3- النظر إلى بعضهم بوصفه “عالم سُلطة”:
ظاهرة “عالم السلطة” قديمة، إذ كان يطلق على المنحرفين بالعلم عن مقاصده الشرعية والمسايرين لأهواء الحكام علماء السوء، لكنها في حياة المسلمين المعاصرة أخذت صورة بارزة ومؤثرة، فبعد أن كانت في الماضي محصورة في عدد قليل، يتخذ بعض ذوي الأهواء من الحكام منهم سـنداً لمآرب شخصية محدودة في الغالب، ففي العصر الحاضر ظهرت الحاجة إلى توسيع دائرتها، لأن الهدف لم يعد مجرد مآرب شخصية، وإنما اتسع ليشمل، في عدد من بلاد الإسلام، تغيير منهج الحياة من المنهج الإسلامي إلى المنهج العلماني بمختلف تياراته، ومن ثم كان لا بد من زيادة أعدادهم بما يتناسب مع متطلبات عملية تغيير المجتمعات، ليكونوا خلفية دينية لمباركة خطوات التغريب أو على الأقل إقرارها باستغلال صمتهم وسكوتهم.
فعلى سبيل المثال في إحدى الدول العربية التي اتجه نظامها إلى النظام الاشتراكي في الستينيات؛ قام مسؤول في منصب علمي كبير “بإصدار فتوى أوضح فيها أن القوانين الاشتراكية التي صدرت في عام 1961م تتفق إلى حد كبير مع قواعد الفقه الإسلامي”(1)، بل غالى بعض المنتسبين لأهل العلم في إثبات مسايرتهم للتوجه الاشتراكي، فتباروا في دراسة الميثاق الوطني الذي يتبنى الاشتراكية، وحثوا تلامذتهم على حفظه، حتى لقب بعضهم بـ”الشيخ الأحمر”(2).
وقد أدى ظهور تلك الفئة بشكل بارز ومؤثر إلى وصف المجتمع لها بـ “عالم السلطة”، تمييزاً لهم عن غيرهم من باقي العلماء، وفي الوقت الذي يرى الناس فيه غالباً العلماء على درجة عالية من الصدق والإخلاص والجرأة على مواجهة الظلم، والقرب من الناس، والحرص على الدعوة، ونشر العلم؛ فإنهم يرون عالم السلطة، على عكس هذه الصفات. وترجع هذه النظرة لعالم السلطة، من وجهة نظر العامة، إلى ما رأوه من مواقف لعالم السلطة تتعارض بشكل واضح مع مسلّمات الدين وقيمه الواضحة، واقتصار ظهوره فقط على أوقات حاجة سُلطة ما إلى تأييد ديني لموقف معين ستقوم به، فيخرج فيه بالمباركة والتأييد المناسب لذلك الموقف. كما رأى العامة في عالم السلطة إهمالاً لما يحدث من ملمات وأزمات تمر بها الأمة، وتخاذلاً في مواجهة ظلم أو لردع ظالم، وعزوفاً عن نشر العلم، وعدم اكتراث بإصلاح الأجيال الناشئة.
وأسباب تكوّن هذه الفئة في العصر الحاضر متنوعة ومتداخلة، ولا شك أن منها الاستبداد والقهر الذي يسود في عدد من بلاد المسلمين، والذي يضطر بسببه كثير من العلماء إلى مسايرة الأوضاع القائمة، أو الصمت والانزواء طلباً للسلامة، وهنا تضعف بعض النفوس لتتحول على طول الخط، أو في مواقف معينة، إلى شخصية “عالم السلطة” التي يعرفها الناس.
والجدير بالذكر أن ظاهرة ما يسمى “عالم السلطة” لا تلازم بينها وبين ما يطلق عليه “العالم الرسمي”، وهو الذي يشغل المناصب الرسمية ويتقلد الوظائف، فهذه الظاهرة أو الآفة لا تشمل كل من ينتسب من العلماء إلى الأعمال والمناصب الرسمية، فهناك كثير ممن يتولون المناصب يقومون فيها بواجبهم ويؤدون دورهم تجاه مجتمعاتهم ونحو أمتهم، وأمثلة هؤلاء كثيرة ومشرّفة، وهي مما ينبغي أن يُنشر بين الناس ويوضع في مقام القدوة لديهم، ولا يزال كثير العلماء، منفردين أو منتسبين لهيئات رسمية، يقفون سداً منيعاً أمام محاولات تغريب المجتمع المسلم.
