققة منهم إنما وفق الشرع :