لم يكن التطور الكبير الحادث في مجال توسع توحد أهل الصومال وإجماعهم واجتماعهم حول المحاكم الإسلامية في الصومال ،حدثا مفاجئا ،حيث التجربة ليست فقط يدأب خلفها قادة إسلاميون منذ فترة طويلة ،وإنما أيضا لأن المحاكم كانت تمكنت من أن تجد حلولا لمشكلات أهل الصومال الذين تاقوا إلى توحيد بلادهم بعد طول تقسيم ،والى “حكم رشيد” ينقذهم من “أفاعيل ” أمراء الحرب وتجارها وعصابات الموت والدمار والفقر،فنمى الأمر حثيثا في التأسيس إلى لحظة الانتقال إلى الحركة الشاملة.
والحاصل أن تجربة “المحاكم الشرعية الإسلامية” قد شكلت حالة جديدة لبناء “جهاز دولة” جديد في الصومال ،بديل لجهاز الدولة الصومالي القديم الذي كان تفكك مع انهيار حكم سياد برى ،وبديل في الآن ذاته لحالة الفوضى والتقسيم والانقسام لكل شيء على ارض الصومال خلال مرحلة ما بعد انهيار جهاز الدولة المركزية .وتلك التجربة وان كانت في مراحلها الأولى “جزءا من عملية التقسيم والانقسام “بفعل وجودها في مناطق دون أخرى على ارض الصومال وبفعل وجودها في مواجهة أشكال وكيانات وإدارات أخرى، سابقا،إلا أن توسع صدقيتها ومصداقيتها أمام الشعب الصومالي “المجزأ تحت حكم أمراء الحرب ” قد دفعته إلى تأييد واسع “للمحاكم” بما حقق لها فرصة التوسع السريع في الفترة الأخيرة ،بدخول الناس “طوعا لا كرها ” تحت ولايتها وحكمها ،وبما جعلها قادرة على توحيد الصومال وبناء “نمط” جديد من جهاز الدولة الساعي إلى تحقيق مركزية حكم الصومال ووحدة شعبه وأرضه.
وهنا،تشكلت عناصر الأزمة الراهنة .فمن ناحية ،كان ما حدث هو تحول داخلي كبير- ويمكن القول ” تاريخي ” -باتجاه توحد الصومال ،كما هو عودة إلى “مشروع قوة جديد” في القرن الأفريقي .ومن ناحية ثانية كان معنى هذا التطور ،أن “يد” و”أطماع” دول الجوار الممدودة في الداخل الصومالي عبر أمراء الحرب،التي من مصلحتها استمرار التقسيم والانقسام الداخلي، قد وجدت من “يقطعها” ويفسد خططها ويتحول بالصومال كله إلى مشروع مضاد وطارد ومواجه للنفوذ الخارجي في داخله .ومن ناحية ثالثة فإن صومال المحاكم بات مشروعا “مهاجما” على المستوى الحضاري لمشروعات المحيط في داخله ،ولمشروعات القوى الغربية في داخله وفى منطقة القرن الأفريقي وربما أيضا في منطقة حزام وسط أفريقيا كله ،إذ هو مشروع بحكم “إسلاميته” قادر على إعادة ترتيب الأوضاع وفق رؤية حضارية واستراتيجية وسياسية جديدة ،طالما بذلت القوى الغربية وقوى المحيط الجغرافي جهودها لإنفاذ رؤية أخرى معاكسة لها ،بما يذكر –مع الفارق بطبيعة التحول الحضاري الذي حدث في السودان بعد حكم الإنقاذ.
أضحى الصومال في أزمة ،أو جرت محاولة لجره إلى أزمة داخلية ،وتحويله إلى حالة أزمة إقليمية،إذ إن الذين “تآمروا ” عليه لتقسيمه وتفتيت كيانه “وإبادة” شعبه المسلم “كليا” ،والذين خططوا لجعله نقطة ارتكاز “خالية من عناصر القوة” للانطلاق منها للسيطرة على مناطق أخرى في المحيط ،أصبحوا مواجهين بقوة تحول لتغيير المحيط وليس فقط لطردهم من نقاط الارتكاز التي تحققت لهم في داخل الصومال عبر جهود ونشاط ووجود أمراء الحرب .
