التفجيرات الأخيرة في الجزائر و التي حملت توقيع تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي لم تكن لتمضي بلا أسئلة، بالخصوص أنها وقعت في ظروف سياسية استثنائية، و نعني بها حالة الفوضى على الصعيد السياسي و التي يتخبط فيها العديد من الأحزاب السياسية بمن فيها تلك التي تعتقد أنها معارضة أكثر من غيرها. ناهيك على أن التفجيرات وقعت في وقت فتح فيه أحد أكبر ملفات الفساد التي حدثت في السنوات الماضية، ألا وهو ملف بنك الخليفة الذي تتهمه السلطات الجزائرية بالفساد المطلق و يتم محاكمة أعضائه ( في غياب رئيس البنك المتواجد تحت الحماية القانونية البريطانية في لندن).. تلك الظروف كلها كانت لتنسي الجزائريين قليلا سنوات القتل و العنف المسلح و لتعيدهم إلى الملف الخطير الذي ظل مؤجلا منذ الاستقلال، ألا و هو ملف الفساد الاقتصادي الذي أدى بالبلاد إلى التهلكة.. و لكن فجأة. حدثت التفجيرات التي أعادت الصورة المرعبة للعنف، وجاء التوقيع (تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي) ليعيد الطرح بشكل مختلف، ليس لأن التنظيم مشكوك في وجوده، بل لأن التفجيرات جعلت الناس يتلهون عن ملف الفساد الخطير و يلتفتون إلى الوضع الأمني من جديد، و هو ما جعل السؤال يطرح نفسه: ما علاقة التفجيرات بملف الفساد الاقتصادي؟ و هل ستحدث تفجيرات أخرى حين يتم العودة إلى ملف الفساد ثانية؟
بلد التناقضات!
منذ الاستقلال السياسي الجزائري في منتصف سنة 1962 الميلادية، تفجرت في البلاد أزمة خطيرة كادت تؤدي إلى حرب أهلية على بعد أشهر من الاستقلال الذي دفعت البلاد ثمنه بملايين من الشهداء الأحرار.. لم تكن الأزمة أزمة تشييد بالمعنى الشامل، بل كانت أزمة سلطة خطيرة، بمعنى أن التقاتل الخفي بين الـ”ثوار القدامى” كان على أساس سلطوي، من يأخذ أكثر من الآخر و من يحكم البلاد، بحيث أن لا أحد فكر في الطريقة السهلة و الممكنة والعادلة و هي اللجوء إلى الشعب الذي عانى من الاحتلال الفرنسي أكثر من 130 سنة.. بل كان اللجوء إلى الرصاص الذي جعل الشعب الجزائري يخرج إلى الشارع في أكبر مظاهرة لرفض التقاتل الذي حدث على مستوى القمة، و كانت عبارة ” سبع سنين كفاية” تعني سنوات الثورة (1954/1962) التي استغرقها الاستقلال وهي سنوات جعلت فرنسا المجرمة تصاب بالجنون لترتكب مجازر رهيبة ضد الجزائريين البسطاء. سبع سنوات كانت بجمالياتها الثورية الرائعة و الكفاح المسلح الذي خاضه الجزائيين تعني أيضا الحقد الفرنسي الكلونيالي البشع بالخصوص ضد القرى الجزائرية النائية أين كان التعذيب و الاغتيال و الاغتصاب مرتكبا من قبل جنود الاحتلال و أذنابه. كان خروج الجزائريين لرفض التقاتل بعد الاستقلال إذن بمثابة الصوت الذي وصل إلى القمة، وجعل القادة الثوريين يعودون إلى العقل، دون العودة إلى الشعب! كان الاستقلال الفتي وقتها تحديا كبيرا على كل الأصعدة، لأن التراكمات الرهيبة التي خلفها الاستعمار الفرنسي بدا رهيبا وعميقا، لغويا ونفسيا وفكريا وحتى اقتصاديا وسياسيا.. كان المطلوب هو بناء البلد، وبناء الإنسان ليعيش وفق نفس الفكر الثوري الذي لأجله استشهد كل هؤلاء الشهداء الذين فضلوا الشهادة على الحياة البائسة. كان الهدف هو الوفاء للشهداء أيضا، من خلال الوفاء للشعب الذي ضحى كثيرا.. ضحى أكثر مما يتصور أي قائد كان يتقاتل لأجل السلطة ولأجل الكرسي والنفوذ.. صحيح أن العنف