وعلى صعيد آخر تتسم العلاقة بين عالم السلطة وبين غيره من أهل العلم في كثير من الأحيان بنوع من الخصومة والعداء، يكون في الغالب على حساب عالم السلطة، حيث تتهدم الثقة به وتنحط مكانته لدى الناس، ويزداد وضعه في المجتمع سوءاً، وخصوصاً لدى جماعات الدعوة الإسلامية والتيارات الدينية، والخطير هنا هو أن رؤية العامة تتصف عادة بالشمولية، حيث يسحب العامة هذا الوصف غالباً على كل من ينتسب إلى المناصب الكبيرة، فلا يميزون بين عالم وآخر إلا قليلاً، مما يسيء إلى غيره من العلماء، وهو ما يتحتم معه توجيه الجهود للحد من هذه الظاهرة الخطيرة؛ بتصحيح أوضاع العلماء، وتخليص أدوارهم من الأهواء الذاتية والأغراض غير الشرعية.
4- نظرة الاستهزاء والاستخفاف:
لا يوجد عصر من عصور المسلمين تطاول فيه أهل الضلال والانحراف على العلماء بالاستهزاء والإهانة مثل العصر الحديث، حيث يتعرض علماء الدين لحملات تشويه كثيرة، وموجات استهزاء عنيفة، من العلمانيين والملحدين والماجنين(3) ، ومما يزيد من شدة هذه النظرة وخطورتها أن تلك الفئات الضالة في مجتمعات المسلمين هي التي تسيطر على كثير من منافذ الإعلام، وتحتل مكان السيادة والتوجيه والتأثير في مجتمعات المسلمين.
ويلجأ العلمانيون في مقالاتهم وكتبهم إلى رمي العلماء بالجهل والتشدد، وتسفيه كلامهم، والتشكيك في فتاواهم وإثارة الشبهات حولها، بهدف محاصرتهم وإرهابهم إعلامياً، فحين فُتح المجال للعلماء في بعض وسائل الإعلام(4) ، خرج واحد من أشد العلمانيين بغضاً للعلماء والمتدينين، ليستنكر ذلك على المسؤولين، زاعماً أن هذا تراجع عن التقدم وفتح لباب التطرف، فقال: “وقع المشرفون على التلفزيون في مجموعة من الأخطاء التي ترتب عليها عدد من السلبيات المؤثرة.. فمن ناحية أخلى التلفزيون مساحات كبيرة من ساعات إرساله للبرامج الدينية، وشجع على ذلك ارتفاع أصوات المتطرفين… وتطور هذه النسبة يؤكد على انسحاب التلفزيون عن خطه العادي،… ولعل الإصرار على إذاعة الأذان في وقته كاملاً ثم تطور ذلك إلى إذاعة حديث نبوي بعد أذان الصلاة بلا ضرورة يعطي مثالاً لهذا الانسحاب”(5).
وحينما تمنع بعض الجهات العلمية الرسمية المسؤولة عن حماية الدين كتاباً لما فيه من مخالفات ومنكرات تمس الإسلام في الصميم، تخرج ألسنة العلمانيين الطويلة في وسائل الإعلام تنعى الحرية، وتندد بالقرارات الظلامية، وتطرح التساؤلات عن دور المؤسسة الدينية تحريضاً للسلطات عليها!
ولا تقف صور السخرية بالإسلام والعلماء عند هذا الحد بل تتنوع ما بين نكات تدور بين بعض العامة جهلاً، إلى رسوم ساخرة في الجرائد، إلى مواقف تمثيلية مهينة، في الأفلام والمسرحيات والتمثيليات التي تشد العامة وتؤثر فيهم، حيث يتم رسم صورة ساخرة للشيخ أو عالم الدين تجعله مادة للتفكه والتندر لدى المشاهدين، تكون أحياناً هي المرجعية الذهنية التي يتم استدعاؤها في نظرتهم نحو العلماء، لأنهم لا يرون غيرها، فالعلماء وُضعوا بقصد أو وضع بعضهم نفسه في عزلة عن مجتمعه، فأي تأثير سيبقى لعالم الدين في نظر العامة، وأي تقدير لفتاوى العلماء إذا شغب السفهاء على كلامهم وتطاولوا! إنها وسائل مقصودة وأساليب مرصودة لهدم هيبة العلماء ومكانتهم ودورهم لينكسر باب عظيم يحول بين الناس وبين الفتن والفساد.