لم تكن القوى الإقليمية والدولية غائبة عن متابعة ما يجرى في داخل الصومال ،لكن ما كان لديها من عوامل ومصادر لإدارة الصومال بأزمته الداخلية “لتحقيق شرط بقاء محصلة قوته صفرا” كانت كثيرة ومتعددة (الفقر والمجاعات-التقسيم الشامل –العودة في التقسيم والولاءات لما كان خلال الحقبة الاستعمارية-أمراء الحرب وموقفهم المساند للحملة الأمريكية والغربية ضد المقاومة الإسلامية “الإرهاب” –الحكومة الانتقالية غير القادرة على السيطرة على الأرض والمعزولة )،وهنا باغتهم أهل الصومال ،بالدفع بقوة المحاكم الإسلامية من نقاط ارتكازها القديمة إلى التحول إلى “نظام متكامل يجمع أهل الصومال ويبنى دولتهم الموحدة ويحقق عوامل القوة في كل إرجاء الصومال ” ،وهنا جرى التحرك السريع -لكن المضطرب أيضا-من قبل الأطراف الإقليمية والدولية لمواجهة هذا التغير “الخطير” في الصومال ،قبل أن يسمح له “الوقت” لتحويل “الطفرة ” إلى حالة دائمة مستقرة .
استقرار الفوضى!
كانت الأوضاع قد “استقرت ” في الصومال ،على أساس تحول الفوضى الشاملة إلى حالة “مستقرة” .كان البلد قد استقرت الأوضاع فيه لسنوات على أساس حالة من الانقسام والتقسيم “المستقر” –إلا من حالات يحاول فيها أمير حرب التعدي على “حدود” سيطرة آخر فيحدث قتال-دون ملل أو تململ نحو تغيير الأوضاع .كل أمير حرب لديه “ميليشيا مسلحة” ويسيطر على “حيز جغرافي “ومجموعة “سكانية “محددة ،وله أركان حكمه كما لديه مصادر تمويل محلى وخارجي …الخ .وكان الشعب الصومالي قد “استقر” الحال به أيضا أن لا مفر أمامه إلا البقاء كل في مكانه قابلا بسيطرة أمير الحرب ،أو الهجرة إلى منطقة سيطرة أمير حرب آخر أو الهجرة إلى الخارج .
وكانت كل دولة من دول الجوار أو لنقل تحديدا إثيوبيا بالدرجة الأولى وكينيا بالدرجة الثانية ،تسيطر فعليا على الإقليم الذي تراه ضروريا لتامين مصالحها في داخل الصومال وربما مصالح دول غربية تعمل لديها أو لحساب مصالحها بالوكالة .
والدول الغربية ،كانت استقرت مصالحها في داخل الصومال وبشأنه هي الأخرى ،بعقابه أولا على “مقاومته” قوات الاستعمار الغربي والأمريكي خاصة، وبتحول أطفاله إلى سلعة رائجة داخل الدول الغربية لتعويض تناقص سكانها وبالتعاون مع عصابات غربية وأمراء حرب، وبتحويل قطاعات من أراضيه إلى مناطق تنقل رويدا رويدا إلى مناطق خاضعة لها مباشرة (مع عدم وجود سلطة مركزية في هذا البلد المنكوب أصبحت مناطق صومالية قواعد عسكرية لا يعرف الصوماليين عنها شيئا)،كما أصبح الموقع الاستراتيجي للصومال مهمشاً على صعيد قدرات الدول الإسلامية ونقطة ارتكاز للدول الغربية تحقق لها السيطرة على مناطق إسلامية أخرى ،إذ تحت ذريعة الحرب على الإرهاب جرى تحويل الساحل الصومالي والمياه الإقليمية لهذا البلد إلى نقاط ارتكاز للسيطرة على مناطق البحر الأحمر عند اتصالها بالمحيط الهندي .
غير أن المتغيرات في البيئة الإقليمية المحيطة بالصومال وكذا التغييرات في الوضع الدولي قد أصبحت في حالة تهيئة لحدوث تحولات أخرى في داخل الصومال ،متزامنة في ذلك مع التطورات الحادثة في داخل الصومال ،بما هيأ الفرصة الأوسع للمحاكم الإسلامية لسرعة النشاط وتحقيق معالم القوة والسيطرة .
فالصراع الأثيوبي الأريتري واليمنى الأريتري والسوداني الأريتري والصراع الإيطالي الفرنسي الأمريكي على مناطق النفوذ، باتت كلها عوامل دافعة للتغيير في الأوضاع الداخلية .
وفى المقابل فإن “استقرار الفوضى” داخل الصومال ،ورغم انه قد ولد عوامل لاستمرار استقرار الفوضى كنظام يولد آليات استمراره ،فانه في ذات الوقت ولد عوامل انهياره ،وفى ذلك بزغ نجم قوة البعث والنهوض الاسلامى باعتباره ملاذا للشعب الصومالى من جرائم نظام أمراء الحرب .
