في مدينة ياوندي الجو ممطر بارد لطيف ، حيث بداية فصل الشتاء ! والملتقى التطويري قد بدأ والوقت يضيق عن أي عمل هامشي ، اللهم إلا ما كان من زيارات يسيرة كانت إحداها زيارة أبي عبد الله النصراني .. إذ كانت من تراتيبنا الهامشية ، وأبو عبد الله النصراني طبيب متقدم في السنّ ، ذو ثقافة جيدة ، ويعد من أعيان قومه ، وله أتباع كثر ، وهو متدين جدا ، ومما يؤكّد ذلك وجود مقعد خاص له في الكنيسة ! وقد جرى بيننا حوار هاديء ولطيف .. رأيت من المناسب عرض بعض ما جرى فيه .. وهو ما وافق اقتراحا سابقا من بعض الإخوة ..
وصلنا منزله ، وأدخلَنا داره مرحبا .. شكرته على دعوتي إلى منزله وأنا أشاهد التلفزيون أمامي يبث ما يشبه موعظة دينية نصرانية مما أكد لي صحة ما وصف به من التدين ، كنت أرمق شاشة التلفاز التي بين ناظري بين حين وآخر ، وانتهت الموعظة وتبعها حوار مع قس ، وكان الصوت مُخَفَّضا فيما يبدو ..
جلس الطبيب وزوجه وبعض أولاده معنا ، ثم طلب من أولاده الخروج عن مكان لقائنا وبقي بيننا هو وزوجه .. و جاءت إحدى بناته – بإشارة منه على ما يبدو – فأغلقت التلفزيون وانصرفت إلى داخل الدار ..
قلت له : أكرر شكري لك على هذه الاستضافة ، كما أشكرك على هذا التفكير الناصح .. نعم قدِمَت إلى بلادكم مجموعات ، إحداها التي جئت فيها ، وهي لم تأت لتقديم مواعظ روحية فقط .. كلا .. لقد جئنا لنقدم للشباب الذين منهم ابنك هذا دوراتٍ تدريبية في التخطيط ، وفن إدارة الوقت ، والتفكير الإبداعي ، وتدريبهم على كيفية التعايش مع الآخرين وفق القوانين الإسلامية السمحة .. ولا أدري إن كنت تعلم أن ابنك الذي يحترمك كثيرا يفعل ذلك بأمر الله في القرآن الكريم ( وصاحبهما في الدنيا معروفا ) ..
قاطعني متعجبا ! قائلاً : أنا لا أعرف هذا ..
قلت : ليكن في علمك أن من يأتي معنا ليس بالضرورة عربي الأصل ، وإنما هو بالتأكيد مسلم .. أنا أراك تخاطبني كما لو كنت عربيا فقط ! كلا .. أنا لم أقدم إلى بلادكم بصفتي عربيا فقط ، وإنما بصفتي مسلما بالدرجة الأولى ..
قال : لكن العرب هم من نشروا الإسلام .
بل يمكنني أن أقول لك : إن عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم وكثيراً من قومه هم من اضطهدوه وآذوه ، بينما كان الأفارقة أول من نصر المؤمنين معه ! لقد هاجروا بأمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة ! فكانت دولة الحبشة أول دولة وقفت مع المسلمين ! إذاً الأفارقة هم أول من نصر المسلمين ، ممثلين في الدولة الحبشية التي أسلم رئيسها اتباعا للإنجيل .. بينما كان عم النبي محمد من أشد أعداء الإسلام حتى إن كنيته وسبّه موجود في القرآن ( تبت يدا أبي لهب ) !
وليكن في علمك أيها المكرَّم أنه لا يوجد في القرآن أي نداء باسم العرب ، فليس في القرآن : يا أيها العرب ! لأن الإسلام ليس خاصا بالعرب بل هو للنّاس كافّة ؛ ولذلك تجد النداء لغير المؤمنين أعم : ( يا أيها الناس ) مثلا ، وهو كثير في القرآن الكريم ..
قال : نعم .. نعم .. ونظر إلى زوجه ، وهي تستمع بعد أن قدمت لنا قطعا من البسكويت وأحضرت قارورتي عصير ومعها كؤوسا بعددنا ، أي أربعة ..
قلت : الناس عندنا من حيث الديانة ، إما مسلمون وإما غير مسلمين [ حاولت أن لا أستخدم كلمة كافرين قصدا ، ولذلك أصل ليس هذا محل بيانه ] ..
وأما غير المسلمين ، فهم في العقيدة الإسلامية إما أن يكونوا من الصغار الذين لم يبلغوا الحلم ، فهؤلاء إما من أهل الجنة وهذا الذي يعتقده كثير من علماء العقيدة الإسلامية ، أو أنهم يختبرون يوم القيامة فربما أدخلوا الجنة وربما لم يدخلوها بحسب نتيجة اختبارهم وهذا رأي آخر أيضا عند المسلمين ؛ والمهم أنه لا يجزم أحد منا بأنهم من أهل النار كما فهمتُ من سؤالك ..
