عند النظر إلى الحديث الوارد عن المساواة في إعلان الاستقلال الأمريكي عام (1190هـ –1776م ، نجد أن السبب في ذكر حقوق الإنسان، ومنها حق المساواة، لم يكن المقصود منه تقرير حق الإنسان، وإنما كان المقصود من ذلك بيان المسوغ للحرب التي أعلنوها على إنجلترا عام (1189هـ – 1775م)، وانتهت باستقلالهم في عام (1197هـ-1783م).
كما أن وثيقة حقوق الإنسان، التي صدرت مع الثورة الفرنسية، ونصت في بدايتها على تساوي الناس في الحقوق، لم يتحقق المراد منها، ولم تطبق عملياً داخل فرنسا نفسها، حتى بين رجال الثورة الفرنسية الذين قتل بعضهم بعضاً، ولم تتحقق عالمياً؛ لأن فرنسا انطلقت في استعمار البلاد، واستنزاف خيرات الأمم، واستعمار الشعوب، وقتل الأفراد( ).
كما أن المساواة المذكورة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، قد سبق الإسلامُ إلى إعلانها والدعوة إليها. ويتبين ذلك فيما يلي:
موقف الإسلام من المساواة:
قبل الحديث عن المساواة في الإسلام، يحسن التعرف على واقع هذه المساواة في الأمم والشرائع السابقة، فبضدها تتميز الأشياء، ولا يقدر قيمة المساواة في الإسلام، إلا من يعرف واقع التمييز والتفاوت بين الناس عند ظهور الإسلام.
ففي الهنـد – مثلاً – سادت الديانة البرهمية، وقسمت الناس إلى أربع طبقات، ومنحت الطبقة الأولى، وهم طبقة البراهمة (وهي طبقة الكهنة، ورجـال الدين) امتيازات وحقوقاً حتى ألحقتهم بالآلهة. وأما الطبقة الثانية فهم طبقة شترى (وهم رجال الحرب). وأما الطبقة الثالثة فهم طبقة ويش (وهم رجال الزراعة والتجارة). وأما الطبقة الرابعة فهم طبقة الشودر (وهم رجال الخدمة) وتعتبر هذه الطبقة في مقام أحط من البهائم( ). يقول الشيخ أبو الحسن الندوي( ) – رحمه الله تعالى -: (إنه لم يُعرف في تاريخ أمة من الأمم نظام طبقي أشد قسوة، وأعظم فصلاً بين طبقة وطبقة، وأشد استهانة بشرف الإنسان من النظام الذي اعترفت به الهند دينياً ومدنياً، وخضعت له آلاف السنين ولا تزال. فقبل ميلاد المسيح –عليه السلام- بثلاثة قرون ازدهرت في الهند الحضارة البرهمية، ووضع فيها مرسوم جديد للمجتمع الهندي، وألف فيه قانون مدني وسياسي اتفقت عليه البلاد، وأصبح قانوناً رسمياً، ومرجعاً دينياً في حياة البلاد ومدنيتها، وهو الذي يعرف الآن ب (منوشاستر) يقسم هذا القانون أهل البلاد إلى أربع طبقات متميزة..) ( ) إلى آخر ما ذكر في كلامـه – رحمه الله -.
وفي بلاد الفرس، كانت الأكاسرة ملوك فارس، يدعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي، وكان الفرس ينظرون إليهم كالآلهة، ويعتقدون أن في طبيعتهم شيئاً علوياً مقدساً، فكانوا يُكَفّرون لهم، وينشدون الأناشيد بألوهيتهم، ويرونهم فوق القانون، وفوق الانتقاد ، وفوق البشر، لا يجري اسمهم على لسانهـم، ولا يجلس أحد في مجلسهم، ويعتقدون أن لهم حقاً على كل إنسان، وليس لإنسان حق عليهم. وكذلك كان اعتقادهم في البيوتات الروحية، والأشراف من قومهم، فيرونهم فوق العامة في طينتهم، وفوق مستوى الناس في عقولهم، ونفوسهم، ويعطونهم سلطة لا حد لها، ويخضعون لهم خضوعاً كاملاً.
يقول البروفسور (أرتهر سين) مؤلف تاريخ (إيران في عهد الساسانيين): (كان المجتمع مؤسساً على اعتبار النسب والحرف، وكان بين طبقات المجتمع هوة واسعة لا يقوم عليها جسر ولا تصل بينها صلة، وكانت الحكومة تحظر على العامة أن يشتري أحد منهم عقاراً لأمير أو كبير، وكان من قواعد السياسة الساسانية أن يقنع كل واحد بمركزه الذي منحه نسبه، ولا يستشرف لما فوقه، ولم يكن لأحد أن يتخذ حرفة غير الحرفة التي خلقه الله لها. وكان ملوك إيران لا يولون وضيعاً وظيفة من وظائفهم، وكان العامة كذلك طبقات متميزة بعضها عن بعض تميزاً واضحاً. وكان لكل واحد مركز محدد في المجتمع)( ).