انفضت معادلة استقرار الوضع في الصومال لعوامل داخلية ولعوامل تتعلق بصراعات دول المحيط والصراعات بين القوى الدولية أيضا .لكن ما جرى من بزوغ المحاكم الإسلامية شكل خطرا على كل القوى الداخلية والخارجية الإقليمية والدولية باعتباره قلبا للطاولة على رؤوس الجميع .
معركة مبكرة
يبدو القرار الذي كاد أن يكون محل إجماع في لحظة الانهيار السريع لكل مراكز نفوذ أمراء الحرب ، في مواجهة الثورة الشاملة التي اجتاحت ارض الصومال بتتالي انضمام المناطق الصومالية تحت لواء المحاكم الإسلامية ،هو ضرورة التعجيل بحرب على المحاكم في وقت مبكر أو بسرعة خاطفة تحت غطاء من الحكومة الانتقالية التي باتت تخشى سقوطا فوريا لها .وكان الهدف من هذه المعركة المبكرة هو إجهاض مبكر لتجربة المحاكم الإسلامية في الصومال لأهداف تتعلق بالصومال نفسه بمنع بنائها دولة مركزية وإسلامية في الصومال تطرد النفوذ الذي تحقق للأطراف الخارجية على أرضه وتعيد توحيد البلاد ،ولأسباب تتعلق بتأثيرات تلك التجربة على المحيط أو لمنع امتداد تجربتها إلى دول الجوار أيضا،والتي هي بالإجمال دول تعانى من هشاشة حكوماتها ومن اضطراب أوضاعها السياسية والاقتصادية ومن توترات دينية واثنية وعرقية ..الخ .
الدول الغربية الساعية إلى تحويل قدرة الصومال إلى الحالة صفر، وتفعيل عوامل التفكيك حتى الوصول بالصومال فعليا ورسميا إلى مرحلة ما قبل الاستقلال(الصومال الفرنسي-الصومال الإيطالي-الصومال الكيني-الصومال الأثيوبي ) باتت ترى ضرورة القيام بعمل عاجل لمنع التوحيد ولوقف آثاره البعيدة على نفوذها في دول الإقليم أيضا .
ودول الإقليم وجدت الأمر نفسه (خاصة إثيوبيا وكينيا ) مضافا إليه أنها وجدت أن تشكيل “دولة” إسلامية في الصومال –وفق نمط المحاكم الإسلامية تحديدا-إنما يعنى تهديدا حقيقيا لاستمرار تلك النظم ليس فقط لوجود أغلبية من المسلمين في بعض الدول أو بحكم انقسام سكان دول أخرى نصفين تقريبا بين المسلمين وغيرهم ،ولكن باعتبار أن تلك الدول أيضا ضالعة في مخططات مع الدول الغربية لإعادة تشكيل منطقة القرن الأفريقي ،ويعد ظهور المحاكم الإسلامية وسيطرتها على الصومال تغييراً استراتيجياً في الوضع المضاد لهذه الخطوات التي ارتبطت بها مصالح تلك الدول .
كما وجدت بعض دول الإقليم (نموذج إرتريا ) أن إشعال حرب بين المحاكم الإسلامية وإثيوبيا فرصة اكبر لجر كليهما إلى معركة إنهاك -باعتبار إثيوبيا عدواً أول مباشر والمحاكم عدو مستقبلي –تحقق لها فرصة دخول معركة محسومة النتائج ضد إثيوبيا ،تستدير من بعدها إلى معركة أخرى مع المحاكم ليتحقق لها حلم التحول إلى قوة مسيطرة في القرن الأفريقي كله وفق استراتيجيتها الظاهرة من خلال تدخلها في الأوضاع الداخلية في السودان ووفق ما ظهر من استيلائها على جزر حنيش ومن معركتها الحربية مع إثيوبيا ..الخ ،كما اريتريا تريد من تلك المعركة إشعار الولايات المتحدة بان ميلها الواضح في المرحلة الأخيرة من الصراع بين اريتريا وإثيوبيا لصالح الأخيرة ،قد يخلق لها مشاكل ليست بالقليلة في الإقليم.
اتفقت مختلف الأطراف على الدفع بمعركة عاجلة وخاطفة مع المحاكم ،لكن الأمور تشير إلى أن كل ما يراد لا يحدث .