ولا مفر من مواجهة هذه الحرب الإعلامية على الدين وعلمائه، ولا يصح السكوت فيها عن صغير أو كبير، ولعل التعريف بعلماء العصر، وما قدموه ويقدمونه للأمة من أعمال، وما لهم من فضل، وشرح مواقف العلماء المعاصرين وإزالة الشبهات عما قد يُساء فهمه أو يُشوّه مضمونه منها، وتقديم ذلك للناس بأسلوب سهل ميسر، يزيل تلك التصورات الباطلة التي ينشرها السفهاء والمغرضون، كما أن الرد على هؤلاء بشتى الوسائل المتاحة يكون مخيباً لخططهم ورادعاً لأمثالهم.
ثانياً: التصور الصحيح لعالم الدين:
التصور الصحيح لعالم الدين، ومكانته والدور الذي يجب أن يقوم به في المجتمع، لا بد أن يقوم ذلك كله على ما في الكتاب والسنة، لا نزيد عليه ولا ننقص منه، وفي الكتاب والسنة مواصفات لتلك المكانة ومعالم لهذا الدور، فقد ورد في فضل العلماء كثير من النصوص، منها أن الله تعالى قرن شهادتهم مع شهادته سبحانه ومع شهادة الملائكة على التوحيد، قال تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 18]. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال: “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم”(6). وفي الحديث: “ليس منّا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه”(7).
وقد حددت كثير من النصوص دور العلماء وواجباتهم في المجتمع، فمن ذلك حمل العلم وحفظه وصيانته، قال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) [العنكبوت: 49].
ومن واجبات العلماء تعليم الأمة وإصلاح المجتمع وإنذاره من عواقب الفساد والانحراف عن منهج الله تعالى، قال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة: 122]، ومن ذلك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104].
ومن واجباتهم الاجتهاد في بيان الصواب والحق فيما ينزل بالأمة من حوادث مشكلات وأزمات، قال تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء: 83].
وهذا الدور العظيم الذي كُلّف به علماء الدين في الإسلام، يبين ويوضح لنا الخطر الذي يحيق بالمجتمع في حال تهميش دورهم أو منعهم عن أدائه، ويبين في الوقت نفسه التصور الصحيح لمكانتهم ومنزلتهم، فهي مكانة تنبع من عظمة الأمانة التي يحملونها، لا تنبع من نسب أو منصب، ولا تنبع من سياحة أو ترقية صوفية، ولا من الادعاء بقداسة أو عصمة، وإنما تنبع من الدور العظيم الذي يجب أن يقوموا به في المجتمع.
مستقبل الأمة.. ومستقبل العلماء:
علماء الدين هم مشاعل النور التي تحمل الإسلام لتنير به للبشرية طريق الدنيا والآخرة، وحاجة الناس إلى علماء الدين في جميع نواحي حياتهم كحاجتهم إلى الهواء والطعام والشراب، لأنهم أدلة الناس إلى التمسك بالكتاب والسنة ونيل الصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، ولا أبالغ في القول بأن مستقبل الأمة يتوقف على مستقبل العلماء، لأن مستقبل الأمة مرتهن بمدى تمسكها بدينها والاعتزاز بقيمها الإسلامية الصحيحة، قال تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153]، وعلماء الدين هم المكلفون ببيان الصراط المستقيم للناس، وهم أعلم الناس به وأكثرهم حرصاً عليه، بدليل أن رفع العلم عن الناس لا يكون إلا بموت علماء الدين لا بغيرهم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)(8) ، ولذلك قال الإمام أحمد بن حنبل: “قتل الحجاج سـعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحـد إلا وهو مفـتقر إلى علمـه”(9). وقال -رحمه الله تعالى-: “ما صليت منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي. فقال له ابنه: أي رجل كان الشافعي حتى تدعو له كل هذا الدعاء؟ فقال: يا بني، كان الشـافعي كالشـمس للدنيا، وكالعـافيـة للناس”(10).
