ومن طرق الاستدلال السياسي : تنزيـل الأدلـة على أحوالهـا المختلفـة .
أولاً : المراد بهـذه الطريـق .
المراد بها : حمل الأدلة التي يظهر بينها اختلاف وتعارض في نظر المجتهد – مما ليس منسوخاً – على الأحوال التي وردت هذه الأدلة في بيان أحكامها ؛ بحيث يلزم المجتهدَ البحثُ في موارد هذه الأحكام تنظيراً وتطبيقاً ، وتنزيل هذا الاختلاف الذي ظهر له على اختلاف هذه الموارد (1) .
مثالـه : أحكام الأسرى ؛ فقد جاء ما يدلّ على قتلهم ، وجاء ما يدلّ على استرقاقهم ، وجاء ما يدلّ على المنَّ عليهم بلا شيءٍ ، وجاء ما يدلّ على إطلاقهم بفداء ؛ فهذه الأحكـام لا تعارض بينها – كما سيأتي بيانه في التطبيقات المعاصرة للسياسة الشرعية ، إن شاء الله تعالى – و إنَّما جاءت بياناً لأحكام أحوالٍ مختلفة .
ثانياً : حجية تنزيل الأدلة التي ظاهرها التعارض على أحوالها .
لم يطل العلماء في تقرير هذه الطريق بذكر الدلائل ، ولعلَّ ذلك ؛ لظهورها ، وتقرَّر الاستدلال بها لديهم ، لاستنادها على أصول متقرِّرة ؛ فمن الدلائل على حجيَّة هذه الطريق ما يلي :
1) ما هو مُتقَرِّرٌ من أنَّ الشريعة لا تُثْبِت حكمين مختلفين في مسألة واحدة ؛ بحيث يفيد أحدهما – مثلاً – الوجوب والآخر الحرمة ، في نفس الأمر ؛ وذلك بناءً على ما هو مسلَّمٌ من امتناع الاختلاف بين الأدلة الشرعية في واقع الأمر ، ورجوع الشريعة كلها إلى قول واحد ؛ ولأنَّ من لازم ذلك التناقض والعبث والجهل ، و الشارع الحكيم منَزَّهُ عن ذلك سبحانه وتعالى ، والدلائل على هذا أظهر من أن تذكر ، فلا حاجة للإطالة بذكرها ؛ وهذا لا ينافي وجود تعارض واختلاف ظاهري في فهم الناظر وظنِّه .
وفي هذا يقول الشاطبي : ” الشريعة كلُّها ترجع إلى قول واحد في فروعها ، وإن كثر الخلاف ، كما أنَّها في أصولها كذلك ، ولا يصلح فيها غير ذلك ” (2) .
2) إجماع العلماء على اعتبار هذه الطريق في الاستدلال .
قال الشوكاني : ” ومن شروط الترجيح التي لابد من اعتبارها : أن لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه مقبول ؛ فإن أمكن ذلك تعيَّن المصير إليه ، ولم يجز المصير إلى الترجيح ، قال في المحصول : العمل بكلٍ منهما من وجه أولى من العمل بالراجح من كل وجه ، وترك الآخر . انتهى . وبه قال الفقهاء جميعاً ” (3) .
وقال الشنقيطي : ” … والمقرّر في علم الأصول وعلم الحديث أنَّه : إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعاً ، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى ؛ لأنَّهما صادقان ، وليسا بمتعارضين ، وإنَّما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن ؛ لأنَّ إعمال الدليلين معاً أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى ” (4) .
3- من المعنى ، وهو ما عبَّر عنه العلامة أبو الوليد الباجي بقوله في الأخبار إذا اختلفت : ” والحجّـة في ذلك أنَّ الخبرين إذا ثبتا جميعاً ليس أحدهما أولى من صاحبه ، ولا طريق إلى إسقاطهما ، ولا إلى إسقاط أحدهما ، وقد استويا وتقاوما وأمكن الاستعمال ؛ فلم يبق إلا التَّخَيُّر فيهما ، وإن كان كلُّ واحد منهما سدَّ مَسَدَّ الآخر ، وصار بمنزلة الكَفَّارة التي دخلها التخيُّر والله أعلم ” (5).