تردد ومخاوف وتحضيرات
البادي من قراءة تحركات المحاكم الإسلامية في الصومال أن قيادتها توقن جيدا عوامل القوة التي تتمتع بها في الصومال وفى الإقليم ،ولعل هذا هو بما دفعها إلى التحرك بقوة وسرعة لمجابهة التهديدات للحرب ،فهي إذ استثمرت فرصة التهديد الأثيوبي والكيني بالحرب لتعميق الحشد والالتفاف الداخلي حولها ،فإنها أيضا تحركت وعلى نحو عاجل لحصار مقر الحكومة المؤقتة في مدينة بيدوا باعتبارها الخطر الداخلي المباشر ونقطة الارتكاز السياسية للتدخل الخارجي ،كما هي صعدت من لهجتها المتمتعة بعزة الإسلام تجاه القوى الخارجية بما جعل تلك القوى تراجع مواقفها وتدرك أن المعركة ستطول وان آثارها عليها هي ستكون بالغة الخطر .
إثيوبيا أدركت أن المعركة قد ينتج عنها حالة كارثية في إثيوبيا لا في الصومال ،ليس فقط باعتبار اريتريا في انتظار لحظة إشعال حرب أخرى معها ،ولكن بالأساس لان إثيوبيا تدرك أن نصف سكانها المسلمين سيتعاطفون مع المحاكم الإسلامية وان هذه الحرب ستوقظ مجددا حركة تحرير إقليم الاوجادين الذي كانت بريطانيا الاستعمارية قد انتزعته قسرا من الوطن الصومالي في الخمسينات وضمته إلى إثيوبيا وما تزال الأغلبية العظمى من سكانه صوماليين مسلمين ،كما هي تخوفت من تأثير امتدادات القبائل الصومالية في داخلها،حيث للقبائل الخمس الرئيسية في الصومال (جريد-دارود-هوية-در-رحنون ) امتدادات واسعة داخل إثيوبيا (وفى الدول الأخرى المجاورة) .كما أدركت إثيوبيا أن حدودها مع الصومال البالغة نحو 2800 كيلو مترا ستكون مصيدة لقواتها وفرصة مناسبة لحرب جهادية صومالية من قبل المحاكم لا قبل لإثيوبيا بها ،في ظل توسع سيطرة المحاكم على معظم الأراضي الصومالية.
هنا توقف الاندفاع نحو الغزو الأثيوبي العاجل والسريع الذي بدا مع سيطرة المحاكم الإسلامية السريعة على مختلف إرجاء الصومال ،وجرى كبديل للغزو المتعجل هذا ،تحريك الحكومة الانتقالية المحاصرة في بيدوا للعودة إلى المفاوضات مع المحاكم في العاصمة الصومالية.
الحرب الداخلية
لكن ذلك لا يعنى أن المواجهة بين إثيوبيا وكينيا مدعومتين من الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية ،ستتوقف عند هذا الحد ،أو أن تلك الدول ستعترف للشعب الصومالي بحقه في اختيار نظام حكمه أو في بناء دولته المهدمة ،لكنه يعنى تحديدا أن الأمور ستجرى على نحو مختلف ووفق خطة مختلفة ،بما يطرح على قيادة المحاكم الإسلامية التحرك باتجاهات متعددة .
والأغلب أن إثيوبيا وكينيا وحلفاءهما الدوليين خاصة الولايات المتحدة ،سيخوضون الحرب ضد تجربة المحاكم الإسلامية من داخل الصومال ووفق إحداث الفتن والصراعات الداخلية ،لا وفق نمط الحرب من الخارج ومن الجهات الخارجية مباشرة .
وبالدقة فالأغلب أن ما سيجرى من الآن فصاعدا هو أن تلك القوى الدولية والإقليمية ،ستسعى إلى تجميع أمراء الحرب وبعض أطراف ومكونات الحكومة الانتقالية لتكوين نمط مشابه “لتحالف الشمال في أفغانستان “،ودعمه بأسلحة متطورة وأعمال استخبارية ،وبقرارات دولية مساندة له ،مع فرض الحصار على المحاكم –تحت شعارات الحرب على الإرهاب-لإثارة الاضطرابات الداخلية .
وإذا أوضحت المتابعة العملية للمحاكم أن هذا التوجه هو ما صار معتمدا من الدول الإقليمية والغربية ،فان المحاكم لا شك ستتوجه إلى تعميق حشدها الداخلي وملاحقة أمراء الحرب وتفكيك الحكومة الانتقالية بشكل حاسم ،وفى الإسراع ببناء جهاز دولة صومالي على المستويات الإدارية والاقتصادية ،وكذا هي ستهتم لا شك بالاستفادة بشكل أعمق من التناقضات بين دول المحيط ،كما ستسعى إلى تشكيل شبكة أمان سياسية من خلال التوسع في الحركة السياسية والإعلامية في أرجاء العالم الإسلامي.
