الاتجاه الرابع: الاتجاه المنحرف في تفسير المعتزلة:
لما ظهرت الفرق الدينية تأثر التفسير بها إلى حد كبير، حيث قصد أصحابها إلى القرآن الكريم لأخذ ما يشهد لمذهبهم منه، ولو بطريق إخضاع النص القرآني وقسره على موافقة رأيهم، وتأويل ما يصادمه تأويلاً لا ينافي مذهبهم ولا يعارض عقيدتهم. ولقد استفحل الأمر إلى حدٍّ جعلهم يتسعون في حماية آرائهم والترويج لها في غير محيطهم؛ بما أخرجوه للناس من تفاسير جملوا فيها كلام الله _سبحانه_ على وفق أهوائهم ومقتضى نحلهم.
وكانت فرقة المعتزلة من هذه الفرق التي تأولت كثيراً من آيات القرآن على غبر تأويلها، من أجل خدمة أصولهم الخمسة التي يجمعون عليها، وهي: (التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(1).
ويقوم موقف المعتزلة من تفسير القرآن الكريم على الأسس الآتية(2):
1- إقامة تفسيرهم على أصولهم الخمسة، ولهذا كان اعتماد تفسيرهم على العقل أكثر من الاعتماد على النقل حتى يستطيع المفسر الذي هذا حاله أن يلوي العبارة إلى جانبه، ويصرف ما يعارضه عن معارضته له وتصادمه معه، ولذلك وضعوا أسساً للآيات التي ظاهرها التعارض فحكّموا العقل ليكون الفيصل بين المتشابهات، وقد كان من قبلهم يكتفون بمجرد النقل عن الصحابة والتابعين.
2- إنكار ما يعارضهم من الأحاديث الصحيحة، حيث جرّهم السلطان العقلي المطلق إلى إنكار ما صح من الأحاديث التي تناقض أسسهم وقواعدهم المذهبية.
3- ادعائهم أن كل محاولاتهم في التفسير مرادة لله _تعالى_، حيث يرون أن الحكم هو ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد، فرفضوا أن يكون للآية التي تحتمل أوجهاً تفسيراً واحداً لا خطأ فيه، وحكموا على جميع محاولاتهم في التفسير بأنها مرادة لله _تعالى_، وغاية ما قطعوا به هو عدم إمكان تفسير المخالف لمبادئهم.
4- المبدأ اللغوي في التفسير لدى المعتزلة، فنراهم يحاولون أولاً إبطال المعنى الذي يرونه مشتبهاً في اللفظ القرآني، ثم يثبتون لهذا اللفظ معنى موجوداً في اللغة يزيل هذا الاشتباه ويتفق مع مذهبهم، ويستشهدون على ما يذهبون إليه من المعاني التي يحملون ألفاظ القرآن عليها بأدلة من اللغة والشعر العربي القديم.
5- تصرف المعتزلة في القراءات المتواترة المنافية لمذهبهم.
6- تذرع المعتزلة بالفروض المجازية إذا بدا ظاهر القرآن غريباً، كقوله _تعالى_: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ” [الأعراف : 172]، يحملون هذه الآية وأمثالها على التخييل والتمثييل، ولا يقولون بالظاهر ولا يحومون عليه، اللهم إلا للرد على من يقول به ويجوّز حصوله. ونقول لهم نعم إن القرآن يمثل القمة العالية في كمال الأسلوب وبراعة النظم، ولكن ما الذي يمنع من إرادة الحقيقة! وقد تقرر أن اللفظ إذا أمكن حمله على الظاهر وجب حمله عليه وقبح صرفه إلى غير ما يتبادر منه.
7- تفسيرهم للقرآن على ضوء ما أنكروه من الحقائق الدينية.
