الحمد لله -تعالى- رب العالَمين، والصلاة والسلام على إمام العالِمين، وعلى آله وأصحابه الهداة المهتدين.
وبعد فإن أولي الأمر من العلماء والأمراء هم الذين أمر الله بأن ترد إليهم المعضلات، فهم بمنزلة الرأس من الجسد، يمثلون عقل الأمة المدبر إذا نزلت النوازل المشكلة، ودهت الدواهي المظلمة، ولهذا أمر الله تعالى في كتابه بالرد إلي أهل العلم فقال تعالي :(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً).
ولما كانت الأمور ترد إلى صالحي أهل العلم قديماً، سلم المسلمون بل ظهروا وسادوا.
وهكذا كان الأمر لما كان العلماء هم الذين يبتدرون قيادة الأمة وتوجيهها إلى الأمور العظام. وقد كانوا يعدون ذلك من جملة الميثاق الذي أخذه الله على من اختار فأورثهم العلم، كما في حديث الترمذي وغيره – وقد روي من طرق يعضد بعضها بعضاً- :”إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر”، ولهذا فقد عرف سلفنا قدر الورثة، فاجتهدوا لتحصيلها، وقاموا بحقها؛ فعلموا وعملوا ودعو الآخرين إليها صابرين محتسبين.
ثم لما خفت وهج علماء الشريعة شيئاً فشيئاً وضعف الرد إليهم قليلاً قليلاً، تردت الأمة عصراً إثر عصر، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: “لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه”، وقد الحسن البصري: “كل عام ترذلون”.
إلاّ أن من رحمة الله بعباده بعثه لهم على رأس كل قرن من يجدد لهم أمر الدين، فيبتدر قياد الأمة وتوجيهها إلى العلم والعمل، ويجسر في ذلك على ما لم يجسر عليه قرنه بحكمة وبصيرة.
ومن ذلك رحمة الله لهذه الأمة في قرنها الثالث بالإمام أحمد الذي تولى نشر أعلام السنة في زمان تنكيسها، وقام لمن تعرض لها وخالفها معارضاً بالحجة والبرهان حتى ظهر الحق وزهق الباطل، فمضى الظالمون المعتدون المبتدعون وألسنة الأجيال تنتقصهم، وترفع من شأن العلم الإمام.
وكذلك الشأن في القرن السابع الذي تولى فيه شيخ الإسلام وعلم الأعلام أحمد بن عبد الحليم بن عبدالسلام ابن تيمية الحراني زمام مبادرة الخروج بالأمة عن سلطان التتر، فحرض عليهم وحث على قتالهم وشارك فيه مبلياً بلاء حسناً، حتى ظهر جند الإسلام يوم شقحب، ثم حرض على أنصارهم من أهل كسروان. ثم توجه بقوة إلى بعث اعتقاد أهل السنة في جسد الأمة، وعمد إلى شبه الملاحدة والفلاسفة والمبتدعة فجعلها هباء منثوراً.
وفي القرون المتأخرة جاء الإمام محمد بن عبدالوهاب فتولى زمام المبادرة، ودأب مجتهداً في الدعوة دون كلل حتى أخرج بلاد نجد من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، بل سائر الجزيرة، بل امتد أثر دعوته الإصلاحية إلى كافة أرجاء البسيطة وتأثر بها الناس على اختلاف جماعاتهم، في المشارق والمغارب.
إن أولئك الأئمة قاموا بحق التركة التي ورثوها، فلم يعتزلوا منفردين، أو ينزووا منتظرين من يخرجهم إلى الناس ويرجع الخلق إلى الحق الذي يعلمون، وفي نفس الوقت ما كان هدفهم نيل ولاية حكمية، أو اعتلاء كرسي رئاسي، أو حيازة حقيبة للدولة، بل مات بعضهم في السجن وبقي أثره عظيماً في القرون من بعده. وما ذاك إلاّ لأن نشر الحق وإشاعة السنة وهداية الخلق هي الغاية، التي ركبوا لأجل بلوغها كل سبيل صعب وذلول طالما كان مشروعاً، اقتضت الحكمة ركوبه ولو على حساب النفس.
