يعني الباحث بالفكر التربوي هنا مجموعة المسلمات والأفكار التي تؤلف النظرية الواحدة أو النظريات المتقاربة، والتي بدورها تعتبر المرجعية والأساس لواضعي الاستراتيجيات والبرامج العملية في ميدان التّعليم. فهي جهود في الجانب النظري، يتوقع أن تكون ذات تأثير وفاعليّة في الجانب العملي للتعليم.
وما أطلقنا عليه "الفكر التربوي الإسلامي" هو إسهامات قدمت من مفكرين إسلاميين في عصر النهضة الذي سبق عرضه، ويلاحظ في هذه الإسهامات التأثير الكبير لوجود التحدي الذي أوجده دخول الثقافة الغربية والعلوم الاجتماعيّة الغربية في ثقافات البلاد الإسلاميّة، وهذا التأثير ظهر بأشكال مختلفة، كان منها الاقتباس من هذه الثّقافة الغربية، أو بذل الجهد الفكري لمصادمتها ومهاجمتها والرد عليها، وكان لهذا التأثير أشكال أخرى عديد غير هذين الشّكلين.
وتدور هذه الإسهامات -كلّها أو معظمها- حول إحداث "التجديد" في ميدان التّربية في المجتمعات الإسلاميّة، وتوجيه العملية التربوية في هذه المجتمعات لتكون مؤدية لدورها في المجتمع، قادرة على إحياء القيم الإسلاميّة فيه، بعيدة عن تأثير القيم المتعارضة مع الإسلام، ليكون الإسلام -ديناً ومنهج حياة-هو العامل الأساس في بناء هذه المجتمعات وحركتها، وليتحقق في هذه المجتمعات انتماؤها للإسلام، وتنتهي حالة اغترابها عن دينها وحضارتها وقيمها.
ويمكن اعتبار هذه الإسهامات الحديثة والمعاصرة في هذا الإطار نوعاً من الإبداع والإضافة، أو هي في المصطلح الإسلامي نوع من "الاجتهاد"، وقد نصّ على علاقة عمليّة "التجديد" بـ"الاجتهاد" الشيخ الخواض الشيخ العقاد بقوله: "لا تكون هنالك دعوة إلى التجديد دون معالجة لطرائق الاجتهاد المختلفة أو دون طرق لأبواب الاجتهاد المتعددة، بينما أنه قد يكون هنالك اجتهاد عام أو خاصّ، دون دعوى بالتجديد أو دعوة إليه". [1]
على أن كثيراً من مجالات التجديد في الفكر التربوي الإسلامي ليست اجتهاداً بالمعنى الفقهي للكلمة، إنّما هي اجتهاد بالمعنى العام للكلمة، أي أنه لا يشترط لمن يسهم فيه أن تتحقق فيه شروط المجتهد في الفقه الإسلامي، إنما عليه أن يلتزم بشروط البحث العلمي. ونبّه على ذلك محمد عزّ الدّين توفيق عند بيانه لمضمون التجديد في ميدان ذي صلة وثيقة بالفكر التربوي الإسلامي، هو التأصيل الإسلامي للدراسات النفسيّة. [2]
وقد كثر في نتاج المفكّرين التربويين الإسلاميين في بداية تشكّل الفكر التربوي الإسلامي، التأكيد على فرضيّات أساسيّة، قد تعتبر بمثابة المرتكزات الأساسيّة لنظرية أو نظريّات إسلاميّة تربويّة، لذلك قد تعتبر عموميّات أو مسلّمات لجهد فكري مستقبلي، أكثر تخصّصاً وملاءمةً لبناء التطبيقات عليه. وكثير من هذه الفرضيّات مقتبس من التصور الإسلامي العام عن الوجود والكون والحياة والمجتمع، ولا يتصل بالتّربية وحدها.
ويمكن أن نذكر من هذه الأسس العامة: مفهوم ربانية المجتمع الإسلامي، تكامل خلق الإنسان وجوانب شخصيته، تناسق الخلق في آيات الكون، تكامل الأنظمة الإسلاميّة ومبادئ الشّريعة، كمال الدّين الإسلامي وختمه لرسالات الأنبياء، شمول مفهوم الإيمان وعمق تأثيره في النفس والمجتمع، مفهوم العبادة الشّامل، تجديد أمر الدّين بتجدد متغيرات الحياة، شمول الرّسالة وصلاحيتها المستمرة بتغيرات الزمان والمكان، تغير ما في الواقع بتغيير ما في الأنفس….
ومن الفرضيات التي بني عليها الفكر الإسلامي التربوي ما هو متعلّق بالنظرة للواقع والمجتمع في هذه الحقبة الأخيرة من تاريخ الأمة، مثل ضرورة بناء نهضة أمة الإسلام على أساس قوي من دينها، وأن تعيد صياغة ثقافتها بما يوافق أسس بنائها، ويمنحها القدرة على الانطلاق من حضارتها، ومعظم مفكري الإسلام لا يرون أن الثقافة الغربية تصلح أساساً للنهضة قبل أن تتمكن المجتمعات الإسلاميّة من نقدها وتعديلها حسب ثقافتها الإسلاميّة الأصيلة.
وخلال عقود من الزمن قدم الفكر الإسلامي التربوي إسهامات واسعة، ربما إلى درجة يصعب معها الإحاطة بمعالمه وأساسياته الرئيسة، ويزيد من هذه الصعوبة أن هذا الفكر بعد أن أقرت مسلماته أو معظمها، لم تكن الإسهامات التي بنيت عليها متجهة في اتجاه واحد، على كثرة ما فيها من اجتهاد وإبداع.
ويمكن أن نلاحظ في إسهامات الفكر الإسلامي التربوي الواسعة أربعة محاور تركّزت حولها المعالجات، ويمكن أن نضع لهذه المحاور العنوانات الآتية:
فالمحور الأول الذي تركز حول نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية قصدت الدراسات فيه التعامل المباشر مع هذه النصوص، في سبيل معرفة ما تؤكّد عليه من قيم، وما تقدمه من معلومات وتصورات عن الإنسان والكون والحياة، وما تحتويه من مناهج للبحث والتطبيق.
والمحور الثاني حول الإنسان والمجتمع الإسلامي المنشود قصدت الدراسات فيه بناء تصورات عن الإنسان وتكوينه، ثم عن سلوكه الفردي والاجتماعي، والسنن التي تحكم حركة المجتمعات، وبحث الكثيرون من أصحاب هذه الاهتمامات في محاولات تلخيص وتحديد القيم العليا التي تمثّل الإنسان المتكامل في الإسلام.
[3] المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي (12020 ربيع الثاني 1397هـ)، كتاب المؤتمر، جامعة الملك عبد العزيز، مكة المكرمة، 1397هـ-1977م. ص ص 90-
**المصدر : الرشد