هل تكفي 30 قضية قبلها القضاء الأمريكي من أصل 200 رفعت على وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد لكي تشفي صدور قوم مؤمنين؟!
إن الهوان الذي يلقاه المجرم رامسفيلد ورئيسه بوش هذه الأيام يدفع إلى اليقين بأن الظلم منتهاه إلى الندم والخزي والخذلان وإن بدت الأمور على غير ما يتصور المظلومون بادي الأمر، ولتدعونا نعود بالذاكرة إلى الوراء؛ ففي سهرة "بيضاوية" خاصة طلب الرئيس الأمريكي من وزير دفاعه السابق دونالد رامسفيلد في شهر مايو 2002 قبل الحرب على العراق بأقل من عام ؛ تلاوة صلاة شكر: "هل بوسعكم مساعدتنا على ذلك يا معالي الوزير!"، فالرئيس الأمريكي يدرك البعد الديني البارز في حياة وزير دفاعه باعتباره أحد أركان المحافظين الجدد، وأحد أقانيم الاستراتيجية المندفعة بأصولية دينية ترى أمريكا مخلصة العالم ومبعوثة الخير!!
ما خلص إليه تقرير مشترك أعده الديمقراطيون والجمهوريون في مجلس الشيوخ في العاصمة الأمريكية واشنطن يوم 11/12/2008 هو أن وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد يتحمل المسئولية في تعذيب السجناء في سجن أبو غريب بالعراق، وفي غيرها من أماكن الاعتقال الأمريكية، وأثناء تقديم التقرير وصف السيناتور جون ماكين طريقة عمل رامسفيلد بأنها ‘لا تُغتفر"
هذه شهادة ماكين الصقر الجمهوري فما بال اليتامى والثكالى والأرامل!!
رامسفيلد البالغ من العمر 76 عاماً يعاني تفاقمات اتهامات بارتكاب جرائم حرب، وهو المتدين الأبرز في فريق بوش، وهو قد سبقه في الرحيل من معادلة التأثير المباشر على الإدارة الأمريكية بعد استقالته التي وقعت قبل عامين، وأنهى رحلة طويلة من التأثير الصاعد في الحياة السياسية الأمريكية والعالم.
الرحلة التأثيرية بدأت عندما كان دونالد رمسفيلد أصغر وزير دفاع في تاريخ الرئاسة الأميركية حينما عمل في إدارة الرئيس الأسبق فورد في الفترة من 1975 – 1977 قبل أن يعود بقوة إلى قيادة هذه الوزارة المهمة في عهد الرئيس الحالي جورج بوش.ترقى "رمي"، كما يكنى، بين المناصب الهامة خلال الستينات إلى أن أصبح مسؤولاً هاماً في ثلاث إدارات جمهورية وأخيرا إداريا كبيرا في مؤسستين رئيسيتين.
وفي عام 1999 انطلق من منصبه كرئيس لجنة تقييم خطر الصواريخ البالستية على الولايات المتحدة ليقود مهمة نيابية دعمت بشدة فكرة إنشاء نظام صواريخ دفاعية مشيرا إلى إمكانية وجود تهديدات من العراق وكوريا الشمالية وأيده في ذلك الرئيس جورج دبليو بوش وديك تشيني.
وقبل تعيينه وزيرا للدفاع كان على رأس قائمة الرئيس بوش لشغل منصب مدير الاستخبارات المركزية.
وقد كان رمسفيلد قريبا من الرئاسة دائما، فقد رشح نفسه لمنصب نائب الرئيس عام 1980 وترشح لرئاسة الجمهورية عام 1988 ضد جورج بوش الأب، قبل تنازله عنها ودعمه لسناتور مدينة كنساس بوب دول لذات المنصب. وكان رئيسا لحملة دول الانتخابية ضد بيل كلنتون عام 1996.
إلى جوار تدين رامسفيد، فالرجل يعد من الشخصيات العدوانية العنيدة بدأت ملامح عدوانيته مبكراً عندما كان في التاسعة والعشرين من عمره، عندها تزعم جماعة تعرف باسم (مهاجمو رامسفيلد)، كما أنه يعد من المتشددين في أسلوبه الإداري فقد وزع على العاملين بالبيت الأبيض مرجعا أسماه "قواعد رامسفيلد"، كانت أول قاعدة فيه "لا تقم بدور الرئيس، فلست رئيسا". وعندما كان وزيرا للدفاع في إدارة الرئيس فورد اتخذ خطا متشددا حيث عارض اتفاقية خفض الأسلحة الإستراتيجية "سولت 2".