وكان التفاضل عند الإغريق (وهم قدماء اليونان) قائماً، فقد كانوا يعتقدون أنهم شعب خصهم الخالق بكريم الصفات الإنسانية، من عقل وإرادة، وأن غيرهم من سائر البشر لم يشاركوهم في كريم صفاتهم الإنسانية؛ ولذلك فقد كانوا يطلقون على غيرهم من الشعوب اسم البرابرة، إشارة إلى أن مرتبة كل الشعوب لا تستطيع أن تسمو إلى مرتبتهم في الصفات الإنسانية الكاملة، وأصبحوا ينظرون إلى من أسموهم البرابرة نظرة احتقار وازدراء، بالرغم من أنهم لا يختلفون عن اليونان إلا في اللغة والعادات( ).
وكان فيلسوفهم (أرسطو( )) يؤكد أن هؤلاء البرابرة لم يخلقوا إلا ليقرعوا بالعصا ويستذلهم ويستعبدهم شعب اليونان.
كما أنه يسود عندهم نظام طبقي لا مساواة فيه بين البشر، فهناك أحرار وأرقاء، للأحرار كل الحقوق السياسية لا تفرقة بينهم من حيث الثروة أو المركز الاجتماعي في التأثير في مساهماتهم في الحياة السياسية أو تقلدهم الوظائف العامة، وأما الأرقاء وهم الأكثر عدداً بالنسبة لهؤلاء الأحرار، فليس لهم أدنى الحقوق وإنما هم مبعدون عن أي نشاط في هذا المجتمع( ).
(وأما الرومان فقد اعتبروا أنفسهم أوصياء على الإنسانية كلها، وبسطوا سلطانهم بحد السيف على الكثير من شعوب الدنيا، واستعملوا في سبيل ذلك كل الوسائل التي توصلهم إلى ما يبتغونه، سواء أكانت هذه الوسائل شريفة أم حقيرة، واستطاعوا في النهاية أن يسيطروا على معظم أجزاء العالم معتبرين أنفسهم سادته.
ولم تكن قوانينهم ونظمهم تساوي بين الرومان وغيرهم من سائر الشعوب التي يتحكمون في مصائرها. وإنما يعتبرون غير الروماني من طبقة أدنى من طبقة الرومان ليس له الحقوق التي يتمتع بها هؤلاء، وإنما قد خلق ليكون رقيقاً يخدم فقط وليس من حقه التطلع إلى ما وراء ذلك.
ولذلك فإنهم انطلاقاً من هذا المعتقد وضعوا نوعين متباينين من القوانين، أحدهما: القانون المدني، وهو خاص بالشعب الروماني نفسه. وثانيهما: قانون الشعوب، وهو خاص بسكان البلاد التي احتلها الرومان)( ).
وأما اليهود فقد حرفوا وغيروا وبدلوا في التوراة التي أنزلت على نبي الله موسى – عليه السلام -، واخترعوا مبادئ وقيماً غريبة محرفة، وكتبوا خرافات وأوهاماً يريدون بها أن يرفعوا من شأن أنفسهم ويحطوا من شأن سائر البشر، فهم يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار يحق لهم ما لا يحق لغيرهم من بني الإنسان الذين ينظرون إليهم باعتبار أنهم نوع وضيع منحط عن أفراد الشعب اليهودي، واستباحوا لأنفسهم أن يغشّوا غير اليهودي، في الوقت الذي يحرمون فيه أن يغش اليهودي يهودياً مثله؛ لأن غير اليهودي لم يخلق إلا ليكون خادماً لليهودي. وتنص تعاليمهم على أن اليهودي يجب أن ينصف اليهودي الآخر إذا فرض وتخاصم إليه مع غير يهودي، سواء أكان إنصافه لليهودي بحق أو بغير حق( ).
وأما العرب في جاهليتهم قبل ظهور الإسلام، فكان عدم المساواة متجلياً في حياتهم في ناحيتين:
الناحية الأولى: مجال العلاقات بينهم وبين غيرهم من سائر الشعوب الأخرى. فالعربي في جاهليته كان يعتقد أنه من أصل مختلف عن أصل بقية الأمم الأخرى، حيث يرى نفسه كامل الإنسانية، في حين أن الأمم الأخرى التي كانوا يطلقون عليها اسم الأعاجم ليست كاملة الإنسانية، بل هي وضيعة الأصل وناقصة الإنسانية مما لا يجيز لها أن تدعي أنها في مستوى الشعب العربي. ولهذا الاعتقاد أثره من ناحية المصاهرة، فإن العربي في جاهليته، متمشياً مع ما ورثه من هذه التقاليد والعقائد، كان يرفض أن يصاهر غير العربي ولو كان متقلداً أسمى المراتب في قومه الأعاجم.
وكان رفض أحد رجال العرب( ) أن يزوج ابنته من أحد ملوك الفرس( ) سبباً في معركة (ذي قار) التي وقعت بين العرب والفرس وانتهت بانتصار العرب.