كما هي ربما تفكر في الإمساك بأوراق داخل دول المحيط المعادية لردعها عن العدوان والتخريب في الصومال .
والحاصل أن تجربة “المحاكم الشرعية الإسلامية” قد شكلت حالة جديدة لبناء “جهاز دولة” جديد في الصومال ،بديل لجهاز الدولة الصومالي القديم الذي كان تفكك مع انهيار حكم سياد برى ،وبديل في الآن ذاته لحالة الفوضى والتقسيم والانقسام لكل شيء على ارض الصومال خلال مرحلة ما بعد انهيار جهاز الدولة المركزية .وتلك التجربة وان كانت في مراحلها الأولى “جزءا من عملية التقسيم والانقسام “بفعل وجودها في مناطق دون أخرى على ارض الصومال وبفعل وجودها في مواجهة أشكال وكيانات وإدارات أخرى، سابقا،إلا أن توسع صدقيتها ومصداقيتها أمام الشعب الصومالي “المجزأ تحت حكم أمراء الحرب ” قد دفعته إلى تأييد واسع “للمحاكم” بما حقق لها فرصة التوسع السريع في الفترة الأخيرة ،بدخول الناس “طوعا لا كرها ” تحت ولايتها وحكمها ،وبما جعلها قادرة على توحيد الصومال وبناء “نمط” جديد من جهاز الدولة الساعي إلى تحقيق مركزية حكم الصومال ووحدة شعبه وأرضه.
وهنا،تشكلت عناصر الأزمة الراهنة .فمن ناحية ،كان ما حدث هو تحول داخلي كبير- ويمكن القول ” تاريخي ” -باتجاه توحد الصومال ،كما هو عودة إلى “مشروع قوة جديد” في القرن الأفريقي .ومن ناحية ثانية كان معنى هذا التطور ،أن “يد” و”أطماع” دول الجوار الممدودة في الداخل الصومالي عبر أمراء الحرب،التي من مصلحتها استمرار التقسيم والانقسام الداخلي، قد وجدت من “يقطعها” ويفسد خططها ويتحول بالصومال كله إلى مشروع مضاد وطارد ومواجه للنفوذ الخارجي في داخله .ومن ناحية ثالثة فإن صومال المحاكم بات مشروعا “مهاجما” على المستوى الحضاري لمشروعات المحيط في داخله ،ولمشروعات القوى الغربية في داخله وفى منطقة القرن الأفريقي وربما أيضا في منطقة حزام وسط أفريقيا كله ،إذ هو مشروع بحكم “إسلاميته” قادر على إعادة ترتيب الأوضاع وفق رؤية حضارية واستراتيجية وسياسية جديدة ،طالما بذلت القوى الغربية وقوى المحيط الجغرافي جهودها لإنفاذ رؤية أخرى معاكسة لها ،بما يذكر –مع الفارق بطبيعة التحول الحضاري الذي حدث في السودان بعد حكم الإنقاذ.
أضحى الصومال في أزمة ،أو جرت محاولة لجره إلى أزمة داخلية ،وتحويله إلى حالة أزمة إقليمية،إذ إن الذين “تآمروا ” عليه لتقسيمه وتفتيت كيانه “وإبادة” شعبه المسلم “كليا” ،والذين خططوا لجعله نقطة ارتكاز “خالية من عناصر القوة” للانطلاق منها للسيطرة على مناطق أخرى في المحيط ،أصبحوا مواجهين بقوة تحول لتغيير المحيط وليس فقط لطردهم من نقاط الارتكاز التي تحققت لهم في داخل الصومال عبر جهود ونشاط ووجود أمراء الحرب .
لم تكن القوى الإقليمية والدولية غائبة عن متابعة ما يجرى في داخل الصومال ،لكن ما كان لديها من عوامل ومصادر لإدارة الصومال بأزمته الداخلية “لتحقيق شرط بقاء محصلة قوته صفرا” كانت كثيرة ومتعددة (الفقر والمجاعات-التقسيم الشامل –العودة في التقسيم والولاءات لما كان خلال الحقبة الاستعمارية-أمراء الحرب وموقفهم المساند للحملة الأمريكية والغربية ضد المقاومة الإسلامية “الإرهاب” –الحكومة الانتقالية غير القادرة على السيطرة على الأرض والمعزولة )،وهنا باغتهم أهل الصومال ،بالدفع بقوة المحاكم الإسلامية من نقاط ارتكازها القديمة إلى التحول إلى “نظام متكامل يجمع أهل الصومال ويبنى دولتهم الموحدة ويحقق عوامل القوة في كل إرجاء الصومال ” ،وهنا جرى التحرك السريع -لكن المضطرب أيضا-من قبل الأطراف الإقليمية والدولية لمواجهة هذا التغير “الخطير” في الصومال ،قبل أن يسمح له “الوقت” لتحويل “الطفرة ” إلى حالة دائمة مستقرة .