ويكفي أن نعرض من تأويلات المعتزلة صورة واضحة على المهارة الفائقة التي يلوون بها الآية إلى جانبهم ويصرفونها عن أن تكون دليلاً لخصومهم:
لما عرضوا لتفسير قوله _تعالى_ في سورة النساء: “وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً” [النساء : 164]، ووجدوا أن هذه الآية تعارض مذهبهم في صفة الكلام لله _تعالى_، حيث جاء المصدر مؤكِّداً للفعل رافعاً لاحتمال المجاز، بادروا إلى تحويل هذا النص إلى ما يتفق ومذهبهم فزعموا أنه يُقرأ هكذا: “وكلّم اللـهَ موسى تكليماً” بوضع لفظ الجلالة في موضع نصب على أنه مفعول، ورفع موسى على أنه فاعل. وبعض المعتزلة يُبقي النص على قراءته المتواترة ولكنه يحمله على معنى بعيد حتى لا يبقى مصادماً لمذهبه، فيقول: “إن كلم من الكلم يعني الجرح، فالمعنى وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن”. وهذا ليفر من ظاهر النص الذي يصادم عقيدته ويخالف مذهبه.
وهذا الذي ذكرناه عرضه الزمخشري في تفسيره (ج1 ص 397 – 398)، وقد نسب القول الأول إلى بعض شيوخ المعتزلة ولم يعقّب عليه، وكأنه ارتضاه وصوّبه! والواقع أنه قول لا يرضاه منصف، فالقراءة التي فيها لفظ الجلالة في محل رفع على أنه الفاعل “وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً” هي القراءة المتواترة، ولا يقول منصف بترك القراءة المتواترة والأخذ بقراءة لم تبلغ حد التواتر، بل ولا نعرف لها سنداً صحيحاً إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_.
والقول الثاني، وهو تأويل التكليم بالجرح، عدول عن المعنى المتبادر من اللفظ ، ولا يساعده السياق، ولهذا نرى الزمخشري نفسه – على اعتزاله – يستخف بهذا الرأي، ويصفه بأنه من بدع التفاسير.
أهم كتب التفسير الاعتزالي:
صنف كثير من شيوخ المعتزلة تفاسير للقرآن الكريم على أصول مذهبهم لكن كثيراً منها ضاع بتقادم العهد عليه. ومن أهم هؤلاء الذين وصلت إلينا تفاسيرهم أو بعض منها، أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني، المتوفى سنة 322هـ، صنف تفسيراً اسمه (جامع التأويل لمحكم التنزيل)، وهذا التفسير –فيما يبدو- هو الذي يعتمد عليه الفخر الرازي فيما ينقله في تفسيره من أقوال منسوبة لأبي مسلم. وقد جمعه بعض المؤلفين في كتاب مستقل سماه (تفسير أبي مسلم الأصفهاني). ومنهم القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني، المتوفى سنة 415هـ، وله كتاب (تنزيه القرآن عن المطاعن) ولكنه غير شامل لجميع آيات القرآن الكريم، وهو متداول. ومنهم أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538هـ، وتفسيره الكشاف هو أشمل ما وصل إلينا من تفاسير المعتزلة.
موقف علماء أهل السنة من المسلك الاعتزالي في التفسير:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن مثل هؤلاء اعتقدوا رأياً ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم، وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة… ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحاً ويدس البدع في كلامه وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير …) اهـ مقدمة في أصول التفسير، ص 22.
الاتجاه الخامس: الاتجاه المنحرف في التفسير للشيعة الإمامية الاثنا عشرية:
وللشيعة على اختلاف مذاهبهم آثار في تفسير القرآن الكريم، ولكن أكثرها أثراً فرقة الشيعة الاثنا عشرية، وهم الذين يقول كثير منهم بوقوع التحريف في القرآن الكريم، ويقولون بأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ نصّ على إمامة علي _رضي الله عنه_ من بعده، وأن الإمامة انتقلت من علي _رضي الله عنه_ إلى ابنه الحسن _رضي الله عنه_ بالوصية من أبيه، ثم إلى الحسين، ثم إلى ابنه علي زين العابدين، ثم إلى ابنه محمد الباقر، ثم إلى ابنه جعفر الصادق، ثم خالفوا غيرهم من فرق الشيعة فقالوا بأن الإمامة انتقلت إلى ابنه موسى الكاظم ثم إلى ابنه.. وهكذا إلى الإمام الثاني عشر وهو محمد المهدي المنتظر، ويزعمون أنه سيخرج في آخر الزمان. وهؤلاء قد جاوزوا الحد في تقديسهم للأئمة، فزعموا أن الإمام له صلة روحية بالله _تعالى_ كصلة الأنبياء، وقالوا بأن الإيمان بالإمام جزء من الإيمان بالله، وأن من مات غير معتقد بالإمام فهو ميت على الكفر. وأشهر تعاليم الإمامية الاثنا عشرية أربعة: العصمة والمهدية والرجعة والتقية.