الناحية الثانية: مجال العلاقات بين العرب أنفسهم بعضهم بعضاً، وهذا الأمر يتجلى في علاقة الحكام بمحكوميهم وفي نظرة قريش لنفسها وقت الحج.
فأما علاقة حكام العرب بمحكوميهم فقد كان يشوبها في حالات متعددة نوع من التجبر والطغيان. فقد عرفت الجزيرة العربية قبل الإسلام ضروباً من الطغيان والاستبداد لا تقل عن ضروبه المشهورة التي عرفت في الشعوب الأخرى، فبعض قبائل البادية والحاضرة قد سادها زعماء يقيسون عزتهم بمبلغ اقتدارهم على إذلال غيرهم.
ومن ذلك ما ورد في المثل القائل: (لا حر بوادي عوف )، حيث إن عوفاً هذا كان يقهر من حل بواديه، فكل من فيه كالعبد له لطاعتهم إياه.
ومن مظاهر الطبقية وعدم المساواة عند العرب ما يتعلق بالديات، فدية الشريف أضعاف دية الرجل الذي دونه في الجاهلية، وكانت دية النضري -مثلاً- ضعف دية القرظي، وإذا قتل الشريف تجاوزوا قاتله إلى أحد الأشراف، وربما لم يرضوا إلا بعدد يقتلونهم، وقال أحدهم عن كليب الذي قُتل ووقع بُجير – ابن زعيم القبيلة – في الأسر لقتله، فقالوا: (بُجير بِشسْع كُليب)( ).
وفي سبب نزول قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}( ) ما ذكر عن سعيد بن جبير – رحمه الله -: (كان بدء ذلك في حيين من العرب اقتتلوا قبل الإسلام بقليل، وكان لأحد الحيّين فضل على الآخر، فأقسموا بالله ليقتلن بالأنثى الذكر، وبالعبد منهم الحر، فلما نزلت هذه الآية رضوا وسلموا)( ).
وأما نظرة قريش إلى نفسها وقت الحج، فإن قريشاً قبل الإسلام كانت تفرض لنفسها مرتبة خاصة وحقوقاً وتقاليد ليست لسائر العرب، وتقف في الحج بالمزدلفة حين يقف الناس جميعاً بعرفات ( )، ويقيم القرشيون على هذه الامتيازات منافع اقتصادية يفرضونها على سائر العرب، فيُحتِّمون ألا يطوفوا بالبيت إلا في ملابس يشترونها من قريش وإلا طافوا بالبيت عراة( ).
في هذا الوقت الذي بعض الملل والنحل والأديان تفرق الشعوب إلى طبقات خلق بعضها من رأس الآلهة فهي مقدسة، وخلق بعضها من قدميه فهي منبوذة. وفي هذا الوقت الذي كان بعض الناس يدّعون ويصدّقون أنهم من نسل الآلهة، وبعضهم يدّعي أن الدماء التي تجري في عروقه ليست من دماء العامة، وإنما هو الدم الأزرق الملوكي النبيل.
في هذا الوقت جاء الإسلام ليقرر وحدة الجنس البشري في أصل المنشأ والمصير، في المحيا والممات، في الحقوق والواجبات، أمام القانون وأمام الله، في الدنيا والآخرة، لا فضل إلا بالعمل الصالح ولا كرامة إلا للأتقى.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد: ( لم تعلن في ثورات ( ) العالم الدينية حقوق عامة للإنسان قبل ثورة الإسلام في القرن السادس للميلاد؛ لأن الإنسان نفسه لم يكن عاماً، فيوليه الدين حقوقاً عامة، وإنما ولد هذا الإنسان العام يوم آمن الناس بإله يتساوى لديه كل إنسان، وكل الناس، ويوم نيطت حقوقه وواجباته بغير تفرقة بين قبيل وقبيل )( ).
فالله الخالق سبحانه وتعالى لم ينسل أحداً، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا(88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا( )(89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا(90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا(91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا(92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا(93)}( ).
وقال عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1) اللَّهُ الصَّمَدُ(2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)}( ).
كما أنه ليس هناك دم أزرق ولا دم عادي، ولم يخلق أحدٌ من رأس، وخلق آخر من قدم، بل أصل الإنسانية واحد وهو التراب.
قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا}( ).
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}( ).
وقال عز وجل: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ(22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ(23)}( ).
وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ(7)}( ).
فالإسلام يحترم الإنسان ويكرمه من حيث هو إنسان، دون اعتبار لجنسه، أو قبيلته، أو بلده، أو نسبه، أو لونه. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}( ).
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}( ).
فالإسلام قد برئ من العصبية القبلية أو العنصرية، إلى جانب براءته من عصبية النسب والأسرة، فللناس جميعاً في المجتمع المسلم كرامتهم التي لا يجوز أن تمس، ولا أن يسخر منها أحد، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ولاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ولاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ولاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ( ).