فليُفسح لعلماء الدين طريق العودة، لاستعادة دورهم في بناء المجتمع وإصلاحه، وإلا ستظل مجتمعات كثيرة تجري تائهة بين التيارات المنحرفة في الداخل، والتيارات الضالة التي تأتي من الخارج.
______________
(1) التعليم الديني في مصر 1952 – 1981، الدكتورة زينب رضوان، ص 40، ط : الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(2) العلمانية في مواجهة الإسلام، محمد عبد العزيز، ص 139، دار البيان.
(3) يتعدى استهزاء هذه الفئات الضالة إلى الاستهزاء بالدين بعقائده وشرائعه، وبالرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة.
(4) على الرغم من أن تلك البرامج الدينية سمح بها لتحسين صورة الإعلام الرسمي أمام الانتقادات التي وجهت إليه، وكان تركيزها الأساسي على مواجهة ما يسمى بالتطرف الديني، فإن ذلك القدر الضئيل وبهذه الصورة لم يعجب العلماني فرج فودة، فعدها خطوة انسحاب أمام التيار الديني.
(5) التطرف السياسي الديني في مصر، فرج فودة، ص 21، 22.
(6) رواه الترمذي، انظر: صحيح الترغيب والترهيب، ج1، كتاب العلم: الترغيب في العلم وطلبه وتعلمه وتعليمه وما جاء في فضل العلماء والمتعلمين.
(7) رواه أحمد بإسناد حسن والطبراني والحاكم عن عبادة بن الصامت، انظر: صحيح الترغيب والترهيب، ج1، كتاب العلم: الترغيب في إكرام العلماء وإجلالهم وتوقيرهم والترهيب من إضاعتهم وعدم المبالاة بهم.
(8) متفق عليه، انظرصحيح البخاري رقم 6877، وصحيح مسلم رقم 2673 ، ( “انتزاعاً” محواً من صدور العلماء. “بقبض العلماء” بموتهم. “رؤوسا” جمع رأس، وفي رواية “رؤوساء” جمع رئيس، والمعنى واحد) صحيح البخاري، ضبطه وشرح ألفاظه الدكتور مصطفى ديب البغا.
(9) انظر وفيات الأعيان، لابن خلكان، ج2 ص112.
(10) الإحياء، للغزالي، ج1، ص 45.
ظاهرة “عالم السلطة” قديمة، إذ كان يطلق على المنحرفين بالعلم عن مقاصده الشرعية والمسايرين لأهواء الحكام علماء السوء، لكنها في حياة المسلمين المعاصرة أخذت صورة بارزة ومؤثرة، فبعد أن كانت في الماضي محصورة في عدد قليل، يتخذ بعض ذوي الأهواء من الحكام منهم سـنداً لمآرب شخصية محدودة في الغالب، ففي العصر الحاضر ظهرت الحاجة إلى توسيع دائرتها، لأن الهدف لم يعد مجرد مآرب شخصية، وإنما اتسع ليشمل، في عدد من بلاد الإسلام، تغيير منهج الحياة من المنهج الإسلامي إلى المنهج العلماني بمختلف تياراته، ومن ثم كان لا بد من زيادة أعدادهم بما يتناسب مع متطلبات عملية تغيير المجتمعات، ليكونوا خلفية دينية لمباركة خطوات التغريب أو على الأقل إقرارها باستغلال صمتهم وسكوتهم.
فعلى سبيل المثال في إحدى الدول العربية التي اتجه نظامها إلى النظام الاشتراكي في الستينيات؛ قام مسؤول في منصب علمي كبير “بإصدار فتوى أوضح فيها أن القوانين الاشتراكية التي صدرت في عام 1961م تتفق إلى حد كبير مع قواعد الفقه الإسلامي”(1)، بل غالى بعض المنتسبين لأهل العلم في إثبات مسايرتهم للتوجه الاشتراكي، فتباروا في دراسة الميثاق الوطني الذي يتبنى الاشتراكية، وحثوا تلامذتهم على حفظه، حتى لقب بعضهم بـ”الشيخ الأحمر”(2).
