[email protected]
لقد أعادت الاستقالة التي قدّمها رئيس الحكومة السابق عمر كرامي في جلسة مجلس النوّاب الأخيرة خلط الأوراق من جديد, و يخطئ من يعتقد أنّ غياب الحكومة عن الساحة السياسية هو انتصار للمعارضة التي صوّرت الأمر على أنّه اسقاط لهذه الحكومة نتيجة لتحرّكاتها و القوى الشعبيّة المساندة لها , فالأمر لم يكن حقيقة بهذه الصورة كما أنّ استقالة الحكومة حقّقت العديد من الأهداف للأطراف المعارضة لتحركات المعارضة و منها:
أولا:
لقد جاءت هذه الاستقالة من قناعة مستقلّة و فاجأت الجميع بمن فيهم السلطة نفسها خاصّة أنّ الجميع بما فيهم المعارضة كانوا يعلمون أنّ الحكومة ستنال الثّقة في البرلمان عند التصويت نظرا للحجم المحدود لعدد نواب المعارضة في البرلمان لذلك عمدت المعارضة الى توجيه جميع سهامها الى الحكومة (أي السلطة) لن تستطيع الرد من موقعها لأنّها ستستغل تحرّكات الحكومة و تفسّرها على انّه استبداد و تواطؤ لقمع المعارضة دون أن يتم اتّهامها بأنّها تستخدم الشارع موقع رسمي و هذا ما لمسناه مباشرة اثر الحشود المؤيّدة للرئيس كرامي و الحشود التي استقبلت وزير الداخلية المستقيل سليمان افرنجيّة التي هاجمت البطريرك و جنبلاط, اذ لولا الاستقالة لما كان بامكانهم التحرّك على هذا النحو خاصّة أنّ الهجوم المضاد على المعارضة قد بدأ الآن.
ثانيا:
لقد سحبت الاستقالة البساط من تحت أقدام المعارضة و أظهرت لها أنّها لا تتمسّك بالمناصب خاصّة و أنّ المعارضة كانت تراهن على عكس ذلك, و بالتالي أصبحت الكرة في ملعب المعارضة و بهذا فانّ أي تدهور يحصل في البلاد على أي صعيد سياسي اقتصادي اجتماعي تتحمّل المعارضة مسؤوليته على اعتبار أنّها أحدثت هذا الفراغ في الاستقالة.
ثالثا:
أرادت الحكومة المستقيلة الاظهار للناس أنّ المعارضة لا تحمل أي مشروع أو برنامج سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي و أنّه لا يجمعها أي شيئ فهي مجموعة معارضات مختلفة الاهداف لم يجتمعوا الاّ عند موت الحريري و انّ الاستقالة ستربكهم و ستكشف انّه ليس لديهم الاّ سياسة الهروب الى الامام عبر الهجوم الدائم و المستمر , و هذا ما حصل اذ انتقلت المعارضة من الهجوم على رئيس الحكومة الى الهجوم على رئيس الجمهورية نظرا لعدم وجود سلطة أخرى تهاجمها.
لا شك انّ سوريا و السلطة اللبنانيّة تتحمل قسطا ممّا وصل اليه الأمر الآن في هذه المرحلة , و لكن لا شك أيضا أنّ المعارضة تقود البلاد الى الانهيار ما لم تعرف الخط الذي يجب أن تتوقّف عنده خاصّة و انّها لا تأخذ بعين الاعتبار أي مضاعفات اجتماعيّة و اقتصاديّة و سياسيّة و دوليّة تنتج عن هكذا تحرّكات غير محسوبة النتائج.