وللناس جميعاً، في المجتمع المسلم، حرمتهم وحرمة منازلهم، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ( ).
وقال سبحانه: {وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً}( ).
فالإسلام يؤكد معنى المساواة المطلقة في كل ناحية من حياة الناس الوجدانية والاجتماعية، دون اعتبار للعنصر، أو القبيلة، أو البيت، أو المنصب.
وحين كان بعض ذوي الثراء والنسب يأنف أن يزوج أو يتزوج من الفقراء والفقيرات، جاء الأمر من الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}( ).
(قد يختلف الناس في أجناسهم وعناصرهم، فيكون منهم الآري، والسامي والحامي، والعربي والعجمي. وقد يختلفون في أنسابهم وأحسابهم، فيكون منهم من ينتهي إلى أسرة عريقة في المجد، ومن ينتهي إلى أسرة صغيرة مغمورة في الناس.
وقد يتفاوت الناس في ثرواتهم، فيكون منهم الغني، ومنهم الفقير، ومنهم المتوسط الحال. وقد يتفاوتون في أعمالهم ومناصبهم، فيكون منهم الحاكم والمحكوم، ويكون منهم المهندس الكبير، والعامل الصغير، ويكون منهم أستاذ الجامعة، والحارس ببابها.
ولكن هذا الاختلاف أو التفاوت لا يجعل لواحد منهم قيمة إنسانية أكبر من قيمة الآخر، بسبب جنسه، أو لونه، أو حسبه، أو ثروته، أو عمله، أو طبقته، أو أي اعتبار آخر.
إن القيمة الإنسانية واحدة للجميع، فالعربي إنسان، والعجمي إنسان، والأبيض إنسان، والأسود إنسان، والحاكم إنسان، والمحكوم إنسان، والغني إنسان، والفقير إنسان، ورب العمل إنسان، والعامل إنسان، والرجل إنسان، والمرأة إنسان، والحر إنسان، والعبد إنسان، وما دام الكل إنساناً فهم إذاً سواسية كأسنان المشط الواحد)( ) لا يتفاضلون إلا بالتقوى والإيمان والعمل الصالح.
ولم يكن الحديث، عن المساواة في الإسلام، حديثاً نظرياً مجرداً، بل كان مطبقاً تطبيقاً عملياً.
فها هو النبيr يساوي نفسه بالناس، ويعلن دائماً أنه بشر كسائر البشر، ويخاف أن ينقلب حب المسلمين له إلى عبادة أو تفضيل، فنهاهـم بقولـه r {لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } رواه البخاري( ).
{وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلاَلِهَا} رواه مسلم( ).
وخاطب الرسولr عمته وابنته في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها قالت: {لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا فَقَالَ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ} رواه مسلم( ).
وحين أنكر زعماء العرب من قريش هذا المبدأ، مبدأ المساواة، وأنفوا أن يجلسوا مع بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي -رضي الله عنهم- وسواهم من عامة الناس، وطلبوا من الرسول r أن يطردهم عنه ليحضروا مجلسه وليسمعوا وعظه، رفض الرسول ذلك، فعرضوا عليه أن يجعل لهم يوماً ولأولئك يوماً، وكاد الرسول r أن يستجيب لرغبتهم – طمعاً باستمالتهـم للإسـلام – عندئذ نزل الوحي يوجه النبي r {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}( ).
(وحين أصابت محمداً الإنسان لحظة ضعف بشري، فانصرف عن الرجل الفقير ابن أم مكتوم إلى الوليد بن المغيرة سيد قومه، عاجله العتاب الشديد الذي يشبه التأنيب ليرد للمساواة المطلقة معاييرها الكاملة، قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى(1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى(2)( )})( ).
كما أن الإسلام حارب العصبية الجاهلية القائمة على الجنس والعنصرية التي كانت سائدة في الجزيرة العربية، وظهرت ظلالها في بعض أحقاب التاريخ القديم والمعاصر، فَعَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ( ) يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ} رواه مسلم( ).
{ وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ} رواه أبو داود( ).
وَقَالَ النَّبِيُّ r : {مَنْ أَعَانَ قَوْمَهُ عَلَى ظُلْمٍ فَهُوَ كَالْبَعِيرِ الْمُتَرَدِّي يَنْزِعُ بِذَنَبِه} رواه الإمام أحمد( ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ( ) الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ( ) الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ} رواه الإمام أحمد( ) وأبو داود واللفظ له( ) والترمذي وقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ( ).
ونذكر هنا بعض الأمثلة الحية من حياة النبي r في تربيته لأصحابه، رضوان الله عليهم، للقضاء على كل بقايا الطبقية والعصبية الجاهلية المترسبة في نفوسهم، وتأكيد مبدأ المساواة، منها ما يلي:
لما اختلف الصحابي أبو ذر الغفاري (العربي الأصيل) مع بلال (الحبشي المولى)، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، احتد أبو ذر، وقال له: يا ابن السوداء (يعيره بأمه السوداء)! ووصل الخبر إلى رسول الله r فغضب غضباً شديداً، واستدعى المتنازعين، وقال {طفَّ الصاعُ، طفَّ الصاعُ، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى، أو بعمل صالح }. وهنا تأثر أبو ذر، رضي الله عنه، وتحرك فيه الباعث الديني والإيمان الصحيح، والتربية النبوية، فوضع خده على الأرض، وقال لبلال: ((قم فطأ عليه))( ).