لم يخرج إلى الشارع، لكنه ظل موجودا، و متوارثا أيضا بين الجزائريين، والحال أن المفكر الإسلامي الجزائري” مالك بن نبي” أصاب حين وصف الجزائريين بأنهم مزيجا من العنف والطيبة والأصالة ( العنف بسبب تراكمات التاريخ، والطيبة والأصالة لانتمائهم إلى الإسلام السمح). سنوات الاستقلال الأولى عرفت الكثير من التجارب التي كان أهمها التجربة الاشتراكية التي لم تكن تخفي ميلها إلى الشيوعية السوفييتية حتى إن لم تكن تعترف بالميل صراحة، لكنها كانت تبني الجزائر على أسس مغايرة للمطالب الشعبية إلى حد كبير، بحيث أن التنظير الاشتراكي لم يكن ناجحا في دولة كانت تعرف جيدا مشاكلها وأهدافها ناهيك على أنها دولة غنية بشريا وبتروليا وتعد ثاني أكبر دول إفريقيا بعد السودان من حيث المساحة الجغرافية. أيام الاستقلال الأول كان ثمة 18 مليون جزائري يعيشون في دولة نفطية وشاسعة المساحة، ومع ذلك لم تتحقق لهم الكثير من الأشياء، وكانت الأزمات هي نفسها في السبعينات إلى الثمانينات والتسعينات. أزمة السكن و أزمة العمل وأزمة البطالة أيضا.. أزمة العدالة المفقودة وأزمة اللامساواة في الحصول على مكاسب البلاد.. في سنوات قليلة تأسست أكثر من طبقة اجتماعية متناقضة، و تراجعت الطبقة البسيطة، تراجعت الطبقة العاملة والمنتجة، وفسح المجال لطبقة البورجوازيين الجاهزين الذين كانوا يقومون بالتنظير من على كراسيهم الفخمة، ويناقشون من دون العودة إلى تفاصيل الناس وإلى مشاكلهم اليومية.. تلك الطبقة سرعان ما فسحت المجال لطبقة “الغيلان” الجدد التي لا يعرف أحد من أين جاءت، لكن الجميع يعرف أنها تتكون من الأثرياء الذين جمعوا ثرواتهم من عرق البسطاء، وصاروا أغنياء جدا لأنهم تاجروا في كل شيء بما فيه كرامة الشعب! لهذا لم يكن البناء خارج ذلك التنظير الغريب الذي كان يؤسس لصالح الطبقة المهيمنة على حساب الطبقة البسيطة أو الفقيرة. حتى المشاريع الجيدة لم يكن يستفيد منها البسطاء.. تحول الفقراء إلى نسبة كبيرة من الجزائريين الذين حملوا ضغينة تاريخية ضد السلطة التي أهملتهم أيضا، و سعت إلى تهميشهم باسم الثورة! سنوات من الكبت و التهميش جعلت الجزائر تصبح 33 مليون جزائري قبالة نفس المشاكل التي كانت من أربعين سنة و ما زالت سارية، نفس أزمة السكن التي جعلت الشباب يعزفون عن الزواج مما زادت نسبة العنوسة في البلاد فاتحة الباب للانحلال الأخلاقي بداية من الانحراف إلى المخدرات إلى الجرائم المتعددة.. بينما، في الجهة الثانية من المشهد، كان الكلام هو نفسه عن جزائر الثورة والشهداء، وعن الوفاء للشهداء! لم يكن الشعب جاهلا للكثير من الأشياء السياسية، و كان يدرك أنه يعش في دولة غنية وأن إيرادات النفط وحدها قادرة على إخراجه من حالة الفقر و الغبن التي يعيش فيها و التي تستفيد منها النخب المعروفة دائما وأبدا، على مرأى من الملايين من الفقراء الذين كانوا يموتون جوعا أيضا في دولة النفط! لهذا لم يكن الكلام عن الجزائر بعيدا عن الواقع السياسي، بحيث أنه إلى هذا العام، يعي الجميع أن العنف كان في النهاية لغة مشتركة، وأن مئات الآلاف الذين قضوا في سنوات العنف المسلح منذ التسعينات إلى يومنا أيضا كانوا ضحية كل الأخطاء الرهيبة التي ارتكبها أولئك الذين مازالوا ينظرون لجزائر العولمة الجديدة، ولجزائر “الرهانات القادمة” التي قد تحيل الجزائريين كلهم على المجاعة المطلقة، أو على القتل المطلق!