ثم العملُ بها ظاهر في كتب أهل العلم المحققين من أهل الفقه والحديث ؛ بل ومن غيرهم ، لا يحتاج في إثباته أكثر من تَصَفُّحٍ سريع لأدلة المسائل التي تعدَّدَت فيها الروايات ؛ مما يؤكِّد حكاية الإجماع على هذه المسألة ؛ وهذا بعض كلام أهل العلم في تقريرها :
قال الإمام الشافعي : ” وكلَّما احتمل حديثان أن يستعملا معاً استُعْمِلا معاً ، ولم يُعَطَّل واحدٌ منهما الآخر ” ، ثم ذكر مثالاً لنوعٍ من الاختلاف الظاهري ، فقال : ” ومنها ما يكون اختلافاً في الفعل من جهة أنَّ الأمرين مباحان ” وذكر من أمثلته : تنوّع الحكم في الأسرى ، وقال : ” فكان فيما وصفت من فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما يدل على أن للإمام إذا أسر رجلاً من المشركين أن يمنّ عليه بلا شيْءٍ ، أو أن يفادي بمال يأخذه ، أو أن يفادي بأن يُطلق منهم على أن يُطلقَ له بعضَ أسرى المسلمين ؛ لا أنَّ بعض هذا ناسخٌ لبعض ، ولا مخالف له ” (6).
وقرَّر ذلك وبيَّن وجهه في : الرسالة ، حيث قال : ” فأمَّا المختلفـة التي لا دلالة على أيّها ناسخ ولا أيّها منسوخ ؛ فكلّ أمره مُتَوَفِّقُُ صحيح ، لا اختلاف فيه … ويسنُّ في الشيءِ سنة ، وفيما يخالفه أخرى ؛ فلا يُخَلِّصُ بعضُ السامعين بين اختلاف الحالين اللتينِ سنَّ فيهما . ويَسنُّ سنَّة في نصٍّ معناه ، فيحفظه حافظٌ ، ويسنُّ في معنىً يخالفه في معنىً و يجامعه في معنىً : سنَّةً غيرَها لاختلاف الحالين ، فيحفظُ غيرُه تلك السنَّة ؛ فإذا أدَّى كلٌّ ما حفظ رآه بعض السامعين اختلافاً ، وليس منه شيءٌ مختلفٌ ” ( 213-214) .
وقد نفى الإمام الطبري أن يكون الاختلاف في مثل ذلك مورداً من موارد النسخ ، وبيّن أنه من قبيل اختلاف الأحكام باختلاف المعاني ، الذي هو من الحكمة البالغة المفهومة عقلاً وفطرة ؛ حيث قال : ” فإنَّما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ إذا اتفقت معاني المحكوم فيه ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة ؛ وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد فذلك هو الحكمة البالغة والمفهوم في العقل والفطرة ، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل ” ( جامع البيان : 2/473) .
وبيَّن الحافظ الحازمي- بعد ذِكْرِهِ أنَّ من شروط النسخ كون الخطاب الناسخ متراخياً – أنَّ الخطابين المختلفين المتراخيين ، إن كانا متصلين فلا يسمى نسخاً ، ، وإن كانا منفصلين : ” نظرت : هل يمكن الجمع بينهما أم لا ؟ فإن أمكن الجمع جمِعَ ؛ إذ لا عبرة بالانفصال الزماني مع قطع النظر عن التنافي ؛ ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجهٍ يكون أعمّ للفائدة كان أولى ؛ صوناً لكلامه عن النقض ؛ ولأنَّ في ادِّعاءِ النسخ إخراج الحديث عن المعنى المفيد ، وهو على خلاف الأصل ” (7).
وقال جمال الدين الإسنوي : ” إذا تعـارض دليلان ، فالعمل بهما ولو من وجه أولى من إسقاط أحدهما بالكُلِّيـَّة ؛ لأنَّ الأصل في كلِّ واحدٍ منهما ، هو الإعمال” ( التمهيد في تخريج الفروع على الأصول :506) .
