انقشع غبار الانتخابات العراقية تحت الاحتلال ،أو الانتخابات الأمريكية في العراق لتثبيت الاحتلال -لا فرق -وباتت الولايات المتحدة في وجه الحقيقة الكاملة في العراق أو باتت في مواجهة ما جنت أيديها في العراق –لا فرق -واصبح السؤال :وماذا بعد وكيف تتصرف وماذا بقى في أيديها من أوراق الآن أو كيف تخرج من ورطتها في العراق ..لا فرق ؟!
حاولت قوات الاحتلال الأمريكي فى العراق ،من خلال الانتخابات تحقيق شرعية لوجودها واحتلالها الدائم ،فكانت النتيجة أن وقعت في ورطة اكبر أو في ورطة متعددة الأبعاد- لا فرق -فمن ناحية رفضت قوى عديدة المشاركة في الانتخابات بما جعل قوات الاحتلال غير قادرة على الادعاء بأنها جاءت معبرة عن قوى الشعب العراقي أو بما جعلها فاقدة لتمثيل الشعب العراقي –لا فرق -إذ هي جاءت ضمن دائرة وفى نفس إطار القوى العميلة والمتحالفة من قبل مع الاحتلال ،ومن ثم لم ينتج عنها وجود حكومة “شرعية ” في نظر الشعب العراقي ،كسابقاتها-لا فرق – وبما يجعل قراراتها اللاحقة –المتوقع أن تطلب منها قوات الاحتلال عقد تحالف إستراتيجي يمتد حتى بعد أن تنسحب قوات الاحتلال –غير شرعية ،ولم ينتج عنها مجيء مجلس وطني يصدر دستورا دائما يستهدف شرعنة عملية الانقسام الطائفي والمحاصصة بين القوى المتعاونة مع الاحتلال –و تغييب الهوية الوطنية وفكرة الإجماع الوطني في مواجهة الاحتلال -كلاهما غير صالح لتحقيق أهدافها .
ومن ناحية أخرى جاءت نتيجة الانتخابات نفسها إلى صالح حليفة الولايات المتحدة في العراق –إيران –التي تمكنت في هذا التحالف من إيصال عملائها المباشرين أو حلفائها –لا فرق – بأكثر مما تمكنت قوات الاحتلال من إيصال عملائها المباشرين، إذ اكتشفت قوات الاحتلال في نهاية المطاف، أنها أجرت الانتخابات ففقدت من اجلها من فقدت من قواتها لتكسب إيران “على الجاهز “.وإذا كان السفير الإيراني في لندن قد كشف منذ أيام أن إيران والولايات المتحدة ، تعاونتا بشكل مباشر في هذه الانتخابات عبر لقاءات ومذكرات مكتوبة جرى تبادلها عبر سفارتيهما في باكستان وسويسرا ولندن – في محاولة منه لكشف زيف خداع الإدارة الأمريكية في ادعائها لمقاطعة إيران والحديث عنها في الإعلام ضمن محور الشر -فان النتائج النهائية للانتخابات كشفت فوز حلفاء إيران أو رجالها أو عملائها في العراق ،على حساب رجال أمريكا أو عملائها –ولا فرق في كلتا الحالتين -الأمر الذي دفع أجهزة الإعلام الأمريكية إلى الترويج حاليا لفكرة أن الشيعة في العراق يختلفون عن الشيعة في إيران في مسالة ولاية الفقيه ولذلك هم يقبلون بحكومة علمانية وليس حكومة دينية وذلك في إطار تسوية إيرانية أمريكية داخل العراق تولت فيها أجهزة الإعلام أو أجهزة الدعاية –لا فرق –شرح الخلاف في الرؤية بين قيادات الشيعة في العراق وإيران.