وقد أدى ظهور تلك الفئة بشكل بارز ومؤثر إلى وصف المجتمع لها بـ “عالم السلطة”، تمييزاً لهم عن غيرهم من باقي العلماء، وفي الوقت الذي يرى الناس فيه غالباً العلماء على درجة عالية من الصدق والإخلاص والجرأة على مواجهة الظلم، والقرب من الناس، والحرص على الدعوة، ونشر العلم؛ فإنهم يرون عالم السلطة، على عكس هذه الصفات. وترجع هذه النظرة لعالم السلطة، من وجهة نظر العامة، إلى ما رأوه من مواقف لعالم السلطة تتعارض بشكل واضح مع مسلّمات الدين وقيمه الواضحة، واقتصار ظهوره فقط على أوقات حاجة سُلطة ما إلى تأييد ديني لموقف معين ستقوم به، فيخرج فيه بالمباركة والتأييد المناسب لذلك الموقف. كما رأى العامة في عالم السلطة إهمالاً لما يحدث من ملمات وأزمات تمر بها الأمة، وتخاذلاً في مواجهة ظلم أو لردع ظالم، وعزوفاً عن نشر العلم، وعدم اكتراث بإصلاح الأجيال الناشئة.
وأسباب تكوّن هذه الفئة في العصر الحاضر متنوعة ومتداخلة، ولا شك أن منها الاستبداد والقهر الذي يسود في عدد من بلاد المسلمين، والذي يضطر بسببه كثير من العلماء إلى مسايرة الأوضاع القائمة، أو الصمت والانزواء طلباً للسلامة، وهنا تضعف بعض النفوس لتتحول على طول الخط، أو في مواقف معينة، إلى شخصية “عالم السلطة” التي يعرفها الناس.
والجدير بالذكر أن ظاهرة ما يسمى “عالم السلطة” لا تلازم بينها وبين ما يطلق عليه “العالم الرسمي”، وهو الذي يشغل المناصب الرسمية ويتقلد الوظائف، فهذه الظاهرة أو الآفة لا تشمل كل من ينتسب من العلماء إلى الأعمال والمناصب الرسمية، فهناك كثير ممن يتولون المناصب يقومون فيها بواجبهم ويؤدون دورهم تجاه مجتمعاتهم ونحو أمتهم، وأمثلة هؤلاء كثيرة ومشرّفة، وهي مما ينبغي أن يُنشر بين الناس ويوضع في مقام القدوة لديهم، ولا يزال كثير العلماء، منفردين أو منتسبين لهيئات رسمية، يقفون سداً منيعاً أمام محاولات تغريب المجتمع المسلم.
وعلى صعيد آخر تتسم العلاقة بين عالم السلطة وبين غيره من أهل العلم في كثير من الأحيان بنوع من الخصومة والعداء، يكون في الغالب على حساب عالم السلطة، حيث تتهدم الثقة به وتنحط مكانته لدى الناس، ويزداد وضعه في المجتمع سوءاً، وخصوصاً لدى جماعات الدعوة الإسلامية والتيارات الدينية، والخطير هنا هو أن رؤية العامة تتصف عادة بالشمولية، حيث يسحب العامة هذا الوصف غالباً على كل من ينتسب إلى المناصب الكبيرة، فلا يميزون بين عالم وآخر إلا قليلاً، مما يسيء إلى غيره من العلماء، وهو ما يتحتم معه توجيه الجهود للحد من هذه الظاهرة الخطيرة؛ بتصحيح أوضاع العلماء، وتخليص أدوارهم من الأهواء الذاتية والأغراض غير الشرعية.
4- نظرة الاستهزاء والاستخفاف:
لا يوجد عصر من عصور المسلمين تطاول فيه أهل الضلال والانحراف على العلماء بالاستهزاء والإهانة مثل العصر الحديث، حيث يتعرض علماء الدين لحملات تشويه كثيرة، وموجات استهزاء عنيفة، من العلمانيين والملحدين والماجنين(3) ، ومما يزيد من شدة هذه النظرة وخطورتها أن تلك الفئات الضالة في مجتمعات المسلمين هي التي تسيطر على كثير من منافذ الإعلام، وتحتل مكان السيادة والتوجيه والتأثير في مجتمعات المسلمين.