وقال ولي الله الدهلوي : ” الأصل أن يعمل بكل حديث إلا أن يمتنع العمل بالجميع للتناقض ، وأنَّه ليس في الحقيقة اختلاف ، ولكن في نظرنا فقـط …” ، ثم ذكر طرائق للجمع ومنها : ” أن يكون هناك علَّـة خفيـة توجب ، أو تحسِّن أحـد الفعلين في وقت ، والآخر في وقت ، أو توجب شيئـاً وقتاً وترخِّص وقتـاً ؛ فيجـب أن يُفحص عنها …” ( الحجة البالغة : 1/398) .
هذه بعض نصوص العلماء في تقرير هذه الطريق وهذه القاعدة في فهم نصوص الشارع ، وإليها يرجع الاختلاف بين الفقهاء في جملة من مسائل السياسة الشرعية عند التنظير والتطبيق ، من حيث ترتيب سلوكها وعدمه . (8)
وسيتبين الموضوع أكثر في الطريق التالية : مراعاة نوع التصرف النبوي ، إن شاء الله تعالى .
———————–
(1) يبحث العلماء هذه الطريق تحت ما يعرف بـ( الجمع بين الأدلة ) ؛ و يذكرها آخرون في : مباحث الترجيح ، و مباحث النسخ ، وما يتعلق بذلك في علمي الأصول ، ومصطلح الحديث ، كما يتعرضون لها عند الجمع بين الأدلة في مسألة فقهية متفرعة عن هذه الطريق .
(2) ينظر : الموافقات ، للشاطبي : 5/59
(3) إرشاد الفحول : 2/ 381-382 . و ينظر : المحصول ، للرازي [ مع شرحه : نفائس الأصول في شرح المحصول ، للقرافي ] : 8/3846 .
(4) أضواء البيان : 3/242 ، (الحج : 27)
(5) الإشارة في أصول الفقه أبو الوليد سليمان بن خلـف الباجي (ت/450) :251 ، ط2-1418 ، ت/ عادل أحمد عبد الموجود و علي محمد عوض ، مكتبة نزار مصطفى الباز : مكة المكرَّمة . وهذا مقيَّـد بالنسبة للحاكم في إدارة الأمـور العامـة بالمصلحة ، كما هو معروف في قاعدة : ” تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة ” . ينظر : الأشباه والنظائر ، للسيوطي : 233 ؛ والمنثور في القواعد ، للزركشي : 1/309
(6) اختلاف الحديث ، ملحق بآخر كتاب ” الأم ” : 9/541 ، 551 ، ط1-1413 ، بتخريج وتعليق/ محمود مطرجي ، دار الكتب العلمية : بيروت .
(7) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ، للحازمي : 54 .
(8) ينظر مزيداً من بحث هذه المسألة – إضافة إلى المصادر السابقة – عدداً من الكتب ، من مثل : المستصفى ، للغزالي : 2/476 وما بعدها ؛ ونفائس الأصول ، للقرافي : 8/3846 وما بعدها ؛ و شرح الكوكب المنير ، لابن النجَّار : 4/609 ؛ والذخيرة ، للقرافي : 1/135 ؛ وتيسير التحرير ، لأمير باد شاه : 3/137 ؛ وإعلام الموقعين ، لابن القيم : 2/338 ، 349، وذكر ضمن ذلك أمثلة للجمع بين الأدلة ؛ وقواعد التفسير جمعاً ودراسة ، د. خالد بن عثمان السبت : 2/698، ط1-1417، دار ابن عفان : الخبر ، السعودية ؛ وجميع ما كتب في اختلاف الحديث ، ومن أواخر ما كتب في ذلك كتاب : مختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين ، د.نافذ حسين حمّاد ، ط1-1414 ، الوفاء للطباعة والنشر : المنصورة . وفيه جمع حسن وبيان لقاعدة الجمع ، وبيان لشروطه ، وأنواعه من مثل : الجمع ببيان اختلاف مدلولي اللفظ والحال والمحل والأمر والنهي ، والعام والخاص بأقسامه والمطلق والمقيد
أولاً : المراد بهـذه الطريـق .
