بين أفكارنا ومشاعرنا صلات قوية ومعقدة، وما هو مستتر منها ما زال أكثر مما هو ظاهر ومحدد. إن الأفكار التي نحملها عن الحياة والأحياء والأشياء تولّد المشاعر التي تنسجم معها، فحين تحدث قناعة عند شخصٍ ما بأن صديقه الفلاني يغشه، ويكذب عليه، ويحيك له المكائد، فإن مشاعره نحوه تأخذ بالفتور والتغير إلى أن تنقلب مشاعر كراهية وعداء، ويحدث العكس من هذا حين يعلم الواحد منا بأن فلاناً الذي يكِنُّ له البغض والعداء دافع عنه في مجلس من المجالس، وأثنى عليه، أو سدد عنه ديناً كان صاحبه يطلبه بشدة وإلحاح.
ومن وجه آخر فإن المشاعر الراسخة تدفع العقل في اتجاه إنتاج الأفكار التي تدعم تلك المشاعر، وتضفي عليها المشروعية والمنطقية، وهكذا فحبنا لشيء من الأشياء يوجِّه عقولنا على نحو خفيّ إلى اكتشاف الميزات التي يتمتع بها ذلك الشيء، وطمس العيوب والنقائص التي يمكن أن تكون فيه، ويحدث العكس في حالة البغض والكراهية، وهذا أمر مسلَّم به.
هذا كله يعني أن أصحاب النفوس الكبيرة يملكون قدراً ما من عظمة العقل واستقامة الفكر، كما أنه يؤمل من أصحاب النضج العقلي أن يهتدوا إلى المواقف الشعورية والاستجابات السلوكية الراشدة والصحيحة؛ بل يمكن أن يقال – كما هو في الرؤية الإسلامية-: إن ما نملكه من مشاعر وسلوكات يعد بمثابة معايير لصفاء الأفكار، ونظراً لهذا الارتباط الحميم فإنك لا تستطيع أن تتحدث عن نفس فلان وما فيها من ميزات وعيوب بعيداً عن الحديث عن نوعية الأفكار والرؤى التي يؤمن بها.
وانطلاقاً من هذا يمكن القول: إن النجاح في علاج أمراض النفوس، كثيراً ما يتوقف على النجاح في معالجة أخطاء الأفهام وانحراف التصورات. كلما تحسَّن وعي الناس بمتطلبات العيش بكفاءة وأمان واطمئنان تحسَّن وعيهم بالشروط والتفاصيل التي يجب توفرها في بناهم النفسية والشعورية، والحقيقة أن التقدم الذي تم إحرازه على هذا الصعيد يعد جيداً ومهمّاً؛ ولكن لا بد من القول: إن الإيمان بالله _تعالى_ والالتزام الصحيح بأوامره ونواهيه يوفران الإطار التوجيهي لأفكارنا، والتي توفر بدورها الإطار التوجيهي لمشاعرنا وأحاسيسنا.
ولدى المفكرين والعلماء من تخصصات شتى قناعات راسخة بأن مشكلة الإنسان مع ما حوله لا تتمثل في طبيعة الصعوبات والمشكلات والضغوط التي يواجهها على مقدار ما تتمثل في نوعية علاقتنا بها، وتلك العلاقة تتأسس على نظرتنا وتفسيرنا لها.
ونحن لا يخامرنا أدنى شك بأن الإنسان لا يملك كل مفردات المنظومة الفكرية والعقدية التي تجعله مطمئناً لصحة رؤيته وتفسيره للأحداث والمواقف المختلفة التي يتعرض إليها، ودين الإسلام وحده هو الذي يوفر لنا العقائد والأفكار والأحكام والأدبيات التي تشرح لنا نوعية علاقتنا بخالقنا_سبحانه_ وبمصيرنا بعد الموت، والتي تصوغ رؤيتنا للحياة الدنيا وكل ما فيها من مسرات ومكدرات، كما تصوغ نوعية العلاقة التي يجب أن تسود بين بني البشر، ولا أريد أن أستفيض في هذا الشأن فهو واضح ومعروف؛ لكن أريد أن أشير إلى التوازن النفسي والشعوري الذي يوفره الإيمان من خلال تحديد نظرتنا للدنيا وعدها شيئاً مؤقتاً ومحدوداً وصغيراً إذا ما قارناها بالحياة الآخرة، حيث إن كل شيء هناك عظيم وممتد وأبدي.