وإذا تتبعنا تراث الإمامية الاثنا عشرية في التفسير وجدنا لهم آثاراً كثيرة دُونت قديماً وحديثاً، وكلها يدور حول عقيدتهم.
ولأجل أن نوضح مدى تأثير العقيدة الإمامية الاثنا عشرية في اتجاههم في التفسير، ونعرف مدى انحراف هذا الاتجاه نذكر هذا المثال:
ففي كتاب (البرهان في تفسير القرآن) للسيد هاشم بن السيد سليمان الحسيني البحراني الكتكاني المتوفى سنة 1107هـ، نجد البحراني حينما يفسر قوله _تعالى_ من سورة المائدة: “إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ” [المائدة : 55] يقول ما نصه: (إن رهطاً من اليهود أسلموا، منهم عبد الله بن سلام، وأسيد بن ثعلبة، وابن يامين، وابن صوريا، أتوا النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقالوا: يا نبي الله، إن موسى أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيك يا رسول الله؟ ومن ولينا من بعدك؟ فنزلت هذه الآية: “إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ…”، قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: قوموا. فقاموا وأتوا المسجد فإذا سائل خارج، فقال: يا سائل، ما أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم هذا الخاتم. قال: من أعطاكه؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلي. قال: على أي حال أعطاك؟ قال: راكعاً. فكبّر النبي صلى الله عليه وسلم وكبّر أهل المسجد، فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: علي بن أبي طالب وليكم بعدي. فقالوا: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد _صلى الله عليه وسلم_ نبياً وعلي بن أبي طالب ولياً. فأنزل الله _عز وجل_: “وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ” [المائدة : 56]، فروي أن عمر بن الخطاب قال: والله، لقد تصدقت بأربعين خاتماً وأنا راكع لينزل الله في ما نزل في علي بن أبي طالب عليه السلام فما نزل) انتهى من تفسير البحراني، ص 480.
ولسنا بحاجة إلى الإطالة في إبطال هذا الاتجاه بعد أن أثبت لنا علماء الحديث ونقاده أن كل الروايات في ولاية علي رضي الله عنه ليس لها أساس من الصحة، وأنها من وضع الشيعة أنفسهم ليروّجوا بها مذهبهم في الإمامة والأئمة، ثم ألا ترى معي أن ما ذكره البحراني في آخر روايته لحديث الولاية عن عمر فيه رائحة الكذب والافتراء! على أن الولاية -كما يسمونها- يُراد منها ولاية النصرة والمعونة لا ولاية التدبير والقيام على شأن الآخرين كما فهمها الإمامية. ثم ما الذي يصرف قوله _تعالى_: “وَالَّذِينَ آمَنُواْ…” عن عمومه إلى خصوص علي _رضي الله عنه_؟! ولو كانت الآية نزلت في شأنه -كما يقولون- فإن المقرر الثابت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ويظهر لنا (3) أن الإمامية الاثنا عشرية لم يجدوا في القرآن كل ما يساعدهم على أغراضهم وميولهم، فراحوا أولاً يدّعون أن القرآن له ظاهر وباطن بل بواطن كثيرة، وأن علم جميع القرآن عند الأئمة، ومنعوا الناس من القول في القرآن بغير سماع من أئمتهم. وراحوا ثانياً يدّعون أن القرآن كله أو جله وارد في أئمتهم ومواليهم وفي أعدائهم ومخالفيهم. وراحوا ثالثاً يدّعون أن القرآن حُرّف وبُدّل عما كان عليه زمن النبي _صلى الله عليه وسلم_. ورابعاً أخذوا يموّهون على الناس ويغرون العامة بما وضعوه من أحاديث على رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وعلى أهل بيته، وطعنوا في الصحابة إلا نفراً قلياً منهم ورموهم بكل نقيصة في الدين ليجدوا من وراء ذلك ثغرة يخرجون منها عندما تأخذ بخناقهم الأحاديث الصحيحة التي يرويها هؤلاء الصحابة عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_.