وأما في عصور الناس اليوم فمع كثرة الفتن، وتوالي المعضلات، عظمت حاجة الأمم للعلماء الناصحين، والدعاة الصادقين، ولعل استضعاف الأمة مؤشر يبين قلة العلماء العاملين المؤثرين ومدى بعدهم عن محل القيادة في الجملة، وعلى الرغم من الاستضعاف في هذه الأزمنة فإنه لايمكننا بحال أن ننكر وجود وجهود أئمة مرضين، وعلماء عاملين باذلين ناصحين، ولا سيما في بعض بلاد الله، كيف وقد بوب البخاري في الصحيح: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون وهم أهل العلم، غير أن بعض بلاد الله لا تكاد ترى فيها من أهل العلم أحداً اللهم إلاّ الطريد أو الأسير أو المبعد عن القيادة المضيق عليه، وفي مثل تلك الأجواء الموبوءة تمتد رؤوس أهل الضلال؛ أدعياء التركة النبوية بلسان الحال، وكذلك الجهال وهم في أحسن أحوالهم مفترون مدعون –ولو بحسن قصد- يفتون بغير علم، ثم إن الهمج الرعاع يتبعون كل ناعق، ويجعلون الجاهل المتصدر رأساً. ولا تسل عن الحال كيف تغدو إذا تصدرت الأذناب!
ولا شك أن الواجب تجاه الواقع هذه الأعصار في كثير من الأمصار على أهل العلم كبير، وليس مثلي من يبصر أهل العلم بدورهم أو ما ينبغي لهم صنعه في المجتمع، بل لعل الشروع في مثل هذا ينافي مقصود المقال الذي يقرر أهمية قيام أهل العلم بحق التركة التي ورثوها، ومن جملة ذلك تولي زمام المبادرة، وقياد الأمة، ووضع الخطط البعيدة الموصلة إلى المقاصد الشرعية العظيمة، وترتيب أولويات الأمة، وتوجيه بنيها إلى الثغور الشاغرة.
ولكن الغرض هو التذكير بما كان عليه أهل العلم الأوائل، والحث على اقتفاء سبيل المجددين في القرون التالية لقرون السابقين، والتذكير كذلك بعظم الحاجة وافتقار الناس إلى أهل العلم اليوم، وقد قال الله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذريات:55].
أحسب أن مشايخنا وعماءنا ودعاتنا من خيارهم، والله أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد فإن أولي الأمر من العلماء والأمراء هم الذين أمر الله بأن ترد إليهم المعضلات، فهم بمنزلة الرأس من الجسد، يمثلون عقل الأمة المدبر إذا نزلت النوازل المشكلة، ودهت الدواهي المظلمة، ولهذا أمر الله تعالى في كتابه بالرد إلي أهل العلم فقال تعالي :(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً).
ولما كانت الأمور ترد إلى صالحي أهل العلم قديماً، سلم المسلمون بل ظهروا وسادوا.
وهكذا كان الأمر لما كان العلماء هم الذين يبتدرون قيادة الأمة وتوجيهها إلى الأمور العظام. وقد كانوا يعدون ذلك من جملة الميثاق الذي أخذه الله على من اختار فأورثهم العلم، كما في حديث الترمذي وغيره – وقد روي من طرق يعضد بعضها بعضاً- :”إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر”، ولهذا فقد عرف سلفنا قدر الورثة، فاجتهدوا لتحصيلها، وقاموا بحقها؛ فعلموا وعملوا ودعو الآخرين إليها صابرين محتسبين.
ثم لما خفت وهج علماء الشريعة شيئاً فشيئاً وضعف الرد إليهم قليلاً قليلاً، تردت الأمة عصراً إثر عصر، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: “لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه”، وقد الحسن البصري: “كل عام ترذلون”.
إلاّ أن من رحمة الله بعباده بعثه لهم على رأس كل قرن من يجدد لهم أمر الدين، فيبتدر قياد الأمة وتوجيهها إلى العلم والعمل، ويجسر في ذلك على ما لم يجسر عليه قرنه بحكمة وبصيرة.
ومن ذلك رحمة الله لهذه الأمة في قرنها الثالث بالإمام أحمد الذي تولى نشر أعلام السنة في زمان تنكيسها، وقام لمن تعرض لها وخالفها معارضاً بالحجة والبرهان حتى ظهر الحق وزهق الباطل، فمضى الظالمون المعتدون المبتدعون وألسنة الأجيال تنتقصهم، وترفع من شأن العلم الإمام.