إن هذه النظرة تجعل المسلم لا يعبأ بكل صعوبات الحياة ومصائبها؛ لأن له الأجر العظيم إذا صبر عليها، ولأنها في النهاية تظل صغيرة؛ لأنه ما دامت الدنيا صغيرة فإن كل ما فيها هو في النهاية صغير، وفي المقابل فإن المسلم لا تغرُّه الإمكانات الهائلة التي قد تصبح بين يديه؛ لأنه يعرف أنها مؤقتة، وأنه مسؤول عن استخدامها، ولذا فإنه يجد القدرة على التحرر من مشاعر الغرور والبطر والكبر والتسلط والانتقام. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا حيث يقول _سبحانه_: “مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ” (الحديد:22، 23).
إن معرفة المسلم أن ما يصيبه من خير وشر مقدر ومكتوب وواقع بإرادة الله _تعالى_ ومشيئته يجعله يتماسك، وينصرف إلى الاهتمام بنوعية الموقف الذي يجب عليه أن يتخذه حيال ما هو فيه من سراء أو ضراء، على حد قول ابن عباس _رضي الله عنهما_: “إن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً”. إن المصائب مهما كانت، تظل قابلة لأن تواجَه برؤية إيمانية تهوّن من شأنها، وتخفف من وطأتها، بل قد تحولها إلى نوع من النعمى، على حد قول عمر – رضي الله عنه-: “ما أصابتني مصيبة إلى وجدت فيها ثلاث نعم: الأولى: أنها لم تكن في ديني؛ الثانية: أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة: أن الله _تعالى_ يعطي الثواب العظيم والأجر الكبير عليها”.
أما الآن فإنني سأستعرض بعض السمات التي إذا اتصف بها شخص من الأشخاص أمكننا أن نقول: إنه من أصحاب النفوس الكبيرة، وذلك من خلال المفردات التالية:
1 – على مدار التاريخ كانت مشكلة (التوازن) النفسي والسلوكي مثار جدل واختلاف، كما كانت مثار ارتباك وحيرة لدى السواد الأعظم من الناس، وما ذلك إلا لأن الشخص حين يريد أن يكون متوازناً يعمد إلى إيقاف الفضائل والإيجابيات عند حدود معينة؛ كيلا تنقلب في النهاية إلى رذائل وسلبيات، وبما أن تلك الحدود غير واضحة فإننا كثيراً ما نختلف في موقف ما: هل هو ممدوح أم مذموم؟
أصحاب النفوس الكبيرة يملكون البصيرة والخبرة التي يتمكنون من خلالها من إقامة التوازن المنشود في أنفسهم، والذي ينعكس بالتالي على سلوكياتهم ومواقفهم؛ ويملكون ما هو أهم من ذلك، وهو الإرادة الصلبة التي تمكنهم من إيقاف نزعاتهم ونزواتهم عند الحدود الطبيعية والمقبولة، بالإضافة إلى الإصرار على محاولة البقاء على الخط الذي يرون فيه مؤشرات توازنهم النفسي، ولعلّي أوضح كل هذا من خلال المثالين التاليين:
أ – موقف الإنسان من ذاته يحتاج إلى نوع من التوازن، إذ يمكن أن ينظر أحدنا إلى مجموعة النقائص التي في ذاته ومجموعة الأخطاء الكبرى التي ارتكبها في حياته، فينتهي إلى احتقار نفسه وازدرائها وإصدار الأحكام القاسية عليها،كما أنه سيكون في إمكانه أن ينظر إلى خصائصه النفسية الجيدة وإلى مواقفه الحميدة فيصاب بنوع من الكبر والغرور. المطلوب هو أن يعرف الإنسان ما يمكن أن يكون لديه من نقاط ضعف وما لديه من أمراض وعاهات نفسية، ويتعامل معها دون تضخيم ودون شعور بالإحباط واليأس من الخلاص منها.