ويلجأ العلمانيون في مقالاتهم وكتبهم إلى رمي العلماء بالجهل والتشدد، وتسفيه كلامهم، والتشكيك في فتاواهم وإثارة الشبهات حولها، بهدف محاصرتهم وإرهابهم إعلامياً، فحين فُتح المجال للعلماء في بعض وسائل الإعلام(4) ، خرج واحد من أشد العلمانيين بغضاً للعلماء والمتدينين، ليستنكر ذلك على المسؤولين، زاعماً أن هذا تراجع عن التقدم وفتح لباب التطرف، فقال: “وقع المشرفون على التلفزيون في مجموعة من الأخطاء التي ترتب عليها عدد من السلبيات المؤثرة.. فمن ناحية أخلى التلفزيون مساحات كبيرة من ساعات إرساله للبرامج الدينية، وشجع على ذلك ارتفاع أصوات المتطرفين… وتطور هذه النسبة يؤكد على انسحاب التلفزيون عن خطه العادي،… ولعل الإصرار على إذاعة الأذان في وقته كاملاً ثم تطور ذلك إلى إذاعة حديث نبوي بعد أذان الصلاة بلا ضرورة يعطي مثالاً لهذا الانسحاب”(5).
وحينما تمنع بعض الجهات العلمية الرسمية المسؤولة عن حماية الدين كتاباً لما فيه من مخالفات ومنكرات تمس الإسلام في الصميم، تخرج ألسنة العلمانيين الطويلة في وسائل الإعلام تنعى الحرية، وتندد بالقرارات الظلامية، وتطرح التساؤلات عن دور المؤسسة الدينية تحريضاً للسلطات عليها!
ولا تقف صور السخرية بالإسلام والعلماء عند هذا الحد بل تتنوع ما بين نكات تدور بين بعض العامة جهلاً، إلى رسوم ساخرة في الجرائد، إلى مواقف تمثيلية مهينة، في الأفلام والمسرحيات والتمثيليات التي تشد العامة وتؤثر فيهم، حيث يتم رسم صورة ساخرة للشيخ أو عالم الدين تجعله مادة للتفكه والتندر لدى المشاهدين، تكون أحياناً هي المرجعية الذهنية التي يتم استدعاؤها في نظرتهم نحو العلماء، لأنهم لا يرون غيرها، فالعلماء وُضعوا بقصد أو وضع بعضهم نفسه في عزلة عن مجتمعه، فأي تأثير سيبقى لعالم الدين في نظر العامة، وأي تقدير لفتاوى العلماء إذا شغب السفهاء على كلامهم وتطاولوا! إنها وسائل مقصودة وأساليب مرصودة لهدم هيبة العلماء ومكانتهم ودورهم لينكسر باب عظيم يحول بين الناس وبين الفتن والفساد.
ولا مفر من مواجهة هذه الحرب الإعلامية على الدين وعلمائه، ولا يصح السكوت فيها عن صغير أو كبير، ولعل التعريف بعلماء العصر، وما قدموه ويقدمونه للأمة من أعمال، وما لهم من فضل، وشرح مواقف العلماء المعاصرين وإزالة الشبهات عما قد يُساء فهمه أو يُشوّه مضمونه منها، وتقديم ذلك للناس بأسلوب سهل ميسر، يزيل تلك التصورات الباطلة التي ينشرها السفهاء والمغرضون، كما أن الرد على هؤلاء بشتى الوسائل المتاحة يكون مخيباً لخططهم ورادعاً لأمثالهم.
ثانياً: التصور الصحيح لعالم الدين:
التصور الصحيح لعالم الدين، ومكانته والدور الذي يجب أن يقوم به في المجتمع، لا بد أن يقوم ذلك كله على ما في الكتاب والسنة، لا نزيد عليه ولا ننقص منه، وفي الكتاب والسنة مواصفات لتلك المكانة ومعالم لهذا الدور، فقد ورد في فضل العلماء كثير من النصوص، منها أن الله تعالى قرن شهادتهم مع شهادته سبحانه ومع شهادة الملائكة على التوحيد، قال تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 18]. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال: “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم”(6). وفي الحديث: “ليس منّا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه”(7).
وقد حددت كثير من النصوص دور العلماء وواجباتهم في المجتمع، فمن ذلك حمل العلم وحفظه وصيانته، قال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) [العنكبوت: 49].
ومن واجبات العلماء تعليم الأمة وإصلاح المجتمع وإنذاره من عواقب الفساد والانحراف عن منهج الله تعالى، قال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة: 122]، ومن ذلك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104].
ومن واجباتهم الاجتهاد في بيان الصواب والحق فيما ينزل بالأمة من حوادث مشكلات وأزمات، قال تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء: 83].