الأزمات المستحدثة!
كما قلنا في بداية المقالة، تزامنت التفجيرات الأخيرة مع محاكمة هي في اعتقادنا الأخطر في الجزائر، ليس لشيء سوى لأنها القضية التي تخفي خلفها قضايا أخرى أخطر. ما عرف في الجزائر إعلاميا بقضية “الخليفة” هي في الحقيقة القضية/الشجرة التي تخفي الغابة.. ففي حوار أجرته معه قناة الجزيرة القطرية “تحدى “عبد المؤمن خليفة الجميع، واعتبر نفسه “بريئا” بل وذهب إلى حد القول أنه “ضحية” مؤامرة حاكها ضده رئيس الجمهورية شخصيا، وهو اتهام أسال الكثير من الحبر في الصحف الفرانكفونية بالخصوص، والتي تعتبر بدورها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ” مزعجا” وفق العديد من القرارات التي أصدرها في الفترة الأخيرة، حتى لو بدت قراراته متناقضة وأحيانا غير واضحة، وتسير في نفس المسار الازدواجي الذي عرفته الجزائر منذ الاستقلال. لهذا، كان الاتهام الذي وجهه عبد المؤمن خليفة غير واضح، بالخصوص وأنه ( أي خليفة) اعترف أن له علاقات جيدة مع العديد من الجنرالات و هذا يعني أشياء كثيرة أيضا.. لكن الذي يعنينا الآن هو القضية نفسها التي وصلت رائحتها العفنة إلى كل الجزائريين الذين شاهدوا بأم أعينهم الواجهة الاقتصادية الفاسدة.. لم يسأل أحد من قبل عن عبد المؤمن خليفة، ولا من أين أتى ولا كيف أسس كل تلك الثروة الطائلة وهو الذي كان مجرد صيدلي بسيط تحول فجأة إلى أكبر رجل أعمال في البلاد وهو بعد لم يتجاوز الخامسة والأربعين من العمر. فقد أسس عبد المؤمن خليفة (مع عدد من أصدقائه المهمين !) بنكا في وقت كان البنك لا يتعامل بنظام الخصخصة ( إلى الآن) مع ذلك، كان بنك الخليفة بنكا يدخل في إطار الخصخصة بكل المعايير. ثم أسس عبد المؤمن خليفة شركة طيران استفادت من طائرتي بوينج فرنسية ، فأصبح طيران الخليفة من أهم الخطوط الجوية الجزائرية بعد الخطوط الجوية الرسمية التي كادت تتعرض للإفلاس بسبب استحواذ الخليفة على كل الكوادر من عمال و فنيين و موظفين اشتغلوا في الخطوط الجوية الرسمية و تركوها لأجل الحصول على مزايا الخليفة! كما أسس قناة فضائية في لندن وأشياء كثيرة جعلته يتحول إلى إمبراطور حقيقي للمال والاستثمار والفساد! كان عبد المؤمن خليفة محط الأنظار إعلاميا وسياسيا كشاب ناجح و”ثوري”! تلقى كل أنواع الدعم، ثم فجأة… أعلن عن إفلاس بنك الخليفة، مما تسبب في خسارة رهيبة تعرض إليها المواطنون البسطاء الذين فقدوا كل مدخراتهم التي أودعوها في حساب فتحوه في بنك الخليفة. وأفلست شركة الطيران ووجد مئات الموظفين أنفسهم في الشارع، وأفلست القناة الفضائية في ظرف قياسي، وكأن الإفلاس حدث بواسطة جهاز الريموت كنترول! ثم بعد سنوات، عادت القضية إلى الظهور، وعاد عبد المؤمن خليفة ليقول عبر قناة الجزيرة أنه “لم يفلس” وأن الإفلاس كان مؤامرة ضده من جهات في السلطة، وأنه صديق جنرالات جزائريين”! وفي تلك الأيام، حدثت التفجيرات التي حولت الأنظار عن تلك القضية، و جعلت الناس بدل المطالبة بمعرفة الحقيقة، يطالبون بتوقف العنف!