ومن وجه آخر فإن على الإنسان أن يحترم ذاته، ويثق بها؛ لأن احترام المرء لذاته يدفعه نحو صونها عن الرذائل؛ والثقة بها تشجعه على الارتقاء بها وتدعيمها. قد يكون من المهم أن نتذكر أن في إمكاننا دائماً أن نرى أنفسنا على أنها ممتازة وسامية، وذلك إذا قارناها بالأشخاص السيئين، كما أن في إمكاننا أن نراها متدهورة ومنحطة وذلك إذا قارناها بالصفوة الممتازة من البشر، وقد يكون من الخير أن نخرج من دوامة المقارنات، وأن نعمل بجدٍّ على اكتساب الخصال والأخلاق الحميدة، لنشعر بالتقدم المستمر، ويتأكد لدينا أن غدنا خير من يومنا مهما يكن من أمر، فإن الحصول على هذا التوازن ليس بالأمر اليسير، إذ إن الغالب أن يكون تعاملنا مع أنفسنا من أفق (اللاشعور)، وهذا ما يولد الاتجاهات المتطرفة في نظرة الناس إلى أنفسهم.
ب – كثيراً ما يجد الإنسان نفسه حائراً في الموقف النفسي الذي يجب أن يكون له حيال بعض المفاهيم والأدبيات التي تحمل فيما بينها درجة من التعارض والتصادم؛ ومن ذلك على سبيل المثال مفهوم النجاح والربح، ومفهوم الزهد والاستخفاف بشأن الدنيا، حيث إننا نجد من يستولي عليه حب تكديس الأرباح والفوز بالمزيد من المكاسب إلى درجة انشغاله بذلك عن أهله وأولاده وعن أداء واجباته المختلفة. وهو من أجل ذلك يغير الكثير من عاداته، ويحرم نفسه من كثير من المسرات الروحية والأدبية، إنه في حالة من الاستغراق التام مع محبوبه الأثير… والوقوع في أي خسارة أو تراجع في أرباحه المتوقعة يشكل بالنسبة إليه كارثة حقيقية، يصعب احتمالها وتجاوزها!
ونجد في المقابل من تغلب عليه الاستهانة بأي خسائر يمكن أن يتعرض لها على صعيد أعماله ومشروعاته المختلفة، فهو يملك استعداداً عظيماً للانتقال من مشروع خاسر إلى آخر خائب، مهما ترتب على ذلك من ديون وتبعات ومشكلات!
التوازن المطلوب والذي نجده عند أصحاب النفوس الكبيرة، يقوم على حب النجاح وحب الخير والسعي إلى الحصول على المال الذي يغطي الحاجات، ويفيض منه شيء للصدقة والصلة والاستثمار الجديد، لكن ذلك يظل في إطار القيام بالواجبات الشخصية والاجتماعية المختلفة.
وفي إطار التوازن العام للشخصية وبعد بذل الجهد والأخذ بالأسباب، فإن صاحب النفس الكبيرة، لا يتحطم إذا وقع في خسارة كبيرة أو إخفاق ذريع في عمل من الأعمال المهمة، إنه يعلم أن مجرد بذل الجهد المطلوب يؤدي إلى إغناء الحياة وتحرير القوى الكامنة لدى المرء، والوقوع في خسارة لا يعني نهاية العالم، وإنما يعني ضرورة أَخْذ الحذر من الوقوع في مغامرة جديدة غير محسوبة، كما يعني ضرورة الدراسة الجيدة لأي مشروع قادم.