ثم إنهم لما أحسوا بخطر موقفهم عندما جوزوا أن يكون للآية الواحدة أكثر من تفسير واحد مع التناقض بينها؛ أخذوا يموهون على العامة بأن قرروا ما أوجبوا اعتقاده على الناس ليصلوا إلى مخلص يتخلصون به من هذا المأزق، فقرروا الاعتقاد بأن الإمام مفوض من قبل الله في تفسير القرآن، وأنه مفوض في سياسة الأمة، والتقية، وكل واحدة من هذه الثلاثة يمكن أن يكون مخلصاً للخروج من التناقض في تفاسيرهم التي يروونها عن أئمتهم، فكون الإمام مفوضاً في التفسير مخلص؛ لأن باب التفويض واسع، وكونه مفوضاً في السياسة مخلص؛ لأن الإمام أعلم بالتنزيل والتأويل، والقول بالتقية مخلص أوسع من سابقيه؛ لأن الإمام له أن يسكت ولا يجيب.
ثم إن الشيعة لهم في الفقه وأصوله آراء خالفوا بها من سواهم، فالأدلة عندهم أربعة؛ وهي الكتاب ولهم فيه رأي سبق ذكره، والسنة وهم غير أمناء عليها ولا ملتزمين ما صح منها، والإجماع وليس بحجة بنفسه عندهم وإنما يكون حجة إذا دخل الإمام المعصوم في المجمعين، أو كان الإجماع كاشفاً عن رأيه في المسألة، أو كان الإجماع عن دليل معتبر فهو في الحقيقة داخل في الكتاب والسنة، والرابع العقل، ولا يدخل فيه القياس ولا الاستحسان ولا المصالح المرسلة لأن ذلك كله ليس حجة عندهم. ولهذا كان طبيعياً أن يقفوا من الآيات التي تتعلق بالفقه وأصوله موقفاً فيه تعصب وتعسف، ويتأولوا ما يعارضهم من الآيات والأحاديث، بل وجدناهم أحياناً يزيدون في القرآن ما ليس منه ويدّعون أنه قراءة أهل البيت، وهذا إمعان منهم في اللجاج، وإغراق في المخالفة والشذوذ.
هذا وللإمامية الاثنا عشرية في نصوص القرآن التي تتصل بمسائل علم الكلام نظرة تتفق إلى حد كبير مع نظرة المعتزلة، ولم يكن بينهم وبين المعتزلة خلاف إلا في مسائل قليلة، ويبدو أن هذا راجع إلى تتلمذ الكثير من شيوخ الشيعة وعلمائهم لبعض شيوخ المعتزلة، كما يظهر أن هذا الارتباط في التفكير قديم غير جديد، فالحسن العسكري، والشريف المرتضى، وأبو علي الطبرسي وغيرهم من قدماء الشيعة ينظرون هذه النظرة الاعتزالية في تفاسيرهم التي بأيدينا، بل إننا نجد الشريف المرتضى في أماليه يحاول محاولة جدية أن يجعل علياً رضي الله عنه معتزلياً أو رأس المعتزلة على الأصح، ولا شك أن هذه النظرات الاعتزالية كان لها أثر كبير في تفاسيرهم.
__________
(1)وهناك مبادئ أخرى للمعتزلة لا يشتركون فيها بل هي مبادئ خاصة لكل فرقة من فرقهم المتعددة التي بلغت العشرين أو تزيد.
(2)انظر التفسير والمفسرون، الدكتور محمد حسين الذهبي، ج1، ص 351- 367.
(3)انظر التفسير والمفسرون، الدكتور محمد حسين الذهبي، ج3، ص 93- 100.