استقرار الفوضى!
كانت الأوضاع قد “استقرت ” في الصومال ،على أساس تحول الفوضى الشاملة إلى حالة “مستقرة” .كان البلد قد استقرت الأوضاع فيه لسنوات على أساس حالة من الانقسام والتقسيم “المستقر” –إلا من حالات يحاول فيها أمير حرب التعدي على “حدود” سيطرة آخر فيحدث قتال-دون ملل أو تململ نحو تغيير الأوضاع .كل أمير حرب لديه “ميليشيا مسلحة” ويسيطر على “حيز جغرافي “ومجموعة “سكانية “محددة ،وله أركان حكمه كما لديه مصادر تمويل محلى وخارجي …الخ .وكان الشعب الصومالي قد “استقر” الحال به أيضا أن لا مفر أمامه إلا البقاء كل في مكانه قابلا بسيطرة أمير الحرب ،أو الهجرة إلى منطقة سيطرة أمير حرب آخر أو الهجرة إلى الخارج .
وكانت كل دولة من دول الجوار أو لنقل تحديدا إثيوبيا بالدرجة الأولى وكينيا بالدرجة الثانية ،تسيطر فعليا على الإقليم الذي تراه ضروريا لتامين مصالحها في داخل الصومال وربما مصالح دول غربية تعمل لديها أو لحساب مصالحها بالوكالة .
والدول الغربية ،كانت استقرت مصالحها في داخل الصومال وبشأنه هي الأخرى ،بعقابه أولا على “مقاومته” قوات الاستعمار الغربي والأمريكي خاصة، وبتحول أطفاله إلى سلعة رائجة داخل الدول الغربية لتعويض تناقص سكانها وبالتعاون مع عصابات غربية وأمراء حرب، وبتحويل قطاعات من أراضيه إلى مناطق تنقل رويدا رويدا إلى مناطق خاضعة لها مباشرة (مع عدم وجود سلطة مركزية في هذا البلد المنكوب أصبحت مناطق صومالية قواعد عسكرية لا يعرف الصوماليين عنها شيئا)،كما أصبح الموقع الاستراتيجي للصومال مهمشاً على صعيد قدرات الدول الإسلامية ونقطة ارتكاز للدول الغربية تحقق لها السيطرة على مناطق إسلامية أخرى ،إذ تحت ذريعة الحرب على الإرهاب جرى تحويل الساحل الصومالي والمياه الإقليمية لهذا البلد إلى نقاط ارتكاز للسيطرة على مناطق البحر الأحمر عند اتصالها بالمحيط الهندي .
غير أن المتغيرات في البيئة الإقليمية المحيطة بالصومال وكذا التغييرات في الوضع الدولي قد أصبحت في حالة تهيئة لحدوث تحولات أخرى في داخل الصومال ،متزامنة في ذلك مع التطورات الحادثة في داخل الصومال ،بما هيأ الفرصة الأوسع للمحاكم الإسلامية لسرعة النشاط وتحقيق معالم القوة والسيطرة .
فالصراع الأثيوبي الأريتري واليمنى الأريتري والسوداني الأريتري والصراع الإيطالي الفرنسي الأمريكي على مناطق النفوذ، باتت كلها عوامل دافعة للتغيير في الأوضاع الداخلية .
وفى المقابل فإن “استقرار الفوضى” داخل الصومال ،ورغم انه قد ولد عوامل لاستمرار استقرار الفوضى كنظام يولد آليات استمراره ،فانه في ذات الوقت ولد عوامل انهياره ،وفى ذلك بزغ نجم قوة البعث والنهوض الاسلامى باعتباره ملاذا للشعب الصومالى من جرائم نظام أمراء الحرب .
انفضت معادلة استقرار الوضع في الصومال لعوامل داخلية ولعوامل تتعلق بصراعات دول المحيط والصراعات بين القوى الدولية أيضا .لكن ما جرى من بزوغ المحاكم الإسلامية شكل خطرا على كل القوى الداخلية والخارجية الإقليمية والدولية باعتباره قلبا للطاولة على رؤوس الجميع .