بلد التناقضات!
منذ الاستقلال السياسي الجزائري في منتصف سنة 1962 الميلادية، تفجرت في البلاد أزمة خطيرة كادت تؤدي إلى حرب أهلية على بعد أشهر من الاستقلال الذي دفعت البلاد ثمنه بملايين من الشهداء الأحرار.. لم تكن الأزمة أزمة تشييد بالمعنى الشامل، بل كانت أزمة سلطة خطيرة، بمعنى أن التقاتل الخفي بين الـ”ثوار القدامى” كان على أساس سلطوي، من يأخذ أكثر من الآخر و من يحكم البلاد، بحيث أن لا أحد فكر في الطريقة السهلة و الممكنة والعادلة و هي اللجوء إلى الشعب الذي عانى من الاحتلال الفرنسي أكثر من 130 سنة.. بل كان اللجوء إلى الرصاص الذي جعل الشعب الجزائري يخرج إلى الشارع في أكبر مظاهرة لرفض التقاتل الذي حدث على مستوى القمة، و كانت عبارة ” سبع سنين كفاية” تعني سنوات الثورة (1954/1962) التي استغرقها الاستقلال وهي سنوات جعلت فرنسا المجرمة تصاب بالجنون لترتكب مجازر رهيبة ضد الجزائريين البسطاء. سبع سنوات كانت بجمالياتها الثورية الرائعة و الكفاح المسلح الذي خاضه الجزائيين تعني أيضا الحقد الفرنسي الكلونيالي البشع بالخصوص ضد القرى الجزائرية النائية أين كان التعذيب و الاغتيال و الاغتصاب مرتكبا من قبل جنود الاحتلال و أذنابه. كان خروج الجزائريين لرفض التقاتل بعد الاستقلال إذن بمثابة الصوت الذي وصل إلى القمة، وجعل القادة الثوريين يعودون إلى العقل، دون العودة إلى الشعب! كان الاستقلال الفتي وقتها تحديا كبيرا على كل الأصعدة، لأن التراكمات الرهيبة التي خلفها الاستعمار الفرنسي بدا رهيبا وعميقا، لغويا ونفسيا وفكريا وحتى اقتصاديا وسياسيا.. كان المطلوب هو بناء البلد، وبناء الإنسان ليعيش وفق نفس الفكر الثوري الذي لأجله استشهد كل هؤلاء الشهداء الذين فضلوا الشهادة على الحياة البائسة. كان الهدف هو الوفاء للشهداء أيضا، من خلال الوفاء للشعب الذي ضحى كثيرا.. ضحى أكثر مما يتصور أي قائد كان يتقاتل لأجل السلطة ولأجل الكرسي والنفوذ.. صحيح أن العنف لم يخرج إلى الشارع، لكنه ظل موجودا، و متوارثا أيضا بين الجزائريين، والحال أن المفكر الإسلامي الجزائري” مالك بن نبي” أصاب حين وصف الجزائريين بأنهم مزيجا من العنف والطيبة والأصالة ( العنف بسبب تراكمات التاريخ، والطيبة والأصالة لانتمائهم إلى الإسلام السمح). سنوات الاستقلال الأولى عرفت الكثير من التجارب التي كان أهمها التجربة الاشتراكية التي لم تكن تخفي ميلها إلى الشيوعية السوفييتية حتى إن لم تكن تعترف بالميل صراحة، لكنها كانت تبني الجزائر على أسس مغايرة للمطالب الشعبية إلى حد كبير، بحيث أن التنظير الاشتراكي لم يكن ناجحا في دولة كانت تعرف جيدا مشاكلها وأهدافها ناهيك على أنها دولة