ومن جانب ثالث حاولت قوات الاحتلال الأمريكية في العراق أن تكون هذه الانتخابات ،إظهارا لعدم شرعية المقاومة وعزلها وتحويلها إلى مقاومة لا تحظى بإجماع واسع بين أطياف الشعب العراقي والى مقاومة محصور تأييدها في مناطق في وسط العراق – لا فرق -والى تصويرها بعد الانتخابات كحالة تمرد ضد سلطة عراقية تحظى بشرعية من قبل الشعب العراقي ،فكان أن وجدت نفسها في ورطة أشد وأنكى مما كان عليه حالها من قبل الانتخابات إذ رفضت قطاعات وأحزاب سنية ومن أطياف أخرى في مختلف مناطق العراق المشاركة في الانتخابات أو كان أن زاد عدد وقوة التيارات الرافضة للاحتلال والتي ترفض الاعتراف بنتائجها أو زادت أعداد التيارات السياسية الداعمة للمقاومة – لا فرق -الأمر الذي ظهر جليا خلال انعقاد المؤتمر الذي دعت إليه هيئة علماء المسلمين الذي أعلن بوضوح عن دعمه للمقاومة باعتبارها مقاومة وطنية وشرعية ضد احتلال غير شرعي ،حيث طالبت قوى وأحزاب وشخصيات سياسية عراقية اجتمعت بدعوة من هيئة علماء المسلمين في بغداد قبل أيام بجدول زمني لانسحاب القوات الأجنبية من العراق ،وهو اجتماع عقد في مقر الهيئة بمسجد أم القرى ، وحضره إلى جانب هيئة علماء المسلمين كلا من التيار الصدري (تيار مقتدى الصدر) و المدرسة الخالصية الشيعية والحزب الطليعي الناصري والجبهة الوطنية لتحرير العراق والمؤتمر التأسيس العراقي الوطني وحزب اتحاد الشعب وحركة التيار القومي العربي وحزب الإصلاح والعدالة والديمقراطية وحزب العراق الموحد والكتلة الإسلامية والحزب القومي الديمقراطي الخ ،وطالب المجتمعون فيه بـ (جدولة واضحة ومحددة ومعلنة وملتزم بها وفق ضمانات دولية لانسحاب قوات الاحتلال من العراق بجميع مظاهرها وأشكالها).
كما طالبوا بـ (إلغاء مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية والاثنية واعتماد مبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون).ودعوا إلى (الاعتراف بالمقاومة العراقية وحقها المشروع في الدفاع عن بلدها ومقدراته ورفض الإرهاب الذي يستهدف الأبرياء والمنشآت والمؤسسات ذات النفع العام ويستهدف دور العبادة من مساجد وحسينيات وكنائس وجميع الأماكن المقدسة).وقرر المجتمعون أن (الانتخابات التي أجريت هي ناقصة الشرعية لقيامها على قانون إدارة الدولة المرفوض وعدم استنادها على الأطر القانونية والأمنية والمقاطعة الشعبية الواسعة لها والتزوير الحاصل فيها) ،فكان بمثابة الصدمة لقوات الاحتلال وعملائها وتأكيدا للفشل السياسي .
ومن جانب رابع كانت قوات احتلال العراق حاولت قبل الانتخابات ،ضرب القاعدة الرمز للمقاومة ممثلة في مدينة الفلوجة ،وتحقيق انتصار عليها يعيد لقوات الاحتلال كرامتها المهدرة وشرفها العسكري الذي مرغ في تراب العراق –خاصة في مدينة الفلوجة -وسمعتها المنهارة ،فكان أن تعثرت الحملة العدوانية العسكرية رغم حرقها وتدميرها للفلوجة وتهجيرها لأهلها ،ووصل الأمر إلي درجة عدم المقدرة حتى على مجرد إصدار إعلان بحدوث انتصار أمريكي على مدينة مدنية ،وكانت النتيجة الأخطر ،هي توسع المقاومة ليس فقط بانتشارها وتأسيسها في عدد اكبر من المدن العراقية ،وإنما أيضا تمركزها في أحياء كاملة داخل بغداد ،مع توسع العمليات شديدة التنظيم في الجنوب .
وهكذا لحقت المحاولة الأمريكية بالانتخابات بسابقاتها من التجارب مثل تشكيل لمجلس الحكم الانتقالي ،وبحكومة علاوى ،وكذلك لحقت محاولة إخضاع الفلوجة عسكريا في المرة الثانية بسابقتها الأولى ،فوصلت قوات الاحتلال الأمريكية إلى مأزق ،باتت نذره اخطر مع عودة بوش مجددا إلى الكونجرس لطلب ميزانيات جديدة فقوبل مطلبه بمطالبات ودعوات من أعضاء في الكونجرس بضرورة تحديد جدول زمني لعودة القوات من العراق ،الأمر الذي وجد معه رامسفيلد نفسه في مأزق لم يستطع معه أن يغلق باب الانسحاب وإنما جعله “موارباً ” إذ أعلن عن الإسراع في تدريب الشرطة العراقية الخ باعتبار ذلك تسريعا لوقت الانسحاب.
ومن ثم بات السؤال المطروح هو :كيف ستتصرف أمريكا في العراق ،للخروج من المأزق ،الذي كلما حاولت الخلاص منه زاد انغماسها بالفشل فيه ولذلك سمى بالمستنقع !
المأزق الكلى الجامع !