وكذلك الشأن في القرن السابع الذي تولى فيه شيخ الإسلام وعلم الأعلام أحمد بن عبد الحليم بن عبدالسلام ابن تيمية الحراني زمام مبادرة الخروج بالأمة عن سلطان التتر، فحرض عليهم وحث على قتالهم وشارك فيه مبلياً بلاء حسناً، حتى ظهر جند الإسلام يوم شقحب، ثم حرض على أنصارهم من أهل كسروان. ثم توجه بقوة إلى بعث اعتقاد أهل السنة في جسد الأمة، وعمد إلى شبه الملاحدة والفلاسفة والمبتدعة فجعلها هباء منثوراً.
وفي القرون المتأخرة جاء الإمام محمد بن عبدالوهاب فتولى زمام المبادرة، ودأب مجتهداً في الدعوة دون كلل حتى أخرج بلاد نجد من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، بل سائر الجزيرة، بل امتد أثر دعوته الإصلاحية إلى كافة أرجاء البسيطة وتأثر بها الناس على اختلاف جماعاتهم، في المشارق والمغارب.
إن أولئك الأئمة قاموا بحق التركة التي ورثوها، فلم يعتزلوا منفردين، أو ينزووا منتظرين من يخرجهم إلى الناس ويرجع الخلق إلى الحق الذي يعلمون، وفي نفس الوقت ما كان هدفهم نيل ولاية حكمية، أو اعتلاء كرسي رئاسي، أو حيازة حقيبة للدولة، بل مات بعضهم في السجن وبقي أثره عظيماً في القرون من بعده. وما ذاك إلاّ لأن نشر الحق وإشاعة السنة وهداية الخلق هي الغاية، التي ركبوا لأجل بلوغها كل سبيل صعب وذلول طالما كان مشروعاً، اقتضت الحكمة ركوبه ولو على حساب النفس.
وأما في عصور الناس اليوم فمع كثرة الفتن، وتوالي المعضلات، عظمت حاجة الأمم للعلماء الناصحين، والدعاة الصادقين، ولعل استضعاف الأمة مؤشر يبين قلة العلماء العاملين المؤثرين ومدى بعدهم عن محل القيادة في الجملة، وعلى الرغم من الاستضعاف في هذه الأزمنة فإنه لايمكننا بحال أن ننكر وجود وجهود أئمة مرضين، وعلماء عاملين باذلين ناصحين، ولا سيما في بعض بلاد الله، كيف وقد بوب البخاري في الصحيح: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون وهم أهل العلم، غير أن بعض بلاد الله لا تكاد ترى فيها من أهل العلم أحداً اللهم إلاّ الطريد أو الأسير أو المبعد عن القيادة المضيق عليه، وفي مثل تلك الأجواء الموبوءة تمتد رؤوس أهل الضلال؛ أدعياء التركة النبوية بلسان الحال، وكذلك الجهال وهم في أحسن أحوالهم مفترون مدعون –ولو بحسن قصد- يفتون بغير علم، ثم إن الهمج الرعاع يتبعون كل ناعق، ويجعلون الجاهل المتصدر رأساً. ولا تسل عن الحال كيف تغدو إذا تصدرت الأذناب!
ولا شك أن الواجب تجاه الواقع هذه الأعصار في كثير من الأمصار على أهل العلم كبير، وليس مثلي من يبصر أهل العلم بدورهم أو ما ينبغي لهم صنعه في المجتمع، بل لعل الشروع في مثل هذا ينافي مقصود المقال الذي يقرر أهمية قيام أهل العلم بحق التركة التي ورثوها، ومن جملة ذلك تولي زمام المبادرة، وقياد الأمة، ووضع الخطط البعيدة الموصلة إلى المقاصد الشرعية العظيمة، وترتيب أولويات الأمة، وتوجيه بنيها إلى الثغور الشاغرة.
ولكن الغرض هو التذكير بما كان عليه أهل العلم الأوائل، والحث على اقتفاء سبيل المجددين في القرون التالية لقرون السابقين، والتذكير كذلك بعظم الحاجة وافتقار الناس إلى أهل العلم اليوم، وقد قال الله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذريات:55].
أحسب أن مشايخنا وعماءنا ودعاتنا من خيارهم، والله أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.