وورد في رواية أخرى في البخاري: {عَنِ الْمَعْرُورِ ابْنُ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ عَلَيْهِ بُرْدًا وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْدًا فَقُلْتُ لَوْ أَخَذْتَ هَذَا فَلَبِسْتَهُ كَانَتْ حُلَّةً وَأَعْطَيْتَهُ ثَوْبًا آخَرَ فَقَالَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلَامٌ وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَنِلْتُ مِنْهَا فَذَكَرَنِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي أَسَابَبْتَ فُلَانًا قُلْتُ نَعَمْ قَالَ أَفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ قُلْتُ عَلَى حِينِ سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ قَالَ نَعَمْ هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا يُكَلِّفُهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ}( ).
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: {كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ( ) رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ يَا لَلْأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَسَمَّعَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا هَذَا فَقَالُوا كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ يَا لَلْأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ قَالَ جَابِرٌ وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ ثُمَّ كَثُرَ الْمُهَاجِرُونَ بَعْدُ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَوَقَدْ فَعَلُوا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ} متفق عليه( ).
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: {كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِي فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ فَقَالَ أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ}رواه مسلم( ).
وَعَنْ أَبِي عُقْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ مَوْلًى مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، قَالَ: {شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحُدًا فَضَرَبْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقُلْتُ خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلَامُ الْفَارِسِيُّ فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فَهَلَّا قُلْتَ خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيُّ} رواه الإمام أحمد( )، وأبو داود( )، وابن ماجه( )، وضعفه الألباني( ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ} رواه مسلم( ).
وهكذا نجد أن الإسلام ألغى – تأكيداً لمبدأ المساواة – كل نوع من أنواع العصبية والتفاخر بالأرض أو بالنسب أو بالقبلية الجاهلية، وجعل الآصرة التي تجمعهم هي آصرة الإيمان والاجتماع على هذا الدين العظيم. يقول عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}( ).
وهكذا (جاء الإسلام، فوجد الناس يتجمعون على آصرة النسب، أو يتجمعون على آصرة الجنس، أو يتجمعون على آصرة الأرض، أو يتجمعون على آصرة المصالح والمنافع القريبة، وكلها عصبيات لا علاقة لها بجوهر الإنسان، إنما هي أعراض طارئة على جوهر الإنسان الكريم، وقال الإسلام كلمته الحاسمة في هذا الأمر الخطير الذي يحدد علاقات الناس بعضهم ببعض تحديداً أخيراً، قال: إنه لا لون، ولا جنس، ولا نسب، ولا أرض، ولا مصالح ولا منافع، هي التي تجمع بين الناس أو تفرق، إنما هي العقيدة..
إن آصرة المجتمع هي العقيدة؛ لأن العقيدة هي أكرم خصائص الروح الإنسانية، فأما إذا بُتَّت هذه الوشيجة فلا آصرة ولا تجمع ولا كيان. إن الإنسانية يجب أن تتجمع على أكرم خصائصها، لا على مثل ما تتجمع عليه البهائم من الكلأ والمرعى..
والأمة هي المجموعة من الناس تربط بينها آصرة العقيدة، وهي جنسيتها، وإلا فلا أمة؛ لأنه ليست هناك آصرة تجمعها، والأرض والجنس واللغة والنسب والمصالح المادية القريبة لا تكفي واحدة منها ولا تكفي كلها لتكوين أمة، إلا أن تربط بينها رابطة العقيدة)( ).
بعض مظاهر المساواة في الإسلام:
أولاً: المساواة في الشعائر التعبدية:
نذكر مظهرين من مظاهر المساواة في الشعائر التعبدية، وهما: الصلاة، ومناسك الحج والعمرة.
أ – الصلاة: ففي المسجد نرى المساواة بصورتها العملية – حيث تقام صلاة الجمعة والجماعة؛ حيث تزول كل الفوارق التي تميز بين الناس، فمن ذهب إلى المسجد أولاً أخذ مكانه في مقدمة الصفوف، وإن كان فقيراً ضعيفاً، ومن ذهب متأخراً إلى المسجد تأخر مكانه مهما كان منصبه وجاهه. وفي المسجد يلتقي الأبيض بالأسود، والشريف بالوضيع، والغني بالفقير، والعالم بالأمي، والحاكم بالمحكوم، لا فرق بين واحد وآخر، فكلهم سواسية أمام الله، يلتقون على صعيد واحد من العبودية لله عز وجل والخشوع بين يديه، فكلهم سواسية أمام الله، في قيامهم وقعودهم وركوعهم وسجودهم. قبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، وربهم واحد، وحركاتهم واحدة، خلف إمام واحد( ).