لما ظهرت الفرق الدينية تأثر التفسير بها إلى حد كبير، حيث قصد أصحابها إلى القرآن الكريم لأخذ ما يشهد لمذهبهم منه، ولو بطريق إخضاع النص القرآني وقسره على موافقة رأيهم، وتأويل ما يصادمه تأويلاً لا ينافي مذهبهم ولا يعارض عقيدتهم. ولقد استفحل الأمر إلى حدٍّ جعلهم يتسعون في حماية آرائهم والترويج لها في غير محيطهم؛ بما أخرجوه للناس من تفاسير جملوا فيها كلام الله _سبحانه_ على وفق أهوائهم ومقتضى نحلهم.
وكانت فرقة المعتزلة من هذه الفرق التي تأولت كثيراً من آيات القرآن على غبر تأويلها، من أجل خدمة أصولهم الخمسة التي يجمعون عليها، وهي: (التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(1).
ويقوم موقف المعتزلة من تفسير القرآن الكريم على الأسس الآتية(2):
1- إقامة تفسيرهم على أصولهم الخمسة، ولهذا كان اعتماد تفسيرهم على العقل أكثر من الاعتماد على النقل حتى يستطيع المفسر الذي هذا حاله أن يلوي العبارة إلى جانبه، ويصرف ما يعارضه عن معارضته له وتصادمه معه، ولذلك وضعوا أسساً للآيات التي ظاهرها التعارض فحكّموا العقل ليكون الفيصل بين المتشابهات، وقد كان من قبلهم يكتفون بمجرد النقل عن الصحابة والتابعين.
2- إنكار ما يعارضهم من الأحاديث الصحيحة، حيث جرّهم السلطان العقلي المطلق إلى إنكار ما صح من الأحاديث التي تناقض أسسهم وقواعدهم المذهبية.
3- ادعائهم أن كل محاولاتهم في التفسير مرادة لله _تعالى_، حيث يرون أن الحكم هو ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد، فرفضوا أن يكون للآية التي تحتمل أوجهاً تفسيراً واحداً لا خطأ فيه، وحكموا على جميع محاولاتهم في التفسير بأنها مرادة لله _تعالى_، وغاية ما قطعوا به هو عدم إمكان تفسير المخالف لمبادئهم.
4- المبدأ اللغوي في التفسير لدى المعتزلة، فنراهم يحاولون أولاً إبطال المعنى الذي يرونه مشتبهاً في اللفظ القرآني، ثم يثبتون لهذا اللفظ معنى موجوداً في اللغة يزيل هذا الاشتباه ويتفق مع مذهبهم، ويستشهدون على ما يذهبون إليه من المعاني التي يحملون ألفاظ القرآن عليها بأدلة من اللغة والشعر العربي القديم.
5- تصرف المعتزلة في القراءات المتواترة المنافية لمذهبهم.
6- تذرع المعتزلة بالفروض المجازية إذا بدا ظاهر القرآن غريباً، كقوله _تعالى_: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ” [الأعراف : 172]، يحملون هذه الآية وأمثالها على التخييل والتمثييل، ولا يقولون بالظاهر ولا يحومون عليه، اللهم إلا للرد على من يقول به ويجوّز حصوله. ونقول لهم نعم إن القرآن يمثل القمة العالية في كمال الأسلوب وبراعة النظم، ولكن ما الذي يمنع من إرادة الحقيقة! وقد تقرر أن اللفظ إذا أمكن حمله على الظاهر وجب حمله عليه وقبح صرفه إلى غير ما يتبادر منه.
7- تفسيرهم للقرآن على ضوء ما أنكروه من الحقائق الدينية.