كانت تلك هي نتائج الانتخابات ،غير أن أبعاد المأزق الأمريكي أوسع واعمق ،إذ أن الانتخابات كانت محاولة لخروج من المأزق الكلى فجاءت لتزيد من سوءه ،ومن ثم ولفهم الخطة الأمريكية ما بعد الانتخابات ،يجب أن نحدد معيار وملامح المأزق الكلى الحادث الذي وصلت إليه استراتيجية الاحتلال .
والمأزق الكلى للولايات المتحدة بات باديا في عدة ملامح :
الأول :
أنها تحدت الدول الاستعمارية الرئيسية الأخرى وقامت بعملية العدوان والغزو –مع حلفاء هامشيين لا قيمة ولا وزن لهم استخدمتهم كغطاء -أملا في حصد نتائج الاحتلال وحدها ،فكانت النتيجة أن وصلت إلى مأزق بعد أن ظهر أنها غير قادرة على إكمال خطتها وحدها على كافة الصعد وبعد أن وجدت نفسها أحوج إلى بلد مثل إيران تدعى عدائها .
والملمح الثاني للمأزق :
هو أنها أرادت الانطلاق من غزو العراق واحتلاله إلى تحقيق نتائج في المحيط العربي لخطتها في الشرق الأوسط الكبير ،من خلال الادعاء بجلب الديموقراطية وحقوق الإنسان –كانت الانتخابات آخر محاولات إنجازها -فكانت النتائج عكسية إذ ضاعت هيبتها وتلطخت سمعتها في هذا المجال تحديدا وأوجدت رفضا وكراهية شعبية لها .
وفى الملمح الثالث للمأزق :
كانت استهدفت تفكيك المجتمع العراقي على المستوى العميق أي أن تصل بعملية التفكيك إلى عمق المجتمع العراقي على مستوى الفرد في ضرب شعوره بالانتماء الديني والوطني ،وعلى مستوى بنية الأسرة باعتبارها الوحدة المتماسكة المحمية بقواعد الدين والانتماء القيمى وعلى مستوى القبيلة بالنظر إلى الظاهرة العراقية في توحيد القبيلة مختلف الأعراق وفى شمولها لأفراد من السنة والشيعة في داخل كيانها ،فكان أن تسببت ظروف العدوان وما ولدته من حالة الدفاع عن النفس والوطن والأمة ،إلى ترسيخ تلك الأنماط من التمسك بالعقيدة أو شدة التمسك بها والوصول للاستشهاد من اجلها ومن شدة التمسك ببناء وتركيب أشكال وأنماط الحياة العائلية والقبلية وصولا إلى حماية داخل محيط المجتمع وفى مواجهة العدوان الخارجي.
وفى المأزق الرابع :
كان أن حاولت تفكيك المجتمع العراقي بين فسيفساء عرقية وطائفية ،فكانت النتيجة أن توحدت قوى للمقاومة من مختلف الأطياف ومن سياسية وعسكرية ،وانحصر التقسيم في النخب التي تعاونت مع الاحتلال والتي تتزايد عزلتها يوما بعد يوم .وهكذا ظل الاحتلال خارج بنية تشكيلة المجتمع العراقي ،بفعل المقاومة ،فاصبح المأزق كلى وشامل .
وهنا تبدو الخطة الأمريكية للتعامل مع المرحلة القادمة ،ليست ناتجة فقط عن مأزق الانتخابات وإنما عن الوصول إلى مأزق شامل ،وهى خطة يمكن توضيح ملامحها في التالي :
· إشعال الفتنة الطائفية :
المحور والجانب الأول في خطة أمريكا في العراق اليوم
،سيكون باتجاه إشعال الفتنة الطائفية في العراق ،بين السنة والشيعة بصفة خاصة،والتي كانت ابرز مؤشراتها في الفترة الأخيرة هي “عملية المخبز ” والتي ما تزال لغزا لم يحل حتى الآن ،حيث دخل ملثمون إلى مخبز في منطقة شيعية ليمطروا المواطنين بالرصاص ،وتلاها عملية تفجير قرب مسجد للشيعة نقلت أجهزة الإعلام الأمريكية أو المتأمركة أن المقصود كان تفجيرا للمسجد ،فأصدرت جماعات المقاومة توضيحا بان العبوة الناسفة كانت موجهة إلى دورية أمريكية الخ ، وعملية تفجير لإصابة وإصابة مواطنين خلال احتفالاتهم بيوم عاشوراء الخ وهى تستهدف من إشعال الفتنة الآن ثلاثة أهداف :
الأول :
هو قطع الطريق على الخطوة التي خطتها هيئة علماء المسلمين في العراق ،حينما دعت حركة الصدر وحركات سياسية أخرى واسعة على أرضية دعم المقاومة حيث أن إشعال الفتنة الطائفية لاشك انه سيعيد حركة الصدر إلى تقوقعها في افضل الأحوال .