معركة مبكرة
يبدو القرار الذي كاد أن يكون محل إجماع في لحظة الانهيار السريع لكل مراكز نفوذ أمراء الحرب ، في مواجهة الثورة الشاملة التي اجتاحت ارض الصومال بتتالي انضمام المناطق الصومالية تحت لواء المحاكم الإسلامية ،هو ضرورة التعجيل بحرب على المحاكم في وقت مبكر أو بسرعة خاطفة تحت غطاء من الحكومة الانتقالية التي باتت تخشى سقوطا فوريا لها .وكان الهدف من هذه المعركة المبكرة هو إجهاض مبكر لتجربة المحاكم الإسلامية في الصومال لأهداف تتعلق بالصومال نفسه بمنع بنائها دولة مركزية وإسلامية في الصومال تطرد النفوذ الذي تحقق للأطراف الخارجية على أرضه وتعيد توحيد البلاد ،ولأسباب تتعلق بتأثيرات تلك التجربة على المحيط أو لمنع امتداد تجربتها إلى دول الجوار أيضا،والتي هي بالإجمال دول تعانى من هشاشة حكوماتها ومن اضطراب أوضاعها السياسية والاقتصادية ومن توترات دينية واثنية وعرقية ..الخ .
الدول الغربية الساعية إلى تحويل قدرة الصومال إلى الحالة صفر، وتفعيل عوامل التفكيك حتى الوصول بالصومال فعليا ورسميا إلى مرحلة ما قبل الاستقلال(الصومال الفرنسي-الصومال الإيطالي-الصومال الكيني-الصومال الأثيوبي ) باتت ترى ضرورة القيام بعمل عاجل لمنع التوحيد ولوقف آثاره البعيدة على نفوذها في دول الإقليم أيضا .
ودول الإقليم وجدت الأمر نفسه (خاصة إثيوبيا وكينيا ) مضافا إليه أنها وجدت أن تشكيل “دولة” إسلامية في الصومال –وفق نمط المحاكم الإسلامية تحديدا-إنما يعنى تهديدا حقيقيا لاستمرار تلك النظم ليس فقط لوجود أغلبية من المسلمين في بعض الدول أو بحكم انقسام سكان دول أخرى نصفين تقريبا بين المسلمين وغيرهم ،ولكن باعتبار أن تلك الدول أيضا ضالعة في مخططات مع الدول الغربية لإعادة تشكيل منطقة القرن الأفريقي ،ويعد ظهور المحاكم الإسلامية وسيطرتها على الصومال تغييراً استراتيجياً في الوضع المضاد لهذه الخطوات التي ارتبطت بها مصالح تلك الدول .
كما وجدت بعض دول الإقليم (نموذج إرتريا ) أن إشعال حرب بين المحاكم الإسلامية وإثيوبيا فرصة اكبر لجر كليهما إلى معركة إنهاك -باعتبار إثيوبيا عدواً أول مباشر والمحاكم عدو مستقبلي –تحقق لها فرصة دخول معركة محسومة النتائج ضد إثيوبيا ،تستدير من بعدها إلى معركة أخرى مع المحاكم ليتحقق لها حلم التحول إلى قوة مسيطرة في القرن الأفريقي كله وفق استراتيجيتها الظاهرة من خلال تدخلها في الأوضاع الداخلية في السودان ووفق ما ظهر من استيلائها على جزر حنيش ومن معركتها الحربية مع إثيوبيا ..الخ ،كما اريتريا تريد من تلك المعركة إشعار الولايات المتحدة بان ميلها الواضح في المرحلة الأخيرة من الصراع بين اريتريا وإثيوبيا لصالح الأخيرة ،قد يخلق لها مشاكل ليست بالقليلة في الإقليم.
اتفقت مختلف الأطراف على الدفع بمعركة عاجلة وخاطفة مع المحاكم ،لكن الأمور تشير إلى أن كل ما يراد لا يحدث .
تردد ومخاوف وتحضيرات
البادي من قراءة تحركات المحاكم الإسلامية في الصومال أن قيادتها توقن جيدا عوامل القوة التي تتمتع بها في الصومال وفى الإقليم ،ولعل هذا هو بما دفعها إلى التحرك بقوة وسرعة لمجابهة التهديدات للحرب ،فهي إذ استثمرت فرصة التهديد الأثيوبي والكيني بالحرب لتعميق الحشد والالتفاف الداخلي حولها ،فإنها أيضا تحركت وعلى نحو عاجل لحصار مقر الحكومة المؤقتة في مدينة بيدوا باعتبارها الخطر الداخلي المباشر ونقطة الارتكاز السياسية للتدخل الخارجي ،كما هي صعدت من لهجتها المتمتعة بعزة الإسلام تجاه القوى الخارجية بما جعل تلك القوى تراجع مواقفها وتدرك أن المعركة ستطول وان آثارها عليها هي ستكون بالغة الخطر .