ويكفي أن نعرض من تأويلات المعتزلة صورة واضحة على المهارة الفائقة التي يلوون بها الآية إلى جانبهم ويصرفونها عن أن تكون دليلاً لخصومهم:
لما عرضوا لتفسير قوله _تعالى_ في سورة النساء: “وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً” [النساء : 164]، ووجدوا أن هذه الآية تعارض مذهبهم في صفة الكلام لله _تعالى_، حيث جاء المصدر مؤكِّداً للفعل رافعاً لاحتمال المجاز، بادروا إلى تحويل هذا النص إلى ما يتفق ومذهبهم فزعموا أنه يُقرأ هكذا: “وكلّم اللـهَ موسى تكليماً” بوضع لفظ الجلالة في موضع نصب على أنه مفعول، ورفع موسى على أنه فاعل. وبعض المعتزلة يُبقي النص على قراءته المتواترة ولكنه يحمله على معنى بعيد حتى لا يبقى مصادماً لمذهبه، فيقول: “إن كلم من الكلم يعني الجرح، فالمعنى وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن”. وهذا ليفر من ظاهر النص الذي يصادم عقيدته ويخالف مذهبه.
وهذا الذي ذكرناه عرضه الزمخشري في تفسيره (ج1 ص 397 – 398)، وقد نسب القول الأول إلى بعض شيوخ المعتزلة ولم يعقّب عليه، وكأنه ارتضاه وصوّبه! والواقع أنه قول لا يرضاه منصف، فالقراءة التي فيها لفظ الجلالة في محل رفع على أنه الفاعل “وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً” هي القراءة المتواترة، ولا يقول منصف بترك القراءة المتواترة والأخذ بقراءة لم تبلغ حد التواتر، بل ولا نعرف لها سنداً صحيحاً إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_.
والقول الثاني، وهو تأويل التكليم بالجرح، عدول عن المعنى المتبادر من اللفظ ، ولا يساعده السياق، ولهذا نرى الزمخشري نفسه – على اعتزاله – يستخف بهذا الرأي، ويصفه بأنه من بدع التفاسير.
أهم كتب التفسير الاعتزالي:
صنف كثير من شيوخ المعتزلة تفاسير للقرآن الكريم على أصول مذهبهم لكن كثيراً منها ضاع بتقادم العهد عليه. ومن أهم هؤلاء الذين وصلت إلينا تفاسيرهم أو بعض منها، أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني، المتوفى سنة 322هـ، صنف تفسيراً اسمه (جامع التأويل لمحكم التنزيل)، وهذا التفسير –فيما يبدو- هو الذي يعتمد عليه الفخر الرازي فيما ينقله في تفسيره من أقوال منسوبة لأبي مسلم. وقد جمعه بعض المؤلفين في كتاب مستقل سماه (تفسير أبي مسلم الأصفهاني). ومنهم القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني، المتوفى سنة 415هـ، وله كتاب (تنزيه القرآن عن المطاعن) ولكنه غير شامل لجميع آيات القرآن الكريم، وهو متداول. ومنهم أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538هـ، وتفسيره الكشاف هو أشمل ما وصل إلينا من تفاسير المعتزلة.
موقف علماء أهل السنة من المسلك الاعتزالي في التفسير:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن مثل هؤلاء اعتقدوا رأياً ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم، وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة… ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحاً ويدس البدع في كلامه وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير …) اهـ مقدمة في أصول التفسير، ص 22.
الاتجاه الخامس: الاتجاه المنحرف في التفسير للشيعة الإمامية الاثنا عشرية:
وللشيعة على اختلاف مذاهبهم آثار في تفسير القرآن الكريم، ولكن أكثرها أثراً فرقة الشيعة الاثنا عشرية، وهم الذين يقول كثير منهم بوقوع التحريف في القرآن الكريم، ويقولون بأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ نصّ على إمامة علي _رضي الله عنه_ من بعده، وأن الإمامة انتقلت من علي _رضي الله عنه_ إلى ابنه الحسن _رضي الله عنه_ بالوصية من أبيه، ثم إلى الحسين، ثم إلى ابنه علي زين العابدين، ثم إلى ابنه محمد الباقر، ثم إلى ابنه جعفر الصادق، ثم خالفوا غيرهم من فرق الشيعة فقالوا بأن الإمامة انتقلت إلى ابنه موسى الكاظم ثم إلى ابنه.. وهكذا إلى الإمام الثاني عشر وهو محمد المهدي المنتظر، ويزعمون أنه سيخرج في آخر الزمان. وهؤلاء قد جاوزوا الحد في تقديسهم للأئمة، فزعموا أن الإمام له صلة روحية بالله _تعالى_ كصلة الأنبياء، وقالوا بأن الإيمان بالإمام جزء من الإيمان بالله، وأن من مات غير معتقد بالإمام فهو ميت على الكفر. وأشهر تعاليم الإمامية الاثنا عشرية أربعة: العصمة والمهدية والرجعة والتقية.