الثاني :
وضع عملاء إيران في معركة مع السنة ،لتقليل النتائج التي حصلوا عليها في الانتخابات على حساب عملاء الولايات المتحدة المباشرين.
الثالث:
تحويل المقاومة العراقية من مقاومة إسلامية ومقاومة وطنية موجهة ضد الاحتلال إلى ميليشيا طائفية موجهة جهودها إلى الداخل العراقي ،بما يفقدها الإجماع الوطني الراهن وبما يولد قوى داخلية في مواجهتها عسكريا.
· لعبة الإلهاء بالمحاكمات :
في المحور الثاني من الخطة الأمريكية للخروج من المأزق الراهن ،وبالتلازم مع المحور الأول ،سيجرى بدء أشكال متعددة من الإلهاء وإشغال المواطن العراقي بالوضع الداخلي على رأسها تقديم الرئيس العراقي السابق أو بعض رجاله إلى محاكمات في الفترة المقبلة .وهى لعبة ستستهدف في جانب منها تسليط الأضواء وشغل الرأي العام بقضايا يتحلق الناس حولها بين مؤيد ومعارض ،وكذلك إعادة تكرار لعبة إثارة البغضاء بين السنة والشيعة من خلال تقديم الرئيس العراقي إلى العراقيين باعتباره “سنيا” فعل ما فعل على أرضية طائفية ،كما تستهدف كذلك إسباغ شرعية قانونية على الحكم الجديد وتسويقه للرأي العام العراقي بأنه حكم جديد يحاكم النظام القديم ..الخ .
· التلويح بالعصا والجزرة :
وفى المحور الثالث من الخطة الأمريكية للخروج من المأزق ،تلعب قوات الاحتلال لعبة العصا والجزرة مع التيارات السياسية المعارضة والمقاومة للاحتلال .فهي من ناحية تلعب ببعض أوراق المشاركة في الحكم بالنسبة للتيارات السنية بعرض ورقة المشاركة في الحكومة الجديدة ،أو بعرض ورقة المشاركة في صياغة الدستور ووفق آليات متعددة ،أو من خلال شعارات المصالحة الوطنية من خلال المشاركة في مؤتمرات تخصص لهذا الغرض وفى نفس الاتجاه تأتي التسريبات التي تكاثرت أخيرا حول تفاوض مع “المقاومة” أو بعض “القريبين” منها .وهى من ناحية ثانية ،تدبر عمليات الاغتيال ضد هيئة علماء المسلمين الذين باتوا يفقدون عالما على الأقل بصفة أسبوعية ،وعمليات الاعتقال ضدهم وضد المقربين منهم ،مع تهديدات من كل جانب بإنهاء أي تمثيل للسنة في حكم العراق ،هذا في الوقت الذي باتت تعلن مجددا عن عمليات اجتياح عشوائية لمناطق مختلفة يلقى فيها القبض على الآلاف من المواطنين في مناطق وسط العراق ،بهدف إفقاد المقاومة تأييد وتعاطف العراقيين .
· شرعية من الخارج :
وفى المحور الرابع من الخطة الأمريكية للخروج من المأزق ،تتحرك الولايات المتحدة في محيط العراق ولدى الدول العربية خاصة ،للحصول على شرعية للانتخابات وللحكومة العراقية العميلة المقبلة ،تعويضا عن افتقاد الشرعية الداخلية وكذلك لتشديد الضغط على كل أشكال المقاومة في وسط العراق ،بحكم الانتماء المشترك مع دول المحيط .وتستخدم الولايات المتحدة أنواع مختلفة من الضغوط على دول المحيط لدفعها للإقرار بتلك الشرعية المزيفة ،حيث هي تضغط على تركيا من خلال لعبة استقلال المنطقة الكردية الشمالية ،كما تضغط على سوريا من بوابة لبنان ،وعلى الأردن من البوابة الاقتصادية الخ .
· والعودة إلى أوروبا إكراها :
وفى المحور الخامس تتوجه أمريكا إلى أوروبا مرة أخرى ،خلافا لموقفها الانفرادي بمصالحها العدوانية ولو على حساب الشركاء الآخرين .ففي إطار حل المأزق توجه بوش إلى أوروبا خلال الأيام الماضية –كانت سبقته إلى هناك كونداليزا رايس –معلنا طي صفحة الخلاف ومقدما عروضا لمشاركة الأوروبيين في حصد نتائج احتلال العراق ،مقابل حشد العالم الغربي مع الموقف الأمريكي في المواجهة الدائرة في مختلف مناطق العالم العربي والإسلامي ،حيث جوهر التحرك الأمريكي هو الإقرار بان الولايات المتحدة باتت عاجزة عن إنجاز مهمات العدوان وحدها ،وأنها تتراجع عن مواقفها السابقة وتطلب العودة إلى شراكة أوروبا بدلا من مصارعتها .