ب – مناسك الحج والعمرة: وفي المشاعر المقدسة -حيث تؤدى مناسك الحج والعمرة- تتحقق المساواة بصورة أشد وضوحاً وظهوراً، حيث تلتقي العناصر البشرية المؤمنة كلها، من بيضاء وملونة، على صعيد واحد وبثياب واحدة؛ لأن شعيرة الإحرام تفرض على الحجاج والمعتمرين، أن يتجردوا من ملابسهم العادية، ويلبسوا ثياباً بيضاء لم يدخلها التكلف والتفصيل، شبيهة بأكفان الموتى، يستوي فيها الملك والسوقة، والأبيض والأسود، والغني والفقير، وينطلق الجميع ملبين بهتاف واحد (لبيك اللّهم لبيك). مبتهلين إلى رب واحد، معظمين لشعائره لا فرق بين سيد ومسود، ولا بين آمر ومأمور، ولا أبيض وأسود( ).
ثانياً: المساواة أمام القضاء:
ومن مظاهر المساواة في الإسلام المساواة في التقاضي، فحق التقاضي عام لجميع مواطني الدولة الإسلامية، والمسلمون في هذا الحق سواسية كأسنان المشط، فمن حق كل إنسان مراجعة القضاء للمطالبة بحقه، أو لحمايته، أو الدفاع عن نفسه، وماله، وعرضه، ودينه؛ ولذلك يتساوى الحكام والمحكومون أمام القضاء.
كما أن الخلفاء والولاة والأمراء والأشراف تحت سلطة التقاضي، إذا رفعت عليهم دعوى، أو صدر منهم ظلم، وتطبق عليهم الحدود والأحكام، والأمثلة على المساواة أمام القضاء كثيرة من السيرة النبوية وسيرة سائر الخلفاء، تحقيقاً لقول الله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}( ).
فمن الأمثلة على ذلك، ما ورد عن الصحابة -رضوان الله عليهم- حينما حاولوا أن يُشفِّعوا أسامة بن زيد -حب رسول اللهr وابن حبه- في المرأة المخزومية التي سرقت، فاستحقت أن يقام عليها حد السرقة، فكلمه فيها أسامة رضي الله عنه، فغضب رسول الله r غضباً شديداً، وقال: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، كما وردت هذه القصة في الصحيحين( ):
{فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا}.
ومن الأمثلة – أيضاً – على مبدأ المساواة، ما ورد عن الخليفة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه -، حينما ولى رجلاً على اليمن، فأتاه رجل أقطع اليد والرجل، فذكر أن والي اليمن ظلمه، فقال: ((إن كان ظلمك لأقيدن منه))( ).
ونقل الشافعي – رحمه الله – عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال: ((رأيت رسول الله r يعطي القود من نفسه، وأبا بكر يعطي القود من نفسه، وأنا أعطي القود من نفسي))( ).
ومن الأمثلة – كذلك – على مبدأ المساواة، ما حدث في عهد عمر بن الخطاب – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – حينما لطم جبلةُ بن الأيهم -الأميرُ الغساني- الأعرابيَّ، بغير حق، فشكاه إلى عمر بن الخطاب، فلم يسع عمر-رضي الله عنه- إلا أن يحضر جبلة، ويطلب إليه أن يمَكِّن الأعرابي ليقتص منه، لطمة بلطمة، إلا أن يعفو ويصفح، وعز على الأمير الغساني أن يفعل ذلك، وقال لعمر: كيف يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة ؟ فقال له عمر: إن الإسلام قد سوى بينكما.
فلم يسع الأمير الغساني هذا المعنى الكبير والمبدأ العظيم، فخرج من المدينة هارباً مرتداً عن الإسلام الذي يفرض المساواة بين الملك والسوقة أمام شرع الله تعالى. ولم يبال عمر ولا الصحابة – رضوان الله عليهم – بارتداد هذا الأمير؛ لأن خسارة رجل مهما كان منصبه وجاهه، لا تقارن ولا تقاس بخسارة مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام( ).
كما يوجب الإسلام المساواة في التقاضي بين المسلم وغير المسلم، ويوجب إقامة الحق والعدل مهما كانت العداوة بين الأفراد، أو مع الحاكم، كما قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}( ).
وقد ضرب الخلفاء الراشدون -رضوان الله عليهم- أروع الأمثلة على هذا الأمر.
فهذا عمر يستدعي واليه على مصر عمرو بن العاص وابنه – رضوان الله عليهم -، حين ضرب ابنه ابن القبطي – الذي اشتكى طالباً العدل والنصفة – متطاولاً عليه بأنه ابن الأكرمين، ثم يأمر عمرُ ابنَ القبطي أن يضرب ابنَ عمرو ابن العاص كما ضربه، ثم قال لعمرو مقولته الشهيرة: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟؟!!)( ).