وهذا الدور العظيم الذي كُلّف به علماء الدين في الإسلام، يبين ويوضح لنا الخطر الذي يحيق بالمجتمع في حال تهميش دورهم أو منعهم عن أدائه، ويبين في الوقت نفسه التصور الصحيح لمكانتهم ومنزلتهم، فهي مكانة تنبع من عظمة الأمانة التي يحملونها، لا تنبع من نسب أو منصب، ولا تنبع من سياحة أو ترقية صوفية، ولا من الادعاء بقداسة أو عصمة، وإنما تنبع من الدور العظيم الذي يجب أن يقوموا به في المجتمع.
مستقبل الأمة.. ومستقبل العلماء:
علماء الدين هم مشاعل النور التي تحمل الإسلام لتنير به للبشرية طريق الدنيا والآخرة، وحاجة الناس إلى علماء الدين في جميع نواحي حياتهم كحاجتهم إلى الهواء والطعام والشراب، لأنهم أدلة الناس إلى التمسك بالكتاب والسنة ونيل الصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، ولا أبالغ في القول بأن مستقبل الأمة يتوقف على مستقبل العلماء، لأن مستقبل الأمة مرتهن بمدى تمسكها بدينها والاعتزاز بقيمها الإسلامية الصحيحة، قال تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153]، وعلماء الدين هم المكلفون ببيان الصراط المستقيم للناس، وهم أعلم الناس به وأكثرهم حرصاً عليه، بدليل أن رفع العلم عن الناس لا يكون إلا بموت علماء الدين لا بغيرهم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)(8) ، ولذلك قال الإمام أحمد بن حنبل: “قتل الحجاج سـعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحـد إلا وهو مفـتقر إلى علمـه”(9). وقال -رحمه الله تعالى-: “ما صليت منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي. فقال له ابنه: أي رجل كان الشافعي حتى تدعو له كل هذا الدعاء؟ فقال: يا بني، كان الشـافعي كالشـمس للدنيا، وكالعـافيـة للناس”(10).
فليُفسح لعلماء الدين طريق العودة، لاستعادة دورهم في بناء المجتمع وإصلاحه، وإلا ستظل مجتمعات كثيرة تجري تائهة بين التيارات المنحرفة في الداخل، والتيارات الضالة التي تأتي من الخارج.
______________
(1) التعليم الديني في مصر 1952 – 1981، الدكتورة زينب رضوان، ص 40، ط : الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(2) العلمانية في مواجهة الإسلام، محمد عبد العزيز، ص 139، دار البيان.
(3) يتعدى استهزاء هذه الفئات الضالة إلى الاستهزاء بالدين بعقائده وشرائعه، وبالرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة.
(4) على الرغم من أن تلك البرامج الدينية سمح بها لتحسين صورة الإعلام الرسمي أمام الانتقادات التي وجهت إليه، وكان تركيزها الأساسي على مواجهة ما يسمى بالتطرف الديني، فإن ذلك القدر الضئيل وبهذه الصورة لم يعجب العلماني فرج فودة، فعدها خطوة انسحاب أمام التيار الديني.
(5) التطرف السياسي الديني في مصر، فرج فودة، ص 21، 22.
(6) رواه الترمذي، انظر: صحيح الترغيب والترهيب، ج1، كتاب العلم: الترغيب في العلم وطلبه وتعلمه وتعليمه وما جاء في فضل العلماء والمتعلمين.
(7) رواه أحمد بإسناد حسن والطبراني والحاكم عن عبادة بن الصامت، انظر: صحيح الترغيب والترهيب، ج1، كتاب العلم: الترغيب في إكرام العلماء وإجلالهم وتوقيرهم والترهيب من إضاعتهم وعدم المبالاة بهم.
(8) متفق عليه، انظرصحيح البخاري رقم 6877، وصحيح مسلم رقم 2673 ، ( “انتزاعاً” محواً من صدور العلماء. “بقبض العلماء” بموتهم. “رؤوسا” جمع رأس، وفي رواية “رؤوساء” جمع رئيس، والمعنى واحد) صحيح البخاري، ضبطه وشرح ألفاظه الدكتور مصطفى ديب البغا.
(9) انظر وفيات الأعيان، لابن خلكان، ج2 ص112.
(10) الإحياء، للغزالي، ج1، ص 45.