حاولت قوات الاحتلال الأمريكي فى العراق ،من خلال الانتخابات تحقيق شرعية لوجودها واحتلالها الدائم ،فكانت النتيجة أن وقعت في ورطة اكبر أو في ورطة متعددة الأبعاد- لا فرق -فمن ناحية رفضت قوى عديدة المشاركة في الانتخابات بما جعل قوات الاحتلال غير قادرة على الادعاء بأنها جاءت معبرة عن قوى الشعب العراقي أو بما جعلها فاقدة لتمثيل الشعب العراقي –لا فرق -إذ هي جاءت ضمن دائرة وفى نفس إطار القوى العميلة والمتحالفة من قبل مع الاحتلال ،ومن ثم لم ينتج عنها وجود حكومة “شرعية ” في نظر الشعب العراقي ،كسابقاتها-لا فرق – وبما يجعل قراراتها اللاحقة –المتوقع أن تطلب منها قوات الاحتلال عقد تحالف إستراتيجي يمتد حتى بعد أن تنسحب قوات الاحتلال –غير شرعية ،ولم ينتج عنها مجيء مجلس وطني يصدر دستورا دائما يستهدف شرعنة عملية الانقسام الطائفي والمحاصصة بين القوى المتعاونة مع الاحتلال –و تغييب الهوية الوطنية وفكرة الإجماع الوطني في مواجهة الاحتلال -كلاهما غير صالح لتحقيق أهدافها .
ومن ناحية أخرى جاءت نتيجة الانتخابات نفسها إلى صالح حليفة الولايات المتحدة في العراق –إيران –التي تمكنت في هذا التحالف من إيصال عملائها المباشرين أو حلفائها –لا فرق – بأكثر مما تمكنت قوات الاحتلال من إيصال عملائها المباشرين، إذ اكتشفت قوات الاحتلال في نهاية المطاف، أنها أجرت الانتخابات ففقدت من اجلها من فقدت من قواتها لتكسب إيران “على الجاهز “.وإذا كان السفير الإيراني في لندن قد كشف منذ أيام أن إيران والولايات المتحدة ، تعاونتا بشكل مباشر في هذه الانتخابات عبر لقاءات ومذكرات مكتوبة جرى تبادلها عبر سفارتيهما في باكستان وسويسرا ولندن – في محاولة منه لكشف زيف خداع الإدارة الأمريكية في ادعائها لمقاطعة إيران والحديث عنها في الإعلام ضمن محور الشر -فان النتائج النهائية للانتخابات كشفت فوز حلفاء إيران أو رجالها أو عملائها في العراق ،على حساب رجال أمريكا أو عملائها –ولا فرق في كلتا الحالتين -الأمر الذي دفع أجهزة الإعلام الأمريكية إلى الترويج حاليا لفكرة أن الشيعة في العراق يختلفون عن الشيعة في إيران في مسالة ولاية الفقيه ولذلك هم يقبلون بحكومة علمانية وليس حكومة دينية وذلك في إطار تسوية إيرانية أمريكية داخل العراق تولت فيها أجهزة الإعلام أو أجهزة الدعاية –لا فرق –شرح الخلاف في الرؤية بين قيادات الشيعة في العراق وإيران.
ومن جانب ثالث حاولت قوات الاحتلال الأمريكية في العراق أن تكون هذه الانتخابات ،إظهارا لعدم شرعية المقاومة وعزلها وتحويلها إلى مقاومة لا تحظى بإجماع واسع بين أطياف الشعب العراقي والى مقاومة محصور تأييدها في مناطق في وسط العراق – لا فرق -والى تصويرها بعد الانتخابات كحالة تمرد ضد سلطة عراقية تحظى بشرعية من قبل الشعب العراقي ،فكان أن وجدت نفسها في ورطة أشد وأنكى مما كان عليه حالها من قبل الانتخابات إذ رفضت قطاعات وأحزاب سنية ومن أطياف أخرى في مختلف مناطق العراق المشاركة في الانتخابات أو كان أن زاد عدد وقوة التيارات الرافضة للاحتلال والتي ترفض الاعتراف بنتائجها أو زادت أعداد التيارات السياسية الداعمة للمقاومة – لا فرق -الأمر الذي ظهر جليا خلال انعقاد المؤتمر الذي دعت إليه هيئة علماء المسلمين الذي أعلن بوضوح عن دعمه للمقاومة باعتبارها مقاومة وطنية وشرعية ضد احتلال غير شرعي ،حيث طالبت قوى وأحزاب وشخصيات سياسية عراقية اجتمعت بدعوة من هيئة علماء المسلمين في بغداد قبل أيام بجدول زمني لانسحاب القوات الأجنبية من العراق ،وهو اجتماع عقد في مقر الهيئة بمسجد أم القرى ، وحضره إلى جانب هيئة علماء المسلمين كلا من التيار الصدري (تيار مقتدى الصدر) و المدرسة الخالصية الشيعية والحزب الطليعي الناصري والجبهة الوطنية لتحرير العراق والمؤتمر التأسيس العراقي الوطني وحزب اتحاد الشعب وحركة التيار القومي العربي وحزب الإصلاح والعدالة والديمقراطية وحزب العراق الموحد والكتلة الإسلامية والحزب القومي الديمقراطي الخ ،وطالب المجتمعون فيه بـ (جدولة واضحة ومحددة ومعلنة وملتزم بها وفق ضمانات دولية لانسحاب قوات الاحتلال من العراق بجميع مظاهرها وأشكالها).