المراد بها : حمل الأدلة التي يظهر بينها اختلاف وتعارض في نظر المجتهد – مما ليس منسوخاً – على الأحوال التي وردت هذه الأدلة في بيان أحكامها ؛ بحيث يلزم المجتهدَ البحثُ في موارد هذه الأحكام تنظيراً وتطبيقاً ، وتنزيل هذا الاختلاف الذي ظهر له على اختلاف هذه الموارد (1) .
مثالـه : أحكام الأسرى ؛ فقد جاء ما يدلّ على قتلهم ، وجاء ما يدلّ على استرقاقهم ، وجاء ما يدلّ على المنَّ عليهم بلا شيءٍ ، وجاء ما يدلّ على إطلاقهم بفداء ؛ فهذه الأحكـام لا تعارض بينها – كما سيأتي بيانه في التطبيقات المعاصرة للسياسة الشرعية ، إن شاء الله تعالى – و إنَّما جاءت بياناً لأحكام أحوالٍ مختلفة .
ثانياً : حجية تنزيل الأدلة التي ظاهرها التعارض على أحوالها .
لم يطل العلماء في تقرير هذه الطريق بذكر الدلائل ، ولعلَّ ذلك ؛ لظهورها ، وتقرَّر الاستدلال بها لديهم ، لاستنادها على أصول متقرِّرة ؛ فمن الدلائل على حجيَّة هذه الطريق ما يلي :
1) ما هو مُتقَرِّرٌ من أنَّ الشريعة لا تُثْبِت حكمين مختلفين في مسألة واحدة ؛ بحيث يفيد أحدهما – مثلاً – الوجوب والآخر الحرمة ، في نفس الأمر ؛ وذلك بناءً على ما هو مسلَّمٌ من امتناع الاختلاف بين الأدلة الشرعية في واقع الأمر ، ورجوع الشريعة كلها إلى قول واحد ؛ ولأنَّ من لازم ذلك التناقض والعبث والجهل ، و الشارع الحكيم منَزَّهُ عن ذلك سبحانه وتعالى ، والدلائل على هذا أظهر من أن تذكر ، فلا حاجة للإطالة بذكرها ؛ وهذا لا ينافي وجود تعارض واختلاف ظاهري في فهم الناظر وظنِّه .
وفي هذا يقول الشاطبي : ” الشريعة كلُّها ترجع إلى قول واحد في فروعها ، وإن كثر الخلاف ، كما أنَّها في أصولها كذلك ، ولا يصلح فيها غير ذلك ” (2) .
2) إجماع العلماء على اعتبار هذه الطريق في الاستدلال .
قال الشوكاني : ” ومن شروط الترجيح التي لابد من اعتبارها : أن لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه مقبول ؛ فإن أمكن ذلك تعيَّن المصير إليه ، ولم يجز المصير إلى الترجيح ، قال في المحصول : العمل بكلٍ منهما من وجه أولى من العمل بالراجح من كل وجه ، وترك الآخر . انتهى . وبه قال الفقهاء جميعاً ” (3) .
وقال الشنقيطي : ” … والمقرّر في علم الأصول وعلم الحديث أنَّه : إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعاً ، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى ؛ لأنَّهما صادقان ، وليسا بمتعارضين ، وإنَّما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن ؛ لأنَّ إعمال الدليلين معاً أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى ” (4) .
3- من المعنى ، وهو ما عبَّر عنه العلامة أبو الوليد الباجي بقوله في الأخبار إذا اختلفت : ” والحجّـة في ذلك أنَّ الخبرين إذا ثبتا جميعاً ليس أحدهما أولى من صاحبه ، ولا طريق إلى إسقاطهما ، ولا إلى إسقاط أحدهما ، وقد استويا وتقاوما وأمكن الاستعمال ؛ فلم يبق إلا التَّخَيُّر فيهما ، وإن كان كلُّ واحد منهما سدَّ مَسَدَّ الآخر ، وصار بمنزلة الكَفَّارة التي دخلها التخيُّر والله أعلم ” (5).