غنية بشريا وبتروليا وتعد ثاني أكبر دول إفريقيا بعد السودان من حيث المساحة الجغرافية. أيام الاستقلال الأول كان ثمة 18 مليون جزائري يعيشون في دولة نفطية وشاسعة المساحة، ومع ذلك لم تتحقق لهم الكثير من الأشياء، وكانت الأزمات هي نفسها في السبعينات إلى الثمانينات والتسعينات. أزمة السكن و أزمة العمل وأزمة البطالة أيضا.. أزمة العدالة المفقودة وأزمة اللامساواة في الحصول على مكاسب البلاد.. في سنوات قليلة تأسست أكثر من طبقة اجتماعية متناقضة، و تراجعت الطبقة البسيطة، تراجعت الطبقة العاملة والمنتجة، وفسح المجال لطبقة البورجوازيين الجاهزين الذين كانوا يقومون بالتنظير من على كراسيهم الفخمة، ويناقشون من دون العودة إلى تفاصيل الناس وإلى مشاكلهم اليومية.. تلك الطبقة سرعان ما فسحت المجال لطبقة “الغيلان” الجدد التي لا يعرف أحد من أين جاءت، لكن الجميع يعرف أنها تتكون من الأثرياء الذين جمعوا ثرواتهم من عرق البسطاء، وصاروا أغنياء جدا لأنهم تاجروا في كل شيء بما فيه كرامة الشعب! لهذا لم يكن البناء خارج ذلك التنظير الغريب الذي كان يؤسس لصالح الطبقة المهيمنة على حساب الطبقة البسيطة أو الفقيرة. حتى المشاريع الجيدة لم يكن يستفيد منها البسطاء.. تحول الفقراء إلى نسبة كبيرة من الجزائريين الذين حملوا ضغينة تاريخية ضد السلطة التي أهملتهم أيضا، و سعت إلى تهميشهم باسم الثورة! سنوات من الكبت و التهميش جعلت الجزائر تصبح 33 مليون جزائري قبالة نفس المشاكل التي كانت من أربعين سنة و ما زالت سارية، نفس أزمة السكن التي جعلت الشباب يعزفون عن الزواج مما زادت نسبة العنوسة في البلاد فاتحة الباب للانحلال الأخلاقي بداية من الانحراف إلى المخدرات إلى الجرائم المتعددة.. بينما، في الجهة الثانية من المشهد، كان الكلام هو نفسه عن جزائر الثورة والشهداء، وعن الوفاء للشهداء! لم يكن الشعب جاهلا للكثير من الأشياء السياسية، و كان يدرك أنه يعش في دولة غنية وأن إيرادات النفط وحدها قادرة على إخراجه من حالة الفقر و الغبن التي يعيش فيها و التي تستفيد منها النخب المعروفة دائما وأبدا، على مرأى من الملايين من الفقراء الذين كانوا يموتون جوعا أيضا في دولة النفط! لهذا لم يكن الكلام عن الجزائر بعيدا عن الواقع السياسي، بحيث أنه إلى هذا العام، يعي الجميع أن العنف كان في النهاية لغة مشتركة، وأن مئات الآلاف الذين قضوا في سنوات العنف المسلح منذ التسعينات إلى يومنا أيضا كانوا ضحية كل الأخطاء الرهيبة التي ارتكبها أولئك الذين مازالوا ينظرون لجزائر العولمة الجديدة، ولجزائر “الرهانات القادمة” التي قد تحيل الجزائريين كلهم على المجاعة المطلقة، أو على القتل المطلق!