كما طالبوا بـ (إلغاء مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية والاثنية واعتماد مبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون).ودعوا إلى (الاعتراف بالمقاومة العراقية وحقها المشروع في الدفاع عن بلدها ومقدراته ورفض الإرهاب الذي يستهدف الأبرياء والمنشآت والمؤسسات ذات النفع العام ويستهدف دور العبادة من مساجد وحسينيات وكنائس وجميع الأماكن المقدسة).وقرر المجتمعون أن (الانتخابات التي أجريت هي ناقصة الشرعية لقيامها على قانون إدارة الدولة المرفوض وعدم استنادها على الأطر القانونية والأمنية والمقاطعة الشعبية الواسعة لها والتزوير الحاصل فيها) ،فكان بمثابة الصدمة لقوات الاحتلال وعملائها وتأكيدا للفشل السياسي .
ومن جانب رابع كانت قوات احتلال العراق حاولت قبل الانتخابات ،ضرب القاعدة الرمز للمقاومة ممثلة في مدينة الفلوجة ،وتحقيق انتصار عليها يعيد لقوات الاحتلال كرامتها المهدرة وشرفها العسكري الذي مرغ في تراب العراق –خاصة في مدينة الفلوجة -وسمعتها المنهارة ،فكان أن تعثرت الحملة العدوانية العسكرية رغم حرقها وتدميرها للفلوجة وتهجيرها لأهلها ،ووصل الأمر إلي درجة عدم المقدرة حتى على مجرد إصدار إعلان بحدوث انتصار أمريكي على مدينة مدنية ،وكانت النتيجة الأخطر ،هي توسع المقاومة ليس فقط بانتشارها وتأسيسها في عدد اكبر من المدن العراقية ،وإنما أيضا تمركزها في أحياء كاملة داخل بغداد ،مع توسع العمليات شديدة التنظيم في الجنوب .
وهكذا لحقت المحاولة الأمريكية بالانتخابات بسابقاتها من التجارب مثل تشكيل لمجلس الحكم الانتقالي ،وبحكومة علاوى ،وكذلك لحقت محاولة إخضاع الفلوجة عسكريا في المرة الثانية بسابقتها الأولى ،فوصلت قوات الاحتلال الأمريكية إلى مأزق ،باتت نذره اخطر مع عودة بوش مجددا إلى الكونجرس لطلب ميزانيات جديدة فقوبل مطلبه بمطالبات ودعوات من أعضاء في الكونجرس بضرورة تحديد جدول زمني لعودة القوات من العراق ،الأمر الذي وجد معه رامسفيلد نفسه في مأزق لم يستطع معه أن يغلق باب الانسحاب وإنما جعله “موارباً ” إذ أعلن عن الإسراع في تدريب الشرطة العراقية الخ باعتبار ذلك تسريعا لوقت الانسحاب.
ومن ثم بات السؤال المطروح هو :كيف ستتصرف أمريكا في العراق ،للخروج من المأزق ،الذي كلما حاولت الخلاص منه زاد انغماسها بالفشل فيه ولذلك سمى بالمستنقع !
المأزق الكلى الجامع !
كانت تلك هي نتائج الانتخابات ،غير أن أبعاد المأزق الأمريكي أوسع واعمق ،إذ أن الانتخابات كانت محاولة لخروج من المأزق الكلى فجاءت لتزيد من سوءه ،ومن ثم ولفهم الخطة الأمريكية ما بعد الانتخابات ،يجب أن نحدد معيار وملامح المأزق الكلى الحادث الذي وصلت إليه استراتيجية الاحتلال .
