مما سبق يتبين أن الاتجاهات المنحرفة في التفسير ترجع إجمالاً إلى عوامل ثلاثة: حذف السند، اعتقاد المفسر معنى يريد حمل الآية عليه، عدم مراعاة معنى اللفظ من جهة وقت نزول القرآن ومن جهة السياق الذي ورد فيه اللفظ.
وهذا عرض للاتجاهات المنحرفة في التفسير كما رصدها الدكتور الذهبي رحمه الله تعالى:
أولاً: الاتجاه المنحرف في تفسير الإخباريين والقصّاص:
اشتمل القرآن على كثير من القصص، وإذا أجلنا النظر في التوراة والإنجيل – على ما بهما من تحريف- نجد أنهما قد اشتملا على كثير مما اشتمل عليه القرآن الكريم منها، وذلك على اختلاف بينه وبينهما في الإجمال والتفصيل، فالقرآن إذا عرض لقصة فإنه ينحو فيها ناحية تختلف عن منحى التوراة والإنجيل، فنراه يقتصر على مواضع العظة، ولا يتعرض لتفصيل جزئيات المسائل، فلا يذكر تاريخ الوقائع، ولا أسماء البلدان التي حصلت فيها، كما أنه لا يذكر في الغالب أسماء الأشخاص، فلا يذكر تفاصيل الجزئيات بل يتخير من ذلك ما يمس جوهر الموضوع وما يتعلق بموضع العبرة.
وإذا قارنّا مثلاً بين ما جاء في التوراة والإنجيل عن قصة آدم عليه السلام وإبليس وبين ما جاء في القرآن؛ وجدنا اختلاف المسلك ظاهراً جلياً، فالقرآن في ذكره لهذه القصة لم يتعرض لنوع الشجرة التي نهى الله تعالى آدم وزجه عن الأكل منها، كما لم يذكر أن الشيطان تقمص حية ودخل الجنة ليغوي آدم بالأكل من الشجرة، كما لم يتعرض للبقعة التي هبط إليها آدم وزوجه، إلى آخر ما يتعلق بهذه القصة من تفاصيل.
ولما كانت النفس عادة تتشوق إلى معرفة تفاصيل الحوادث؛ وجدنا من المسلمين في عهد الصحابة من كان يرجع إلى بعض من أسلم من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار، ويسألونهم في بعض جزئيات هذه الحوادث، ولكن بقدر ما يرون أنه موضّح للقصة، ومبيّن لما أجمله القرآن منها، ومن غير أن يخرجوا عن دائرة الجواز التي حدّدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار”(1). وبقوله: “لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: (آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا) الآية”(2)
وعلى هذا؛ فإن الصحابة إذا أخذوا عن أهل الكتاب كانوا يصدقونهم فيما يتفق مع شريعتنا، ويكذبونهم فيما لا يتفق معها، ويتوقفون فيما يحتمل الصدق والكذب فلا يقطعون بصدقه لاحتمال أن يكون كذباً، ولا يقطعون بكذبه لاحتمال أن يكون صدقاً، كما كانوا لا يسألون عن الأشياء التي يشبه أن يكون السؤال عنها نوعاً من اللهو والعبث، كالسؤال عن لون كلب أصحاب الكهف، وبعض البقرة التي ضرب بها قتيل بني إسرائيل، ومقدار سفينة نوح عليه السلام، ونوع خشبها، واسم الغلام الذي قتله الخضر، وغير ذلك مما يُعد السؤال عنه قبيحاً، ومن قبيل تضييع الوقت في غير فائدة.
ولكن بعد عهد الصحابة كثرت الروايات الإسرائيلية في التفسير، ويرجع ذلك إلى كثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام، وميل النفوس لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن، فظهر جماعة من المفسرين حشوا التفسير بكثير مما هو موجود عند اليهود والنصارى من القصص المتناقضة والروايات التي هي أقرب للخرافة، ومن هؤلاء مقاتل بن سليمان المتوفى سنة 150 هـ، والذي ذكر أبو حاتم إلى أن استقى علومه من اليهود والنصارى وجعلها موافقة لما في كتبهم. انظر: وفيات الأعيان ج 2 ص 568.