إن أصحاب النفوس الكبيرة لا يرون في الربح شيئاً يملأ وجودهم فيغرقون أنفسهم في السعي إليه، كما أنهم لا يرون في الخسارة خسراناً للذات، فذواتهم أكبر من أن يستنفذها المال أو يقلل من شأنها احتياجهم إلى أثاث أو متاع؛ لأن وجودهم الدنيوي موصول بعالم الآخرة الرحيب، حيث تبدو كل الأشياء بالنسبة إلى ما فيه تافهة ومؤقتة.
____________
(*) من كتاب (جدد عقلك).
ومن وجه آخر فإن المشاعر الراسخة تدفع العقل في اتجاه إنتاج الأفكار التي تدعم تلك المشاعر، وتضفي عليها المشروعية والمنطقية، وهكذا فحبنا لشيء من الأشياء يوجِّه عقولنا على نحو خفيّ إلى اكتشاف الميزات التي يتمتع بها ذلك الشيء، وطمس العيوب والنقائص التي يمكن أن تكون فيه، ويحدث العكس في حالة البغض والكراهية، وهذا أمر مسلَّم به.
هذا كله يعني أن أصحاب النفوس الكبيرة يملكون قدراً ما من عظمة العقل واستقامة الفكر، كما أنه يؤمل من أصحاب النضج العقلي أن يهتدوا إلى المواقف الشعورية والاستجابات السلوكية الراشدة والصحيحة؛ بل يمكن أن يقال – كما هو في الرؤية الإسلامية-: إن ما نملكه من مشاعر وسلوكات يعد بمثابة معايير لصفاء الأفكار، ونظراً لهذا الارتباط الحميم فإنك لا تستطيع أن تتحدث عن نفس فلان وما فيها من ميزات وعيوب بعيداً عن الحديث عن نوعية الأفكار والرؤى التي يؤمن بها.
وانطلاقاً من هذا يمكن القول: إن النجاح في علاج أمراض النفوس، كثيراً ما يتوقف على النجاح في معالجة أخطاء الأفهام وانحراف التصورات. كلما تحسَّن وعي الناس بمتطلبات العيش بكفاءة وأمان واطمئنان تحسَّن وعيهم بالشروط والتفاصيل التي يجب توفرها في بناهم النفسية والشعورية، والحقيقة أن التقدم الذي تم إحرازه على هذا الصعيد يعد جيداً ومهمّاً؛ ولكن لا بد من القول: إن الإيمان بالله _تعالى_ والالتزام الصحيح بأوامره ونواهيه يوفران الإطار التوجيهي لأفكارنا، والتي توفر بدورها الإطار التوجيهي لمشاعرنا وأحاسيسنا.
ولدى المفكرين والعلماء من تخصصات شتى قناعات راسخة بأن مشكلة الإنسان مع ما حوله لا تتمثل في طبيعة الصعوبات والمشكلات والضغوط التي يواجهها على مقدار ما تتمثل في نوعية علاقتنا بها، وتلك العلاقة تتأسس على نظرتنا وتفسيرنا لها.
ونحن لا يخامرنا أدنى شك بأن الإنسان لا يملك كل مفردات المنظومة الفكرية والعقدية التي تجعله مطمئناً لصحة رؤيته وتفسيره للأحداث والمواقف المختلفة التي يتعرض إليها، ودين الإسلام وحده هو الذي يوفر لنا العقائد والأفكار والأحكام والأدبيات التي تشرح لنا نوعية علاقتنا بخالقنا_سبحانه_ وبمصيرنا بعد الموت، والتي تصوغ رؤيتنا للحياة الدنيا وكل ما فيها من مسرات ومكدرات، كما تصوغ نوعية العلاقة التي يجب أن تسود بين بني البشر، ولا أريد أن أستفيض في هذا الشأن فهو واضح ومعروف؛ لكن أريد أن أشير إلى التوازن النفسي والشعوري الذي يوفره الإيمان من خلال تحديد نظرتنا للدنيا وعدها شيئاً مؤقتاً ومحدوداً وصغيراً إذا ما قارناها بالحياة الآخرة، حيث إن كل شيء هناك عظيم وممتد وأبدي.