والمأزق الكلى للولايات المتحدة بات باديا في عدة ملامح :
الأول :
أنها تحدت الدول الاستعمارية الرئيسية الأخرى وقامت بعملية العدوان والغزو –مع حلفاء هامشيين لا قيمة ولا وزن لهم استخدمتهم كغطاء -أملا في حصد نتائج الاحتلال وحدها ،فكانت النتيجة أن وصلت إلى مأزق بعد أن ظهر أنها غير قادرة على إكمال خطتها وحدها على كافة الصعد وبعد أن وجدت نفسها أحوج إلى بلد مثل إيران تدعى عدائها .
والملمح الثاني للمأزق :
هو أنها أرادت الانطلاق من غزو العراق واحتلاله إلى تحقيق نتائج في المحيط العربي لخطتها في الشرق الأوسط الكبير ،من خلال الادعاء بجلب الديموقراطية وحقوق الإنسان –كانت الانتخابات آخر محاولات إنجازها -فكانت النتائج عكسية إذ ضاعت هيبتها وتلطخت سمعتها في هذا المجال تحديدا وأوجدت رفضا وكراهية شعبية لها .
وفى الملمح الثالث للمأزق :
كانت استهدفت تفكيك المجتمع العراقي على المستوى العميق أي أن تصل بعملية التفكيك إلى عمق المجتمع العراقي على مستوى الفرد في ضرب شعوره بالانتماء الديني والوطني ،وعلى مستوى بنية الأسرة باعتبارها الوحدة المتماسكة المحمية بقواعد الدين والانتماء القيمى وعلى مستوى القبيلة بالنظر إلى الظاهرة العراقية في توحيد القبيلة مختلف الأعراق وفى شمولها لأفراد من السنة والشيعة في داخل كيانها ،فكان أن تسببت ظروف العدوان وما ولدته من حالة الدفاع عن النفس والوطن والأمة ،إلى ترسيخ تلك الأنماط من التمسك بالعقيدة أو شدة التمسك بها والوصول للاستشهاد من اجلها ومن شدة التمسك ببناء وتركيب أشكال وأنماط الحياة العائلية والقبلية وصولا إلى حماية داخل محيط المجتمع وفى مواجهة العدوان الخارجي.
وفى المأزق الرابع :
كان أن حاولت تفكيك المجتمع العراقي بين فسيفساء عرقية وطائفية ،فكانت النتيجة أن توحدت قوى للمقاومة من مختلف الأطياف ومن سياسية وعسكرية ،وانحصر التقسيم في النخب التي تعاونت مع الاحتلال والتي تتزايد عزلتها يوما بعد يوم .وهكذا ظل الاحتلال خارج بنية تشكيلة المجتمع العراقي ،بفعل المقاومة ،فاصبح المأزق كلى وشامل .
وهنا تبدو الخطة الأمريكية للتعامل مع المرحلة القادمة ،ليست ناتجة فقط عن مأزق الانتخابات وإنما عن الوصول إلى مأزق شامل ،وهى خطة يمكن توضيح ملامحها في التالي :
· إشعال الفتنة الطائفية :
المحور والجانب الأول في خطة أمريكا في العراق اليوم
،سيكون باتجاه إشعال الفتنة الطائفية في العراق ،بين السنة والشيعة بصفة خاصة،والتي كانت ابرز مؤشراتها في الفترة الأخيرة هي “عملية المخبز ” والتي ما تزال لغزا لم يحل حتى الآن ،حيث دخل ملثمون إلى مخبز في منطقة شيعية ليمطروا المواطنين بالرصاص ،وتلاها عملية تفجير قرب مسجد للشيعة نقلت أجهزة الإعلام الأمريكية أو المتأمركة أن المقصود كان تفجيرا للمسجد ،فأصدرت جماعات المقاومة توضيحا بان العبوة الناسفة كانت موجهة إلى دورية أمريكية الخ ، وعملية تفجير لإصابة وإصابة مواطنين خلال احتفالاتهم بيوم عاشوراء الخ وهى تستهدف من إشعال الفتنة الآن ثلاثة أهداف :
الأول :
هو قطع الطريق على الخطوة التي خطتها هيئة علماء المسلمين في العراق ،حينما دعت حركة الصدر وحركات سياسية أخرى واسعة على أرضية دعم المقاومة حيث أن إشعال الفتنة الطائفية لاشك انه سيعيد حركة الصدر إلى تقوقعها في افضل الأحوال .
الثاني :
وضع عملاء إيران في معركة مع السنة ،لتقليل النتائج التي حصلوا عليها في الانتخابات على حساب عملاء الولايات المتحدة المباشرين.