ولقد استمر هذا الشغف بالإسرائيليات والولع بنقل الأخبار حتى وجدنا من كتب التفسير على اختلاف العصور ما هو مليء بهذا القصص على ما في بعضه من منافاة لعصمة الأنبياء، الأمر الذي كاد يصد الناس عن النظر في هذه الكتب ويجعلهم لا يثقون بما فيها. ولعل أبرز من عرفناه يُعنى بالإسرائيليات من المفسرين: أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري، المتوفى سنة 427هـ، في كتابه (الكشف والبيان عن تفسير القرآن). وعلاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر بن خليل البغدادي المعروف بالخازن، والمتوفى سنة 741هـ، في كتاب (لباب التأويل في معاني التنزيل).
كلا الرجلين يُعنى في تفسيره بالإسرائيليات، وكلاهما ينقل كثيراً منها على ما فيه من بعد عن الحقيقة، وأحياناً يتعقبان بعض ما يذكران بالنقد، وأحياناً لا يقدمان نقداً يكشف زيف ما يرويان ولو كان مخلاً بعصمة الأنبياء، ولست أرى دافعاً دفع بهذين المفسّـرين إلى حشو كتابيهما بهذه الروايات إلا حبهما للقصص، وشغفهما برواية الإسرائيليات ولو كان فيها الأكاذيب، فالثعلبي كان واعظاً، والخازن كان متصوفاً واعظاً.
وإليك مثلاً مما جاء قي تفسير الثعلبي:
لما عرض الثعلبي لتفسير قوله تعالى: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ…) [الكهف: 10]؛ روى عن السدي، ووهب بن منبه، وغيرهما، رواية طويلة فيها ذكر أسماء الفتية واسم كلبهم، وفيها حوار غريب بين الكلب والفتية حين تبعهم الكلب فحاولوا ردّه، وأعجب ما فيها الادعاء بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم طلب من ربّه أن يريه أصحاب الكهف فأجابه بأنه لن يراهم في دار الدنيا، وأمره أن يرسل إليهم أربعة من خيار أصحابه ليبلغوهم رسالته، يروي الثعلبي فيقول: (… وأسماؤهم: مكشلميثا، وهو كبيرهم ورئيسهم، وأمليخا وهو أجملهم وأعبدهم وأنشطهم، ومكشيثا، ومرطوش، وفوانس، وكيدسططنوس، وكلبهم قطمير…) إلى آخر ذلك.
الاتجاه الثاني: الاتجاه المنحرف في تفسير أصحاب المذاهب النحوية:
أدى تنوع العلوم وتفرع المذاهب إلى تأثر صاحب كلّ فنٍّ بفنه عند تفسيره للقرآن، ويتطرق إليه لأدنى مناسبة، وربما يُقحم بعض أبحاثه على التفسير، ومن هؤلاء أصحاب النحو، فقد أخذ المتعصبة منهم يتمسكون بآراء نحوية في التفسير حتى لو تعارضت مع القراءة المتواترة الصحيحة.
وإذا كنا نعيب على هؤلاء أنهم كتبوا ما يمكن الاستغناء عنه، وشغلوا الناظر في تفاسيرهم بما استطردوا إليه من غير حاجة؛ فالعيب كل العيب على بعض هؤلاء المفسرين الذين كانت لهم بالنحو عناية خاصة، وكانت لهم فيه مذاهب متبعة يتمسكون بها ولا يرون صحة ما سواها، ثم يجدون في كتاب الله تعالى آية تُقرأ قراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يسعهم إلا أن ينكروا هذه القراءة لأنهم لا يرونها تتماشى مع مذهبهم النحوي، ولا يكفيهم هذا الإنكار فيرون من قرأ بها لا يُدرك ما في القرآن من حسن النظم وجزالته، ومن هؤلاء: أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 535هـ، في تفسيره المعروف بالكشاف، وأبو محمد عبد الحق المعروف بابن عطية الأندلسي المتوفى 546هـ، في تفسيره (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز).
أبرز مثال لهذا الاتجاه:
حين تعرض الزمخشري لتفسير قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ…) [الأنعام: 137]؛ ذكر في هذه الآية قراءتين؛ قراءة حفص وغيره: (زَيَّنَ) على البناء للفاعل الذي هو (شُرَكَآؤُهُمْ)، وقراءة ابن عامر: (زُيّنَ) على البناء للمفعول الذي هو (قَتْلُ)، ونصب (أَوْلاَدَهم)، وجر (شُركائهم). وقد فسّـر الزمخشري الآية على هاتين القراءتين تفسيراً مقبولاً، ثم قال ما نصه: (وأما قراءة ابن عامر (قَتْلُ أَوْلاَدَهم شُرَكَآئهم) برفع القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء على إضافة القتل للشركاء، والفصل بينهما بغير الظرف وهو المفعول؛ فشيء لو كان في مكان الضرورات، وهو الشعر، لكان سمجاً مردوداً كما سمج ورد: (زج القلوص أبي مزادة) فكيف به في الكلام المنثور؟! فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته؟!… والذي حمل [يريد ابن عامر] على ذلك؛ أنه رأى في بعض المصاحف (شركاؤهم) مكتوبة بالياء [شركائهم]، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء، لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم، لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب) انظر: الكشاف ج1 ص 272.