ثم العملُ بها ظاهر في كتب أهل العلم المحققين من أهل الفقه والحديث ؛ بل ومن غيرهم ، لا يحتاج في إثباته أكثر من تَصَفُّحٍ سريع لأدلة المسائل التي تعدَّدَت فيها الروايات ؛ مما يؤكِّد حكاية الإجماع على هذه المسألة ؛ وهذا بعض كلام أهل العلم في تقريرها :
قال الإمام الشافعي : ” وكلَّما احتمل حديثان أن يستعملا معاً استُعْمِلا معاً ، ولم يُعَطَّل واحدٌ منهما الآخر ” ، ثم ذكر مثالاً لنوعٍ من الاختلاف الظاهري ، فقال : ” ومنها ما يكون اختلافاً في الفعل من جهة أنَّ الأمرين مباحان ” وذكر من أمثلته : تنوّع الحكم في الأسرى ، وقال : ” فكان فيما وصفت من فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما يدل على أن للإمام إذا أسر رجلاً من المشركين أن يمنّ عليه بلا شيْءٍ ، أو أن يفادي بمال يأخذه ، أو أن يفادي بأن يُطلق منهم على أن يُطلقَ له بعضَ أسرى المسلمين ؛ لا أنَّ بعض هذا ناسخٌ لبعض ، ولا مخالف له ” (6).
وقرَّر ذلك وبيَّن وجهه في : الرسالة ، حيث قال : ” فأمَّا المختلفـة التي لا دلالة على أيّها ناسخ ولا أيّها منسوخ ؛ فكلّ أمره مُتَوَفِّقُُ صحيح ، لا اختلاف فيه … ويسنُّ في الشيءِ سنة ، وفيما يخالفه أخرى ؛ فلا يُخَلِّصُ بعضُ السامعين بين اختلاف الحالين اللتينِ سنَّ فيهما . ويَسنُّ سنَّة في نصٍّ معناه ، فيحفظه حافظٌ ، ويسنُّ في معنىً يخالفه في معنىً و يجامعه في معنىً : سنَّةً غيرَها لاختلاف الحالين ، فيحفظُ غيرُه تلك السنَّة ؛ فإذا أدَّى كلٌّ ما حفظ رآه بعض السامعين اختلافاً ، وليس منه شيءٌ مختلفٌ ” ( 213-214) .
وقد نفى الإمام الطبري أن يكون الاختلاف في مثل ذلك مورداً من موارد النسخ ، وبيّن أنه من قبيل اختلاف الأحكام باختلاف المعاني ، الذي هو من الحكمة البالغة المفهومة عقلاً وفطرة ؛ حيث قال : ” فإنَّما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ إذا اتفقت معاني المحكوم فيه ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة ؛ وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد فذلك هو الحكمة البالغة والمفهوم في العقل والفطرة ، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل ” ( جامع البيان : 2/473) .
وبيَّن الحافظ الحازمي- بعد ذِكْرِهِ أنَّ من شروط النسخ كون الخطاب الناسخ متراخياً – أنَّ الخطابين المختلفين المتراخيين ، إن كانا متصلين فلا يسمى نسخاً ، ، وإن كانا منفصلين : ” نظرت : هل يمكن الجمع بينهما أم لا ؟ فإن أمكن الجمع جمِعَ ؛ إذ لا عبرة بالانفصال الزماني مع قطع النظر عن التنافي ؛ ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجهٍ يكون أعمّ للفائدة كان أولى ؛ صوناً لكلامه عن النقض ؛ ولأنَّ في ادِّعاءِ النسخ إخراج الحديث عن المعنى المفيد ، وهو على خلاف الأصل ” (7).
وقال جمال الدين الإسنوي : ” إذا تعـارض دليلان ، فالعمل بهما ولو من وجه أولى من إسقاط أحدهما بالكُلِّيـَّة ؛ لأنَّ الأصل في كلِّ واحدٍ منهما ، هو الإعمال” ( التمهيد في تخريج الفروع على الأصول :506) .