في هذه الأثناء برز موقف لافت في الساحة اللبنانية و هو موقف الشيعة لا سيما حزب الله و حركة أمل الذين يتمتعان بقواعد شعبية كبيرة في مناطقهم و اذا كنّا نتفهّم أنّ عدم تحرك حركة أمل مردّه الى انّ تحريك ورقته و هو في السلطة سيؤدي الى نتائج سابية على عكس المرجو منها , كما انّ ليس بامكانه الاّ أن يكون محايدا و جامعا للأطراف على اعتبار انّه رئيس مجلس النوّاب اللبناني الذي يجمع كل أطراف الموالاة و المعارضة تحت سقفه, الاّ أنّ موقف حزب الله الأوّلي لم يكن كالمتوقّع منه, و يعود ذلك على الأرجح الى حراجة موقفه و حساباته الداخليّة, اذ لا يمكن للحزب الوقوف الى جانب ورقة محروقة (سوريا على الأرجح) مقابل خسارة جزء كبير من الشارع اللبناني, اذ ناذا يعني كسب سوريا و خسارة القاعدة الشعبية الشرعيّة و هي الغطاء الداخلي له, كما أنّه لا فاعلية له و لا دور عند خسارته للغطاء الخارجي الاقليمي (سوريا و ايران) مقابل كسب جزء من الداخل, اذ أنّ ذلك سينهي دوره على اعتبار انّ أطراف عديدة من المعارضة خاصّة أتباع عون و جنبلاط يعتبرون انّ لبنان قد حرّر أراضيه و أنّ شبعا ليست للبنان و بالتالي يجب حل حزب الله و سحب سلاحه, و لذلك فانّ حسابات الحزب باتت دقيقة في هذه المرحلة علما أنّ استقالة الحكومة اللبنانيّة برئاسة عمر كرامي أقذته من ورطة كبيرة, اذ كان على الحزب أن يصوّت لهذه الحكومة لاوّل مرّة خلال عمله السياسي بعد أن كان يحجبها عن جميع الحكومات السابقة , و لو كان تمّ ذلك لكان ادخل حزب الله ساحة المعركة الحاليّة في توقيت لا يرغبه هو و رغما عن ارادته في مواجهة المعارضة , فلا مجال للحياد في هذه الحالة خاصّة أنّ الحكومة كانت تشكو أيضا من تقاعس المساندين المفترضين لها و الذين تركوها تتلقّى هجمات المعارضة دون أي رد بانتظار معرفة الفائز و الاصطفاف الى جانبه, لذلك فقد فاجأت الاستقالة الجميع معارضة و موالاة و عبّرت عن استقلاليّة في القرار المتّخذ بعد اتّهامها بأنّها اداة.
في هذه الأثناء لا بدّ أن يتم تشكيل حكومة أخرى و لكن ستكون هذه الخطوة من أصعب الخطوات على الاطلاق و ذلك لعدّة أسباب منها:
أوّلا:
لن يقبل (من وجهة نظرنا) أي مرشح لمنصب رئاسة الحكومة هذا المقعد و لن يتحمّل المسؤوليّة , اذا سيكون عليه في حال قبوله للمنصب امّا أن يخضع لمطالب المعارضة و لضغوطها و لهجماتها و رماحها و لن يتوقّع بالمقابل دعم الموالاة له خوفا من حصول صدام طائفي أو حزبي داخل البلاد, و امّا أنّه سيقوم بقمع المعارضة و هو ليس أفضل من موقفه السابق, كما أنّه سيكون مسؤولا عن التحقيق في ملف اغتيال الحريري مع ما فيه من تداخلات و ضغوط داخليّة و خارجيّة كبيرة, لهذا سيكون في وضع أسوء ممّا كان عليه الرئيس عمر كرامي.
ثانيا:
بما أنّ رئيس الجمهوريّة هو المسؤول دستوريّا عن الدعوة لاجراء استشارات نيابيّة و بما أنّ الكتل النيابيّة المعارضة تطالب باستقالته فانّ هذا سيصعّب الامور و سيعيق المشاورات, كما أنّ المعارضة لا تستطيع ان تفرض مرشّحا تريده نظرا لأغلبيّة عدد نوّاب الموالاة في البرلمان, و بالتالي فهذا يعني أنّنا نراوح مكاننا.