وإذا تتبعنا تراث الإمامية الاثنا عشرية في التفسير وجدنا لهم آثاراً كثيرة دُونت قديماً وحديثاً، وكلها يدور حول عقيدتهم.
ولأجل أن نوضح مدى تأثير العقيدة الإمامية الاثنا عشرية في اتجاههم في التفسير، ونعرف مدى انحراف هذا الاتجاه نذكر هذا المثال:
ففي كتاب (البرهان في تفسير القرآن) للسيد هاشم بن السيد سليمان الحسيني البحراني الكتكاني المتوفى سنة 1107هـ، نجد البحراني حينما يفسر قوله _تعالى_ من سورة المائدة: “إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ” [المائدة : 55] يقول ما نصه: (إن رهطاً من اليهود أسلموا، منهم عبد الله بن سلام، وأسيد بن ثعلبة، وابن يامين، وابن صوريا، أتوا النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقالوا: يا نبي الله، إن موسى أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيك يا رسول الله؟ ومن ولينا من بعدك؟ فنزلت هذه الآية: “إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ…”، قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: قوموا. فقاموا وأتوا المسجد فإذا سائل خارج، فقال: يا سائل، ما أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم هذا الخاتم. قال: من أعطاكه؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلي. قال: على أي حال أعطاك؟ قال: راكعاً. فكبّر النبي صلى الله عليه وسلم وكبّر أهل المسجد، فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: علي بن أبي طالب وليكم بعدي. فقالوا: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد _صلى الله عليه وسلم_ نبياً وعلي بن أبي طالب ولياً. فأنزل الله _عز وجل_: “وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ” [المائدة : 56]، فروي أن عمر بن الخطاب قال: والله، لقد تصدقت بأربعين خاتماً وأنا راكع لينزل الله في ما نزل في علي بن أبي طالب عليه السلام فما نزل) انتهى من تفسير البحراني، ص 480.
ولسنا بحاجة إلى الإطالة في إبطال هذا الاتجاه بعد أن أثبت لنا علماء الحديث ونقاده أن كل الروايات في ولاية علي رضي الله عنه ليس لها أساس من الصحة، وأنها من وضع الشيعة أنفسهم ليروّجوا بها مذهبهم في الإمامة والأئمة، ثم ألا ترى معي أن ما ذكره البحراني في آخر روايته لحديث الولاية عن عمر فيه رائحة الكذب والافتراء! على أن الولاية -كما يسمونها- يُراد منها ولاية النصرة والمعونة لا ولاية التدبير والقيام على شأن الآخرين كما فهمها الإمامية. ثم ما الذي يصرف قوله _تعالى_: “وَالَّذِينَ آمَنُواْ…” عن عمومه إلى خصوص علي _رضي الله عنه_؟! ولو كانت الآية نزلت في شأنه -كما يقولون- فإن المقرر الثابت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ويظهر لنا (3) أن الإمامية الاثنا عشرية لم يجدوا في القرآن كل ما يساعدهم على أغراضهم وميولهم، فراحوا أولاً يدّعون أن القرآن له ظاهر وباطن بل بواطن كثيرة، وأن علم جميع القرآن عند الأئمة، ومنعوا الناس من القول في القرآن بغير سماع من أئمتهم. وراحوا ثانياً يدّعون أن القرآن كله أو جله وارد في أئمتهم ومواليهم وفي أعدائهم ومخالفيهم. وراحوا ثالثاً يدّعون أن القرآن حُرّف وبُدّل عما كان عليه زمن النبي _صلى الله عليه وسلم_. ورابعاً أخذوا يموّهون على الناس ويغرون العامة بما وضعوه من أحاديث على رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وعلى أهل بيته، وطعنوا في الصحابة إلا نفراً قلياً منهم ورموهم بكل نقيصة في الدين ليجدوا من وراء ذلك ثغرة يخرجون منها عندما تأخذ بخناقهم الأحاديث الصحيحة التي يرويها هؤلاء الصحابة عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_.