وأما ابن عطية الأندلسي فيقول عن قراءة ابن عامر- كما يذكر ذلك أبو حيان في تفسيره البحر المحيط ج2 ص229-: (وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب، وذلك أنه أضاف الفعل إلى الفاعل وهو الشركاء، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، ورؤساء العربية لا يجيزون الفصل بالظرف في مثل هذا الأمر في الشعر كقوله:
كما خط الكتاب بكف يوماً يهودي يقـارب أو يزيـل
فكيف بالمفعول في أفصح الكلام؟!).
والواقع أن رد هذه القراءة المروية عن ابن عامر مبني على ما ذهب إليه جمهور البصريين من عدم جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه إلا لضرورة الشعر فقط. ولا شك أن إنكار هذه القراءة غير مقبول، وهو إنكار ندفعه ولا نقر عليه الزمخشري ومن وافقه، لأن المسألة خلافية بين النحويين، فمنهم من أجاز مثل هذا التركيب حتى في الكلام المرسل ولغير ضرورة، وهذا كما يقول أبو حيان هو الصحيح لوجوده في هذه القراءة المتواترة المنسوبة إلى العربي الصريح المحض (ابن عامر)(3) الآخذ القرآن عن عثمان بن عفان قبل أن يظهر اللحن في لسان العرب، ولوجودها أيضاً في لسان العرب في عدة أبيات، ولقد سخر أبو حيان من الزمخشري لإنكاره قراءة ابن عامر فقال ما نصه: (وعجباً لأعجمي ضعيف النحو [يعني الزمخشري] يردّ على عربي صريح محض [يعني ابن عامر] قراءة متواترة موجود نظيرها في لسان العرب في غير بيت، وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقرّاء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقاً وغرباً، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم) انتهى من البحر المحيط، ج 1، ص 230.
الاتجاه الثالث: الاتجاه المنحرف في تفسير جهلة قواعد اللغة:
ظهر هذا الانحراف عند من كتبوا في التفسير من غير دراية تامة باللغة العربية وأصولها، ولا بمبدأ اشتقاق الكلمات وكيفية تصريفها، فخرجوا بألفاظ القرآن عن معناها المراد.
وهؤلاء ليس لهم كتب يمكن الوقوف عليها، ولكنها تفاسير اشتهرت عن طوائف ونقلها بعض المفسرين مشيرين إلى خطئها، فمن ذلك ما نقله ابن قتيبة عن بعض المعتزلة أنهم فسروا قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ…)(4) [الأعراف: 179] فقالوا (ذرأنا لجهنم) أي ألقينا فيها. والظاهر أن الذي حملهم على هذا التفسير إنما هو مذهبهم في أن الله لا يخلق الهداية والضلال وإنما يخلق خلقاً للنار وخلقاً للجنة، وقد احتكم ابن قتيبة إلى أصول اللغة وردّ عليهم تأويلهم هذا فقال: (إنهم ذهبوا إلى قول الناس ذرته الريح، ولا يجوز أن يكون (ذرأنا) من ذرته الريح؛ لأن (ذرأنا) مهموز، وذرته الريح تذروه غير مهموز)، قال: (ولا يجوز أن نجعله من أذرته الدابة عن ظهرها أي ألقته؛ لأن ذلك من ذرأت؛ تقدير: فعلت بالهمز، وهذا من أذريت؛ تقدير: أفعلت بلا همز) مقدمة ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث.
—————-
(1) رواه البخاري.
(2) رواه البخاري.
(3) ابن عامر الشامي: من التابعين، وهو أحد أئمة القراءة، وهو من القراء السبعة، واسمه عبد الله بن عامر الشامي اليحصبي قاضي دمشق في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكنيته أبوعمرو، توفي بدمشق سنة 118هـ.
(4) في تفسير الجلالين: (ذرأنا): خلقنا.