وهنا تكلمت المرأة بكلام لم أفهمه ، ورد عليها زوجها بما فهمت أنه تعجب كبير ، وكأنَّ هذا الكلام كان مفاجأة كبيرة بالنسبة لهم ، وهو ما أكده لي الابن حين التفت إليه مستفهما .. فبادرت والتفت إلى أولادهم الصغار يلعبون في شرفة المنزل .. وقلت : نعم كل الأطفال سواء كانوا نصارى كهؤلاء أو غير نصارى كالبوذيين والهندوس ..
ثم قلت : وأما القسم الثاني فهم الكبار البالغون ، والراشدون ، فهؤلاء يختلف حكمهم في العقيدة الإسلامية أيضا ؛ فهم إما جاهلون بالإسلام لا يعرفون عنه شيئا ، أو يعرفون عنه بعض المعلومات المشوهة والمغلوطة التي ينفر منها العقل السليم والفكر الناضج ؛ فهؤلاء جميعا يقال عنهم في العقيدة الإسلامية : إنهم من أهل الفترة ، وحكم هؤلاء أنهم يعاملون في الدنيا معاملة غير المسلمين ، وأما في الآخرة فلا يحكم عليهم المسلمون بأنهم من أهل الجحيم ؛ لأن أهل الفترة هم الذين لم تصلهم رسالة الإسلام الصحيح ، وهؤلاء لا يدخلون الجحيم بالضرورة ، لأنهم يمرون باختبار في الآخرة ، فمن نجح فيه كان من أهل الجنة ومن أخفق فيه وفشل كان من أهل النار .. إذاً نحن لا نحكم عليهم من الآن بأنهم من أهل النار ، وإن كنا نعاملهم معاملة غير المسلمين في الدنيا ..
والحكمة في ذلك أن الله جل وعلا لا يظلم أحدا ، وهو القائل في القرآن ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) والقائل ( لأنذركم به ومن بلغ ) أي بلغ على حقيقته ، لأنه لا يكون قد بلغ إذا لم يكن على حقيقته ..
سبقني ابنه إلى كأسه وأخذ قطعة من البسكويت أيضا.. ومددت يدي و أمسكت بكأس عصير أظنه عصير ليمون ، وأخذت مواصلا الحديث ، ووضعته أثناء استطرادي في الحديث معه ..
وقبل أن ينفض لقاؤنا وجهت له دعوة لزيارة المركز الإسلامي ( مركز خادم الحرمين الشريفين ، في حي تشنغا القريب من حي بركتيري ) حيث يقام الملتقى التطويري الذي قدمنا لأجله ؛ ليقف على البرنامج بنفسه ، وليرى كيف تستخدم فيه التقنية الحديثة . وقد رحّب الطبيب أبو عبد الله النصراني بهذه الدعوة ترحيب الفرح المسرور ، ووعد بأن يأتي إلا أن يتأخر عليه سائقه الذي سيكون في مهمة في ذات الوقت ، فقلت له : يمكننا أن نرسل لكم سيارة لو لم يستطع سائقكم ! فشكر ضاحكا تعجبا ! وقال وهو يشير بسبابته مؤكدا : سوف أرتب أموري للوصول في الساعة الواحدة كما اقترحتم .
استطراد : ومن الظريف المؤسف أن استخدام التقنية الحديثة أثناء التدريب كان مثار إشكال عند أحد المتدربين ، إذ تهامس مع آخر مشككاً : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخدم ( البروجكتر ) ! فكيف يستخدمه هؤلاء ؟! فكان جزءا من التطوير في بعض برامجه الهامشية كشف هذا الاستشكال البارد ! حتى لا يتعلق به جاهل ، أو يدور به مغرض !
ولمّا كان الغد ، أتاني ابنه فرحا ، قائلا : أبي في الطريق إلينا ! واستقبله ، وكنت في المكتبة في نهاية المدة المحددة لبرنامج لبعض الداعيات امتد بسبب طرح إحدى قيادات مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني النسائية الإسلامية لمسألة حكم خروج الداعيات في القنوات الفضائية ابتغاء إيصال رسالة الإسلام ، وهو حوار هادئ استمر قرابة التسعين دقيقة ، ولعل الله ييسر لي حديثا عنه ..
وما إن خرجن حتى دخل الطبيب وجلسنا سويا في زاوية من الكتبة العامرة ، وبقينا بعض الوقت ، حيث طلبت من ابنه إحضار نسخة من ترجمة القرآن الكريم بالفرنسية ، وطلبت منه أن يوقفه على الآيات التي تحدثنا عنها بالأمس ، ولاسيما آية لقمان ( وصاحبهما في الدنيا معروفا ) ، وآية الممتحنة ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ) ، فقرأ ابنه تفسيره عليه بالفرنسية ، وكان يهز رأسه وابنه يقرأ ..
ثم أخذناه في جولة على قاعات التدريب ، ورأى بأم عينيه كثافة الحضور ونوعية التدريب ، وهيئة المدربين ، وتنوع المتدربين سنا وأقاليم من خلال تنوع زيهم.
قال : أقال لك ذلك ؟ قلت : نعم ، وأنا أقدر الشخص الذي يحب خدمة أمته ! ويبحث عن الحلول ولو في تجارب الآخرين ..
نظر إليّ بتقاسيم وجهِ السرور ، وأخذ ينظر إلى ابنه بابتسامة رضا ..