إثيوبيا أدركت أن المعركة قد ينتج عنها حالة كارثية في إثيوبيا لا في الصومال ،ليس فقط باعتبار اريتريا في انتظار لحظة إشعال حرب أخرى معها ،ولكن بالأساس لان إثيوبيا تدرك أن نصف سكانها المسلمين سيتعاطفون مع المحاكم الإسلامية وان هذه الحرب ستوقظ مجددا حركة تحرير إقليم الاوجادين الذي كانت بريطانيا الاستعمارية قد انتزعته قسرا من الوطن الصومالي في الخمسينات وضمته إلى إثيوبيا وما تزال الأغلبية العظمى من سكانه صوماليين مسلمين ،كما هي تخوفت من تأثير امتدادات القبائل الصومالية في داخلها،حيث للقبائل الخمس الرئيسية في الصومال (جريد-دارود-هوية-در-رحنون ) امتدادات واسعة داخل إثيوبيا (وفى الدول الأخرى المجاورة) .كما أدركت إثيوبيا أن حدودها مع الصومال البالغة نحو 2800 كيلو مترا ستكون مصيدة لقواتها وفرصة مناسبة لحرب جهادية صومالية من قبل المحاكم لا قبل لإثيوبيا بها ،في ظل توسع سيطرة المحاكم على معظم الأراضي الصومالية.
هنا توقف الاندفاع نحو الغزو الأثيوبي العاجل والسريع الذي بدا مع سيطرة المحاكم الإسلامية السريعة على مختلف إرجاء الصومال ،وجرى كبديل للغزو المتعجل هذا ،تحريك الحكومة الانتقالية المحاصرة في بيدوا للعودة إلى المفاوضات مع المحاكم في العاصمة الصومالية.
الحرب الداخلية
لكن ذلك لا يعنى أن المواجهة بين إثيوبيا وكينيا مدعومتين من الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية ،ستتوقف عند هذا الحد ،أو أن تلك الدول ستعترف للشعب الصومالي بحقه في اختيار نظام حكمه أو في بناء دولته المهدمة ،لكنه يعنى تحديدا أن الأمور ستجرى على نحو مختلف ووفق خطة مختلفة ،بما يطرح على قيادة المحاكم الإسلامية التحرك باتجاهات متعددة .
والأغلب أن إثيوبيا وكينيا وحلفاءهما الدوليين خاصة الولايات المتحدة ،سيخوضون الحرب ضد تجربة المحاكم الإسلامية من داخل الصومال ووفق إحداث الفتن والصراعات الداخلية ،لا وفق نمط الحرب من الخارج ومن الجهات الخارجية مباشرة .
وبالدقة فالأغلب أن ما سيجرى من الآن فصاعدا هو أن تلك القوى الدولية والإقليمية ،ستسعى إلى تجميع أمراء الحرب وبعض أطراف ومكونات الحكومة الانتقالية لتكوين نمط مشابه “لتحالف الشمال في أفغانستان “،ودعمه بأسلحة متطورة وأعمال استخبارية ،وبقرارات دولية مساندة له ،مع فرض الحصار على المحاكم –تحت شعارات الحرب على الإرهاب-لإثارة الاضطرابات الداخلية .
وإذا أوضحت المتابعة العملية للمحاكم أن هذا التوجه هو ما صار معتمدا من الدول الإقليمية والغربية ،فان المحاكم لا شك ستتوجه إلى تعميق حشدها الداخلي وملاحقة أمراء الحرب وتفكيك الحكومة الانتقالية بشكل حاسم ،وفى الإسراع ببناء جهاز دولة صومالي على المستويات الإدارية والاقتصادية ،وكذا هي ستهتم لا شك بالاستفادة بشكل أعمق من التناقضات بين دول المحيط ،كما ستسعى إلى تشكيل شبكة أمان سياسية من خلال التوسع في الحركة السياسية والإعلامية في أرجاء العالم الإسلامي.
كما هي ربما تفكر في الإمساك بأوراق داخل دول المحيط المعادية لردعها عن العدوان والتخريب في الصومال .