ولم يكن رامسفيلد موفقاً في منصبه كوزير للدفاع في إدارة الرئيس بوش، ففي الوقت الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية بحاجة إلى شخص حاذق في التنسيق بين مختلف الوكالات الأساسية المعنية بالأمن في الحكومة الأمريكية، وهي الطريقة الوحيدة التي كان من الممكن أن تؤدي إلى نجاح المشروع الإمبراطوري الأمريكي الذي جاء به المحافظون الجدد، تولى المهمة شخص بعكس ذلك تماماً، رجل قد اشتهر بقدرته على خوض معارك المنافسات الشرسة بين الوكالات المختلفة ـ على حد وصف الكاتب الأمريكي مايكل هيرش ـ وقد عمل في أعقاب 11 سبتمبر على تدمير التعاون بين الوكالات المختلفة بدلاً من تعزيزه، فأبعد وكالة الاستخبارات الأمريكية عن أفغانستان وأبعد وزارة الخارجية الأمريكية عن الملف العراقي، وفي الأسبوع الأخير من توليه المنصب خلص المفتش العام في العراق ستيوارت بوين في تقرير له إلى أن وزارة الدفاع الأمريكية لا تنسق مع الخارجية بشأن ما يسمى بإعمار العراق، وهو ما كانت تعول عليه الولايات المتحدة من جهة اقتصادية وسياسية لتحسين وضعها هناك.
وبعد سنوات من العناد أقر وزير الدفاع الأميركي المستقيل دونالد رامسفيلد بأن الجهود لتحقيق الاستقرار في العراق لم تثمر، لافتاً الى أنه لم تكن لدى الجيش الأميركي الخبرة لمحاربة مسلحين لا يملكون تنظيماً هيكلياً واضحاً!! وأفاد الوزير المستقيل أن العنف بين المجموعات الداخلية، بين مجموعات مسلمة متطرفة ومجموعات مسلمة أخرى، أوجد "وضعاً بالغ التعقيد … أقول صراحة أن ليست لدى بلدنا خبرة في السيطرة على متطرفين عنيفين لا يملكون جيشاً ولا قوات بحرية أو جوية ويعملون في الظلام". ورأى أن التعامل مع المتطرفين يتطلب صبراً ومثابرة، كما كان الوضع خلال الحرب الباردة ومقاومة الشيوعية. و"إذا كنا نملك المثابرة والتصميم فسننجح في رؤية الشعب العراقي يتولى الأمور في بلاده ويحكمها ويضمن أمنها، وهذا طبعا ما نأمل فيه ونرجوه".
وقد لاحقت فضائح سجون أبو غريب العراقي وجوانتنامو الكوبي وباجرام الأفغاني الوزير المستقيل بالإضافة إلى إخفاقه في تدمير حركة طالبان والقاعدة في أفغانستان وباكستان، وفشله في القضاء على المقاومة العراقية.
هذا المتدين الأرعن قد جعل الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها تهتز كثيراً بفعل ضرباته الاعتباطية وسياسته العرجاء المنفردة، وقالت عنه الموسوعة العالمية أنه قد "اشتهر بقتل الملايين خلال حربي أفغانستان والعراق، كما أمر بوضع السجون السرية في أوروبا، وأمر بالاعتقالات السرية، وأسس أكبر معتقل في العالم، جوانتانامو، وأمر باستخدام جميع أنواع التعذيب، ومنها الاغتصاب واستخدام الكلاب والضرب بالكهرباء والقتل خلال الاستجواب"، وهو ما يجسد حقيقة لم تعد خافية على أحد بعد أن لاحق الخزي هذا القرصان الذي احتل أكبر منصب عسكري في بلاد تعلن الآن أنها تكافح القرصنة الفقيرة!!
ويبدو دونالد رامسفيلد الملاح الشاب بالبحرية الأمريكية في السابق قد أرسى سفينته على شاطئ الإجرام.. ويبدو سيد البنتاجون الذي منح صدام حسين قبل عقدين مساعدة أمريكية في مجال الأسلحة الكيماوية قد شاطره نفس المصير حيث نهاية عمرهما السياسي في لحظة فارقة.. واليوم يلاحقه القضاء وغداً سيحاكمه التاريخ بطريقته، وعند الله الجزاء..