إن هذه النظرة تجعل المسلم لا يعبأ بكل صعوبات الحياة ومصائبها؛ لأن له الأجر العظيم إذا صبر عليها، ولأنها في النهاية تظل صغيرة؛ لأنه ما دامت الدنيا صغيرة فإن كل ما فيها هو في النهاية صغير، وفي المقابل فإن المسلم لا تغرُّه الإمكانات الهائلة التي قد تصبح بين يديه؛ لأنه يعرف أنها مؤقتة، وأنه مسؤول عن استخدامها، ولذا فإنه يجد القدرة على التحرر من مشاعر الغرور والبطر والكبر والتسلط والانتقام. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا حيث يقول _سبحانه_: “مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ” (الحديد:22، 23).
إن معرفة المسلم أن ما يصيبه من خير وشر مقدر ومكتوب وواقع بإرادة الله _تعالى_ ومشيئته يجعله يتماسك، وينصرف إلى الاهتمام بنوعية الموقف الذي يجب عليه أن يتخذه حيال ما هو فيه من سراء أو ضراء، على حد قول ابن عباس _رضي الله عنهما_: “إن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً”. إن المصائب مهما كانت، تظل قابلة لأن تواجَه برؤية إيمانية تهوّن من شأنها، وتخفف من وطأتها، بل قد تحولها إلى نوع من النعمى، على حد قول عمر – رضي الله عنه-: “ما أصابتني مصيبة إلى وجدت فيها ثلاث نعم: الأولى: أنها لم تكن في ديني؛ الثانية: أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة: أن الله _تعالى_ يعطي الثواب العظيم والأجر الكبير عليها”.
أما الآن فإنني سأستعرض بعض السمات التي إذا اتصف بها شخص من الأشخاص أمكننا أن نقول: إنه من أصحاب النفوس الكبيرة، وذلك من خلال المفردات التالية:
1 – على مدار التاريخ كانت مشكلة (التوازن) النفسي والسلوكي مثار جدل واختلاف، كما كانت مثار ارتباك وحيرة لدى السواد الأعظم من الناس، وما ذلك إلا لأن الشخص حين يريد أن يكون متوازناً يعمد إلى إيقاف الفضائل والإيجابيات عند حدود معينة؛ كيلا تنقلب في النهاية إلى رذائل وسلبيات، وبما أن تلك الحدود غير واضحة فإننا كثيراً ما نختلف في موقف ما: هل هو ممدوح أم مذموم؟
أصحاب النفوس الكبيرة يملكون البصيرة والخبرة التي يتمكنون من خلالها من إقامة التوازن المنشود في أنفسهم، والذي ينعكس بالتالي على سلوكياتهم ومواقفهم؛ ويملكون ما هو أهم من ذلك، وهو الإرادة الصلبة التي تمكنهم من إيقاف نزعاتهم ونزواتهم عند الحدود الطبيعية والمقبولة، بالإضافة إلى الإصرار على محاولة البقاء على الخط الذي يرون فيه مؤشرات توازنهم النفسي، ولعلّي أوضح كل هذا من خلال المثالين التاليين:
أ – موقف الإنسان من ذاته يحتاج إلى نوع من التوازن، إذ يمكن أن ينظر أحدنا إلى مجموعة النقائص التي في ذاته ومجموعة الأخطاء الكبرى التي ارتكبها في حياته، فينتهي إلى احتقار نفسه وازدرائها وإصدار الأحكام القاسية عليها،كما أنه سيكون في إمكانه أن ينظر إلى خصائصه النفسية الجيدة وإلى مواقفه الحميدة فيصاب بنوع من الكبر والغرور. المطلوب هو أن يعرف الإنسان ما يمكن أن يكون لديه من نقاط ضعف وما لديه من أمراض وعاهات نفسية، ويتعامل معها دون تضخيم ودون شعور بالإحباط واليأس من الخلاص منها.
