صورة نموذجية راقية , تلك التي يتمثل فيها الداعية إلى الله ببسمة نقية , ويد حانية , وقلب ملىء بالشفقة والرحمة على الناس , فيمسح دمعة الباكي , ويصف الدواء للعليل , وينير السبيل للجاهل , وييسر الهداية لكل حيران .
إنها صورة ذاك الداعية الرفيق الرحيم , الذي يبذل نفسه ويمنح صبره لأجل رسالته أن تحيا وتدب فيها القوة من جديد , إنه في كل حال يقتدي بالرفيق الأول والرحيم الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم ..
ويقول سبحانه : " واصبِر على مَا يقُولُونَ واهجُرهُم هَجراً جَمِيلاً " , والهجر الجميل : أن لا تتعرّض لخصمك بشيء ، وإن تعرّض لك تجاهلت , فقد أمره بالصبر على ما يسمعه من الأقوال البذيئة من خصومه ، صبراً لا عتاب فيه على أحد ، ولا تكبر ، أو دفاع عن الذات ، بل تركهم إلى الله مع الهجر الجميل الذي لا يترك في نفوسهم أذى يحول بينهم وبينه مستقبلاً فلا يُقبلوا عليه ولا يسمعوا هديه ، بل كان هجراً جميلاً لم يقطع خيوط المودة ولم يهدم جسور التواصل .
كما بينت الآيات أن الرفق هو دأب الأنبياء ، فإن الله تعالى لما أرسل موسىمحمد إلى فرعون الطاغية قال " اذهبا إلى فرعون إنهطغى * فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " .
وتصل الآيات إلى غاية الرفق وعظماللين والسهولة في حال إبراهيم، حين دعا أباه إلى الإسلام فصرخ به عمه المشرك وقال: "يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً " – فردّ إبراهيم بكل رفق ولينقائلاً- : " سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً " , فكان الأنبياء عليهم السلاميصِلون بالرفق واللين إلى ما لا يصِل إليه غيرهم كما بينت الآيات .
وقد لازم الرفق النبي الكريم محمدا صلى الله عليه وسلم في مختلف أحواله , في الغضب والرضا , في السعادة والحزن وحتى في وقت الآلام والمضار .
فيوم تشتد به الخطوب ويدميه قومه يدعو لهم : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " , ويوم يطلب منه البعض أن يدعو على من آذاه فإذا به يقول : " إني لم أبعث لعانا " أخرجه مسلم , فغلبت رحمته غضبه , وغلب رفقه شدته .
لقد أدرك محمد صلى الله عليه وسلم أن اللفظ القاسي ورد الفعل القاسي , وصاحب القلب القاسي إنما هو سبب نفور الناس وتحاشيهم القرب منه والتفاعل معه .
والمتأمل في القرآن يجد أنه قد عظم مقام الرفق وأمر به ، بلقد خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله : " ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم"
وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو لأصحاب الرفق الذين يطبقون رفقهم في تعاملهم للناس ويحرصون عليه فيقول : "اللهم من رفق بأمتيفارفق به"
وجعل الرفق نوعا من النعم الغالية التي إذا دخلت على أهل بيت فليعلموا لأن الله قد أراد بهم خيرا فيقولصلى الله عليه وسلم : " إذا أراد اللهبقومٍ خيرًا أدخل عليهم الرفق " أخرجه في المسند .
بل إن قيمة الثواب في استعمال الرفق تكثر أضعافا عن استعمال غيره , فيخاطب زوجته عائشة رضي الله عنها قائلا : " يا عائشة ، إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي علىالعنف "مسلم .
على الجانب الآخر فإن المرء الذي حرم الرفق فإنه قد فقد شيئا عزيزا وقيمة غالية , فيقول صلى الله عليه وسلم : " من يُحرم الرفق يُحرم الخير كله"مسلم .
ولما دخل أعرابي المسجد وبال فيه , قام الصحابة إليه ليمنعوه، فمنعهم النبي الأكرم صلى الله عليه وسلموقال: لاتعجلوا عليه ، حتى إذا أنهى بوله وقام ليذهب، دعاه وقال: ( إن هذه المساجدلم تبن لهذا وإنما بنيت للصلاة والذكر والتسبيح ).
ثم ذكر صلى الله عليه وسلمفي ذلك مثالاً بديعاًلأصحابه فقال: ( إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل شردت عليه ناقته فقام الناسيشتدون خلفها وهي تشتدّ هاربة والرجل يصيح: خلوا إلي ناقتي..، حتى إذا تفرقوا عنهعمد إلى شيء من خشاش الأرض ثم جعله في ثوبه ورفعه إليها ودعاها فلم يزل بها حتىجاءته ).