(ومما يلفت الانتباه ويجدر بالتسجيل هنا، موقف القبطي وسفره من مصر إلى المدينة على بعد المسافة، ومشقة الطريق، وضعف الوسائل، وقد كان هذا القبطي، وألوف أمثاله، يُضربون، ويُعذبون، ويُضرب أبناؤهم، وأهلوهم في عهد الرومان، فما يرفعون بالشكاية رأساً ولا يحركون ساكناً.
ترى ما الذي طرأ عليهم؟ وما الذي غيّر من نظرتهم، وجعلهم يحسون بالظلم، ويشكون منه، ويركبون الصعب في سبيل الانتصاف لأنفسهم؟؟ إنه الإسلام بلا ريب..، الإسلام أشعرهم بكرامتهم الإنسانية، وأفهمهم أن لهم حقوقاً يجب أن تُرعى، مثلما أن عليهم واجبات يجب أن تؤدى، وعرفوا أن هذه المبادئ الإنسانية الجديدة ليست حبراً على ورق، ولا مجرد لافتات للدعاية، وإنما هي دين يجب أن يحترم وينفّذ.
فلا عجب أن قطع الرجل الفيافي، ليطالب بحقه ويسترد كرامته التي صانها له الإسلام)( ).
وخصومة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -، حينما كان خليفة، مع الرجل اليهودي، بعدما سقطت درع له فالتقطها اليهودي، فعرفها عليٌّ، فقال هذه درعي، فأنكر الرجل وادعى أنها ملكه، فاختصما إلى القاضي شريح – رحمه الله – فطلب من أمير المؤمنين بينة على دعواه، فلم يكن عنده، عندها حكم القاضي بالدرع لليهودي.
ودهش اليهودي لهذا الحكم الذي لم يكن يتوقعه، وقال: ((أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى لي ورضي، أشهد أن هذه أحكام أنبياء، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله))، واعترف بالدرع لعلي، فقال له علي – رضي الله عنه -: أما قد أسلمت فهي لك، ثم أجازه بتسعمائة درهم، وقاتل معه يوم صفين( ).
ويوجب الإسلام القضاء بالعدل والقسط، ولو كان على النفس، والوالدين، والأقربين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ }( ).
وقال سبحانه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}( ).
ثالثاً: المساواة في الواجبات والحقوق:
أما المساواة في الواجبات، فإن الله عز وجل حينما قرر المساواة بين الناس، وقرر كرامة بني آدم، ألزم الناس كلهم، بدون استثناء، بواجبات بينتها شريعة محمد r، سواء كانت هذه الواجبات حقوقاً خالصة لله تعالى، كالإيمان والعبادات، أو كان للعبد فيها شيء، فالتكاليف الشرعية، كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وبر الوالدين، وغيرها مما هو واجب على كل بالغ عاقل قادر، لا تسقط عن أحد مهما كانت مكانته – إذا توفرت شروطها فيه -، ولو كان يجوز استثناء أحد من هذه التكاليف، لكان أحق الناس بذلك أشرف الأنبياء والمرسلين محمداً r، ولكن التكاليف الشرعية لم تسقط عنه أبداً، فلقد تحامل على نفسه r وهو مريض مرض الموت، حتى صلى الصلاة المفروضة عليه، بل إنه r كان يكلف بتكاليف تزيد عما كلف بها غيره من أفراد أمته، كما يظهر ذلك واضحاً جلياً في وجوب التهجد -أي صلاة الليل-، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}( ).
قال ابن كثير – رحمه الله -: (( وقوله تعالى: “ومن الليل فتهجد به نافلة لك” أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة كما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أيّ الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال “صلاة الليل” ( ).
ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل فإن التهجد ما كان بعد نوم))( ).
ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ(1)قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا(2)نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا(3)أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا(4)}( ).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى حول هذه الآيات: {وكذلك كان صلى الله عليه وسلم ممتثلاً ما أمره الله تعالى به من قيام الليل، وقد كان واجباً عليه وحده}( ).
وأما المساواة في الحقوق، فإن الإسلام ساوى بين الناس في الحقوق العامة والحريات العامة، وهي كثيرة، وسأشير إشارات مختصرة إلى بعض هذه الحقوق، وهي ما يتعلق بحق العمل، وحق التعليم، وحق الزواج.
– حق العمل:
فأما بالنسبة للعمل، فإن الإسلام قد كفل لجميع أفراد الناس الحق في أن يسعوا في تحصيل الرزق، ما دام هذا التحصيل يتم بالوسائل المشروعة التي لا تتنافى مع قواعد الأخلاق والمثل العليا التي أرساها الإسلام، كما أنه أعطى لكل فرد الحق في الراحة بعد عمله، فلا يجوز لأي أحد أن يمنعه من حقه في هذين الأمرين.