ثم إنهم لما أحسوا بخطر موقفهم عندما جوزوا أن يكون للآية الواحدة أكثر من تفسير واحد مع التناقض بينها؛ أخذوا يموهون على العامة بأن قرروا ما أوجبوا اعتقاده على الناس ليصلوا إلى مخلص يتخلصون به من هذا المأزق، فقرروا الاعتقاد بأن الإمام مفوض من قبل الله في تفسير القرآن، وأنه مفوض في سياسة الأمة، والتقية، وكل واحدة من هذه الثلاثة يمكن أن يكون مخلصاً للخروج من التناقض في تفاسيرهم التي يروونها عن أئمتهم، فكون الإمام مفوضاً في التفسير مخلص؛ لأن باب التفويض واسع، وكونه مفوضاً في السياسة مخلص؛ لأن الإمام أعلم بالتنزيل والتأويل، والقول بالتقية مخلص أوسع من سابقيه؛ لأن الإمام له أن يسكت ولا يجيب.
ثم إن الشيعة لهم في الفقه وأصوله آراء خالفوا بها من سواهم، فالأدلة عندهم أربعة؛ وهي الكتاب ولهم فيه رأي سبق ذكره، والسنة وهم غير أمناء عليها ولا ملتزمين ما صح منها، والإجماع وليس بحجة بنفسه عندهم وإنما يكون حجة إذا دخل الإمام المعصوم في المجمعين، أو كان الإجماع كاشفاً عن رأيه في المسألة، أو كان الإجماع عن دليل معتبر فهو في الحقيقة داخل في الكتاب والسنة، والرابع العقل، ولا يدخل فيه القياس ولا الاستحسان ولا المصالح المرسلة لأن ذلك كله ليس حجة عندهم. ولهذا كان طبيعياً أن يقفوا من الآيات التي تتعلق بالفقه وأصوله موقفاً فيه تعصب وتعسف، ويتأولوا ما يعارضهم من الآيات والأحاديث، بل وجدناهم أحياناً يزيدون في القرآن ما ليس منه ويدّعون أنه قراءة أهل البيت، وهذا إمعان منهم في اللجاج، وإغراق في المخالفة والشذوذ.
هذا وللإمامية الاثنا عشرية في نصوص القرآن التي تتصل بمسائل علم الكلام نظرة تتفق إلى حد كبير مع نظرة المعتزلة، ولم يكن بينهم وبين المعتزلة خلاف إلا في مسائل قليلة، ويبدو أن هذا راجع إلى تتلمذ الكثير من شيوخ الشيعة وعلمائهم لبعض شيوخ المعتزلة، كما يظهر أن هذا الارتباط في التفكير قديم غير جديد، فالحسن العسكري، والشريف المرتضى، وأبو علي الطبرسي وغيرهم من قدماء الشيعة ينظرون هذه النظرة الاعتزالية في تفاسيرهم التي بأيدينا، بل إننا نجد الشريف المرتضى في أماليه يحاول محاولة جدية أن يجعل علياً رضي الله عنه معتزلياً أو رأس المعتزلة على الأصح، ولا شك أن هذه النظرات الاعتزالية كان لها أثر كبير في تفاسيرهم.
__________
(1)وهناك مبادئ أخرى للمعتزلة لا يشتركون فيها بل هي مبادئ خاصة لكل فرقة من فرقهم المتعددة التي بلغت العشرين أو تزيد.
(2)انظر التفسير والمفسرون، الدكتور محمد حسين الذهبي، ج1، ص 351- 367.
(3)انظر التفسير والمفسرون، الدكتور محمد حسين الذهبي، ج3، ص 93- 100.