الأزمات المستحدثة!
كما قلنا في بداية المقالة، تزامنت التفجيرات الأخيرة مع محاكمة هي في اعتقادنا الأخطر في الجزائر، ليس لشيء سوى لأنها القضية التي تخفي خلفها قضايا أخرى أخطر. ما عرف في الجزائر إعلاميا بقضية “الخليفة” هي في الحقيقة القضية/الشجرة التي تخفي الغابة.. ففي حوار أجرته معه قناة الجزيرة القطرية “تحدى “عبد المؤمن خليفة الجميع، واعتبر نفسه “بريئا” بل وذهب إلى حد القول أنه “ضحية” مؤامرة حاكها ضده رئيس الجمهورية شخصيا، وهو اتهام أسال الكثير من الحبر في الصحف الفرانكفونية بالخصوص، والتي تعتبر بدورها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ” مزعجا” وفق العديد من القرارات التي أصدرها في الفترة الأخيرة، حتى لو بدت قراراته متناقضة وأحيانا غير واضحة، وتسير في نفس المسار الازدواجي الذي عرفته الجزائر منذ الاستقلال. لهذا، كان الاتهام الذي وجهه عبد المؤمن خليفة غير واضح، بالخصوص وأنه ( أي خليفة) اعترف أن له علاقات جيدة مع العديد من الجنرالات و هذا يعني أشياء كثيرة أيضا.. لكن الذي يعنينا الآن هو القضية نفسها التي وصلت رائحتها العفنة إلى كل الجزائريين الذين شاهدوا بأم أعينهم الواجهة الاقتصادية الفاسدة.. لم يسأل أحد من قبل عن عبد المؤمن خليفة، ولا من أين أتى ولا كيف أسس كل تلك الثروة الطائلة وهو الذي كان مجرد صيدلي بسيط تحول فجأة إلى أكبر رجل أعمال في البلاد وهو بعد لم يتجاوز الخامسة والأربعين من العمر. فقد أسس عبد المؤمن خليفة (مع عدد من أصدقائه المهمين !) بنكا في وقت كان البنك لا يتعامل بنظام الخصخصة ( إلى الآن) مع ذلك، كان بنك الخليفة بنكا يدخل في إطار الخصخصة بكل المعايير. ثم أسس عبد المؤمن خليفة شركة طيران استفادت من طائرتي بوينج فرنسية ، فأصبح طيران الخليفة من أهم الخطوط الجوية الجزائرية بعد الخطوط الجوية الرسمية التي كادت تتعرض للإفلاس بسبب استحواذ الخليفة على كل الكوادر من عمال و فنيين و موظفين اشتغلوا في الخطوط الجوية الرسمية و تركوها لأجل الحصول على مزايا الخليفة! كما أسس قناة فضائية في لندن وأشياء كثيرة جعلته يتحول إلى إمبراطور حقيقي للمال والاستثمار والفساد! كان عبد المؤمن خليفة محط الأنظار إعلاميا وسياسيا كشاب ناجح و”ثوري”! تلقى كل أنواع الدعم، ثم فجأة… أعلن عن إفلاس بنك الخليفة، مما تسبب في خسارة رهيبة تعرض إليها المواطنون البسطاء الذين فقدوا كل مدخراتهم التي أودعوها في حساب فتحوه في بنك الخليفة. وأفلست شركة الطيران ووجد مئات الموظفين أنفسهم في الشارع، وأفلست القناة الفضائية في ظرف قياسي، وكأن الإفلاس حدث بواسطة جهاز الريموت كنترول! ثم بعد سنوات، عادت القضية إلى الظهور، وعاد عبد المؤمن خليفة ليقول عبر قناة الجزيرة أنه “لم يفلس” وأن الإفلاس كان مؤامرة ضده من جهات في السلطة، وأنه صديق جنرالات جزائريين”! وفي تلك الأيام، حدثت التفجيرات التي حولت الأنظار عن تلك القضية، و جعلت الناس بدل المطالبة بمعرفة الحقيقة، يطالبون بتوقف العنف!