ومن وجه آخر فإن على الإنسان أن يحترم ذاته، ويثق بها؛ لأن احترام المرء لذاته يدفعه نحو صونها عن الرذائل؛ والثقة بها تشجعه على الارتقاء بها وتدعيمها. قد يكون من المهم أن نتذكر أن في إمكاننا دائماً أن نرى أنفسنا على أنها ممتازة وسامية، وذلك إذا قارناها بالأشخاص السيئين، كما أن في إمكاننا أن نراها متدهورة ومنحطة وذلك إذا قارناها بالصفوة الممتازة من البشر، وقد يكون من الخير أن نخرج من دوامة المقارنات، وأن نعمل بجدٍّ على اكتساب الخصال والأخلاق الحميدة، لنشعر بالتقدم المستمر، ويتأكد لدينا أن غدنا خير من يومنا مهما يكن من أمر، فإن الحصول على هذا التوازن ليس بالأمر اليسير، إذ إن الغالب أن يكون تعاملنا مع أنفسنا من أفق (اللاشعور)، وهذا ما يولد الاتجاهات المتطرفة في نظرة الناس إلى أنفسهم.
ب – كثيراً ما يجد الإنسان نفسه حائراً في الموقف النفسي الذي يجب أن يكون له حيال بعض المفاهيم والأدبيات التي تحمل فيما بينها درجة من التعارض والتصادم؛ ومن ذلك على سبيل المثال مفهوم النجاح والربح، ومفهوم الزهد والاستخفاف بشأن الدنيا، حيث إننا نجد من يستولي عليه حب تكديس الأرباح والفوز بالمزيد من المكاسب إلى درجة انشغاله بذلك عن أهله وأولاده وعن أداء واجباته المختلفة. وهو من أجل ذلك يغير الكثير من عاداته، ويحرم نفسه من كثير من المسرات الروحية والأدبية، إنه في حالة من الاستغراق التام مع محبوبه الأثير… والوقوع في أي خسارة أو تراجع في أرباحه المتوقعة يشكل بالنسبة إليه كارثة حقيقية، يصعب احتمالها وتجاوزها!
ونجد في المقابل من تغلب عليه الاستهانة بأي خسائر يمكن أن يتعرض لها على صعيد أعماله ومشروعاته المختلفة، فهو يملك استعداداً عظيماً للانتقال من مشروع خاسر إلى آخر خائب، مهما ترتب على ذلك من ديون وتبعات ومشكلات!
التوازن المطلوب والذي نجده عند أصحاب النفوس الكبيرة، يقوم على حب النجاح وحب الخير والسعي إلى الحصول على المال الذي يغطي الحاجات، ويفيض منه شيء للصدقة والصلة والاستثمار الجديد، لكن ذلك يظل في إطار القيام بالواجبات الشخصية والاجتماعية المختلفة.
وفي إطار التوازن العام للشخصية وبعد بذل الجهد والأخذ بالأسباب، فإن صاحب النفس الكبيرة، لا يتحطم إذا وقع في خسارة كبيرة أو إخفاق ذريع في عمل من الأعمال المهمة، إنه يعلم أن مجرد بذل الجهد المطلوب يؤدي إلى إغناء الحياة وتحرير القوى الكامنة لدى المرء، والوقوع في خسارة لا يعني نهاية العالم، وإنما يعني ضرورة أَخْذ الحذر من الوقوع في مغامرة جديدة غير محسوبة، كما يعني ضرورة الدراسة الجيدة لأي مشروع قادم.
إن أصحاب النفوس الكبيرة لا يرون في الربح شيئاً يملأ وجودهم فيغرقون أنفسهم في السعي إليه، كما أنهم لا يرون في الخسارة خسراناً للذات، فذواتهم أكبر من أن يستنفذها المال أو يقلل من شأنها احتياجهم إلى أثاث أو متاع؛ لأن وجودهم الدنيوي موصول بعالم الآخرة الرحيب، حيث تبدو كل الأشياء بالنسبة إلى ما فيه تافهة ومؤقتة.
____________
(*) من كتاب (جدد عقلك).
Hijri Date Correction:
1