الثالث:
تحويل المقاومة العراقية من مقاومة إسلامية ومقاومة وطنية موجهة ضد الاحتلال إلى ميليشيا طائفية موجهة جهودها إلى الداخل العراقي ،بما يفقدها الإجماع الوطني الراهن وبما يولد قوى داخلية في مواجهتها عسكريا.
· لعبة الإلهاء بالمحاكمات :
في المحور الثاني من الخطة الأمريكية للخروج من المأزق الراهن ،وبالتلازم مع المحور الأول ،سيجرى بدء أشكال متعددة من الإلهاء وإشغال المواطن العراقي بالوضع الداخلي على رأسها تقديم الرئيس العراقي السابق أو بعض رجاله إلى محاكمات في الفترة المقبلة .وهى لعبة ستستهدف في جانب منها تسليط الأضواء وشغل الرأي العام بقضايا يتحلق الناس حولها بين مؤيد ومعارض ،وكذلك إعادة تكرار لعبة إثارة البغضاء بين السنة والشيعة من خلال تقديم الرئيس العراقي إلى العراقيين باعتباره “سنيا” فعل ما فعل على أرضية طائفية ،كما تستهدف كذلك إسباغ شرعية قانونية على الحكم الجديد وتسويقه للرأي العام العراقي بأنه حكم جديد يحاكم النظام القديم ..الخ .
· التلويح بالعصا والجزرة :
وفى المحور الثالث من الخطة الأمريكية للخروج من المأزق ،تلعب قوات الاحتلال لعبة العصا والجزرة مع التيارات السياسية المعارضة والمقاومة للاحتلال .فهي من ناحية تلعب ببعض أوراق المشاركة في الحكم بالنسبة للتيارات السنية بعرض ورقة المشاركة في الحكومة الجديدة ،أو بعرض ورقة المشاركة في صياغة الدستور ووفق آليات متعددة ،أو من خلال شعارات المصالحة الوطنية من خلال المشاركة في مؤتمرات تخصص لهذا الغرض وفى نفس الاتجاه تأتي التسريبات التي تكاثرت أخيرا حول تفاوض مع “المقاومة” أو بعض “القريبين” منها .وهى من ناحية ثانية ،تدبر عمليات الاغتيال ضد هيئة علماء المسلمين الذين باتوا يفقدون عالما على الأقل بصفة أسبوعية ،وعمليات الاعتقال ضدهم وضد المقربين منهم ،مع تهديدات من كل جانب بإنهاء أي تمثيل للسنة في حكم العراق ،هذا في الوقت الذي باتت تعلن مجددا عن عمليات اجتياح عشوائية لمناطق مختلفة يلقى فيها القبض على الآلاف من المواطنين في مناطق وسط العراق ،بهدف إفقاد المقاومة تأييد وتعاطف العراقيين .
· شرعية من الخارج :
وفى المحور الرابع من الخطة الأمريكية للخروج من المأزق ،تتحرك الولايات المتحدة في محيط العراق ولدى الدول العربية خاصة ،للحصول على شرعية للانتخابات وللحكومة العراقية العميلة المقبلة ،تعويضا عن افتقاد الشرعية الداخلية وكذلك لتشديد الضغط على كل أشكال المقاومة في وسط العراق ،بحكم الانتماء المشترك مع دول المحيط .وتستخدم الولايات المتحدة أنواع مختلفة من الضغوط على دول المحيط لدفعها للإقرار بتلك الشرعية المزيفة ،حيث هي تضغط على تركيا من خلال لعبة استقلال المنطقة الكردية الشمالية ،كما تضغط على سوريا من بوابة لبنان ،وعلى الأردن من البوابة الاقتصادية الخ .
· والعودة إلى أوروبا إكراها :
وفى المحور الخامس تتوجه أمريكا إلى أوروبا مرة أخرى ،خلافا لموقفها الانفرادي بمصالحها العدوانية ولو على حساب الشركاء الآخرين .ففي إطار حل المأزق توجه بوش إلى أوروبا خلال الأيام الماضية –كانت سبقته إلى هناك كونداليزا رايس –معلنا طي صفحة الخلاف ومقدما عروضا لمشاركة الأوروبيين في حصد نتائج احتلال العراق ،مقابل حشد العالم الغربي مع الموقف الأمريكي في المواجهة الدائرة في مختلف مناطق العالم العربي والإسلامي ،حيث جوهر التحرك الأمريكي هو الإقرار بان الولايات المتحدة باتت عاجزة عن إنجاز مهمات العدوان وحدها ،وأنها تتراجع عن مواقفها السابقة وتطلب العودة إلى شراكة أوروبا بدلا من مصارعتها .
Hijri Date Correction:
1