وقال ولي الله الدهلوي : ” الأصل أن يعمل بكل حديث إلا أن يمتنع العمل بالجميع للتناقض ، وأنَّه ليس في الحقيقة اختلاف ، ولكن في نظرنا فقـط …” ، ثم ذكر طرائق للجمع ومنها : ” أن يكون هناك علَّـة خفيـة توجب ، أو تحسِّن أحـد الفعلين في وقت ، والآخر في وقت ، أو توجب شيئـاً وقتاً وترخِّص وقتـاً ؛ فيجـب أن يُفحص عنها …” ( الحجة البالغة : 1/398) .
هذه بعض نصوص العلماء في تقرير هذه الطريق وهذه القاعدة في فهم نصوص الشارع ، وإليها يرجع الاختلاف بين الفقهاء في جملة من مسائل السياسة الشرعية عند التنظير والتطبيق ، من حيث ترتيب سلوكها وعدمه . (8)
وسيتبين الموضوع أكثر في الطريق التالية : مراعاة نوع التصرف النبوي ، إن شاء الله تعالى .
———————–
(1) يبحث العلماء هذه الطريق تحت ما يعرف بـ( الجمع بين الأدلة ) ؛ و يذكرها آخرون في : مباحث الترجيح ، و مباحث النسخ ، وما يتعلق بذلك في علمي الأصول ، ومصطلح الحديث ، كما يتعرضون لها عند الجمع بين الأدلة في مسألة فقهية متفرعة عن هذه الطريق .
(2) ينظر : الموافقات ، للشاطبي : 5/59
(3) إرشاد الفحول : 2/ 381-382 . و ينظر : المحصول ، للرازي [ مع شرحه : نفائس الأصول في شرح المحصول ، للقرافي ] : 8/3846 .
(4) أضواء البيان : 3/242 ، (الحج : 27)
(5) الإشارة في أصول الفقه أبو الوليد سليمان بن خلـف الباجي (ت/450) :251 ، ط2-1418 ، ت/ عادل أحمد عبد الموجود و علي محمد عوض ، مكتبة نزار مصطفى الباز : مكة المكرَّمة . وهذا مقيَّـد بالنسبة للحاكم في إدارة الأمـور العامـة بالمصلحة ، كما هو معروف في قاعدة : ” تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة ” . ينظر : الأشباه والنظائر ، للسيوطي : 233 ؛ والمنثور في القواعد ، للزركشي : 1/309
(6) اختلاف الحديث ، ملحق بآخر كتاب ” الأم ” : 9/541 ، 551 ، ط1-1413 ، بتخريج وتعليق/ محمود مطرجي ، دار الكتب العلمية : بيروت .
(7) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ، للحازمي : 54 .
(8) ينظر مزيداً من بحث هذه المسألة – إضافة إلى المصادر السابقة – عدداً من الكتب ، من مثل : المستصفى ، للغزالي : 2/476 وما بعدها ؛ ونفائس الأصول ، للقرافي : 8/3846 وما بعدها ؛ و شرح الكوكب المنير ، لابن النجَّار : 4/609 ؛ والذخيرة ، للقرافي : 1/135 ؛ وتيسير التحرير ، لأمير باد شاه : 3/137 ؛ وإعلام الموقعين ، لابن القيم : 2/338 ، 349، وذكر ضمن ذلك أمثلة للجمع بين الأدلة ؛ وقواعد التفسير جمعاً ودراسة ، د. خالد بن عثمان السبت : 2/698، ط1-1417، دار ابن عفان : الخبر ، السعودية ؛ وجميع ما كتب في اختلاف الحديث ، ومن أواخر ما كتب في ذلك كتاب : مختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين ، د.نافذ حسين حمّاد ، ط1-1414 ، الوفاء للطباعة والنشر : المنصورة . وفيه جمع حسن وبيان لقاعدة الجمع ، وبيان لشروطه ، وأنواعه من مثل : الجمع ببيان اختلاف مدلولي اللفظ والحال والمحل والأمر والنهي ، والعام والخاص بأقسامه والمطلق والمقيد