ثالثا:
بما انّ منصب رئيس الحكومة هو منصب للطائفة السنيّة في لبنان و بما انّه و كما شرحنا لن يتوق أي مرشّح لتسلّم هذا المنصب في هذه الظروف فسيكون على المعارضة تقديم مرشّح من عندها لتلافي هذه المراوحة و قد يكون المرشّح (بهيّة الحريري) , لكن في هذ الحالة ستواجه الحكومة صعوبات جمّة هذه المرّة من الطرف الموالي الذي سيتحوّل الى معارض لها و بالتالي فأكثريّتة في البرلمان قد تعيق تحرّكات هذه الحكومة التي أصبحت حكومة المعارضة. بما يعني تبدّل الأدوار بحيث تصبح السلطة في موقع هجوم و المعارضة في موقع دفاع.
و بما انّ تشكيل الحكومة ليس له تحديد في التواريخ وفق الدستور فهذا يعني أنّ الأمر قد يطول و بالتالي فانّ البرلمان لن يستطيع تشريع أي شيء في غياب الحكومة و عليه فانّ قانون الانتخاب قد يصبح في مهب الريح و هو ان حصل سيزيد الوضع سوءا و يدخل البلاد في نفق مظلم بعد أن فقد المعيار الذي يحكم المنافسة بين الطرفين (و هو الانتخابات) ممّا قد يؤدي الى حالة من الفوضى العارمة و صراع الاستقطاب و حرب شوارع مع ما يحمله هذا الأمر من ذكريات أليمة قد تأجّج التوجّهات الطائفيّة أو الحزبيّة , و هنا قد يكون الحل بتشكيل حكومة عسكريّة و اعلان حالة الطوارئ على الرغم من انّ هذا الأمر الى الآن مستبعد في ظل وجود رئيس الجمهوريّة و مجلس النوّاب لكنّه يظل خيارا مطروحا اذا ما وصلت الامور الى هذا الحد.
لذلك فانّ الحل الأفضل في هذه المرحلة هو تشكيل حكومة محدودة العدد و المهام و محايدة و يكون هدفها دفع الجميع لخوض الانتخابات تكون الفيصل في كل هذا الهرج و المرج , لكنّ الامر لا يخلو أيضا من صعوبات كبيرة منها:
أوّلا:
صعوبة ايجاد من يقبل هذا المنصب كما شرحنا و الأصعب منه ايجاد طرف محايد في هذه المرحلة و في ظل هذا الانقسام فامّا مع أمريكا و فرنسا و امّا مع سوريا.
ثانيا:
تفاوت مطالب المعارضة و تتضاربها فمنهم من يعطي الأولويّة للتحقيق الدولي (الذي قد يطول أشهرا عديدة حسب المصادر الدولية نفسها) و هو ما يعني اهمال الانتخابات أو تأجيلها مع ما لذلك من مخاطر, و منهم من يطالب باستقالة الأجهزة الأمنيّة و منهم من يطالب بانسحاب سوريا فورا و التي ان قرّرت انسحابها فاّنه بالتأكيد عمليا يحتاج الى عدّة أشهر و هو أيضا ما يعني امّا خوض الانتخابات في وجودها و هو ما يرفضه البعض و امّا التاجيل مع مخاطره, و منهم من يطالب باستقالة رئيس الجمهورية و الذي ان فعل لن يكون هناك سلطة في لبنان على الاطلاق.
ثالثا:
رفض المعارضة للحوار العقلاني بعيدا عن الشارع و الأوراق الاخرى مقابل اصرار الأطراف التي استقالت الآن من اعتماد حقّها في استخدام أوراقها التي لم تكن تستطع استخدامها و هي في السلطة, و هو ما يعني تعطّل أي حوار حتى قبل البدء به.
Hijri Date Correction:
1