فالله سبحانه وتعالى قسم الزمن على هذه الأرض بين ظلام الليل وضياء النهار، وفي هذا إرشاد للخلق إلى أن هناك وقتاً للعمل، وهو النهار، وآخر للراحة، وهو الليل. كما قال عز شأنه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ(71)قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(73)}( ). وكان من نعمة الله -عز وجل- أن يحدث هذا التقسيم للزمن بين الضياء والظلام؛ حتى يكون هناك استمرار للحياة، ويترتب على هذا أن الإنسان له كل الحق في أن يعمل ويرتاح حتى تستمر هذه الحياة( ).
والإسلام قد حث الناس على أن يسعوا في سبيل تحصيل الرزق، فقال تعالى ممتناً على عباده بأن هيأ لهم الأرض: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}( ).
كما أن – الله تبارك وتعالى – أمر بالسعي في سبيل تحصيل الرزق بعد أداء فريضة صلاة الجمعة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(9)فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(10)}( ).
بل إن الله تعالى يجيز لمن ذهب لأداء فريضة الحج أن يزاول أعمال التجارة في وقت أداء الفريضة، فقد روي عن ابن عباس – رضي الله عنه – أنه قال: كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، أسواقاً في الجاهلية فتأثموا في الإسلام أن يتجروا فيها فنزلت الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}( ).
كما أن الإسلام ساوى بين جميع العمال والأجراء – من حيث إعطاؤهم حقوقهم وأجورهم -، فأوجب على أرباب العمل إعطاء العامل أجره فور أدائه لعمله، ما دام قد أداه على الوجه المتفق عليه، {فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ} رواه البخاري( ).
{وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ وَاسْتَعَطَ} متفق عليه( ). وورد في صحيح مسلم( ) عَنِ ابْنِ عَبَّـاسٍ – رضي الله عنهما – قال: {حَجَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْرَهُ وَكَلَّمَ سَيِّدَهُ فَخَفَّفَ عَنْهُ مِنْ ضَرِيبَتِهِ وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: {احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا أَجْرَهُ} رواه مسلم( ).
– حق التعليم:
وأما حق التعليم، فإن الإسلام قد أعلى من شأن العلم وبيّن مكانة أهله، ويتبين هذا الأمر من خلال النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة، فمن ذلك قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}( ).
وقوله سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}( ).
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}( ).
وقوله تبارك وتعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}( ). وقال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}( ).
وقوله عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}( ).
ومن السنة ما ورد عن معاوية – رضي الله عنه – قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ} متفق عليه( ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ} رواه مسلم( ).
وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا} متفق عليه( ).
وعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: {سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ} رواه أبو داود والترمذي( ).
وقد حث الإسلام على طلب العلم، وحث العلماء على تعليم الناس، والدليل على ذلك، قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}( ).
وقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}( ).
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ( ) أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ ( ) لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ} متفق عليه ( ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {.. وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ} رواه مسلم( ).
وجاء في صحيح البخاري ( ): { وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ُ-: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ – الإمام البخاري – وَبَعْدَ أَنْ تُسَوَّدُوا وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِبَرِ سِنِّهِمْ}.
وجاء – أيضاً – في صحيح البخاري( ): {وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبْـهُ فَإِنِّـي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا}.
وقال البخاري – رحمه الله – : {وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ وَقَالَتْ عَائِشَةُ نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ}( ).
وهكذا فإن الإسلام يدعو إلى التعلم والتعليم، ويبين المكانة والمنزلة العظمى للعلم، مما يدل على أن التعليم حق مشاع لكل إنسان.
– حق الزواج:
وأما حق الزواج، فيعتبر من الحقوق التي كفلتها الشريعة الإسلامية للإنسان، ذكراً كان أو أنثى، فقد بينت النصوص الشرعية أن حقه ثابت في هذا الجانب، ومن الأدلة على ذلك:
أولاً: أن الله تعالى قد امتن على عباده بأن خلق لهم أزواجاً من جنسهم الإنساني؛ حتى يميلوا إليهن، وجعل بينهم الحب والعطف، فقال عز وجل {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}( ).
والامتنان من الله نعمة لا يكون إلا إذا كان سبحانه قد أعطى عباده حق تعاطي هذه النعم؛ فالزواج إذاً حق للإنسان.
ثانياً: الإسلام يحث على الزواج، ومن ذلك حديث النبي r الموجه للشباب {يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ} متفق عليه( ).
كما أن النبي r أنكر على من منع نفسه من الزواج، وذلك في حديث الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبي r يسألون عن عبادته، {فَعَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قاَلَ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي} متفق عليه( ).
فإذا كان الإسلام يحث على الزواج، فإن هذا يتضمن أنه أصبح من الحقوق المكفولة، إذ لو لم يكن حقاً لما حثت نصوص الشريعة عليه.
ثالثاً: طلب الإسلام ألا تُزَوّج المرأة إلا بعد إذنها ورضاها بالزواج، سواء أكانت بكراً أم ثيباً، فيقول r في الحديث الذي رواه أبو هريـرة – رضي الله عنه – أن النبي r قال: {لاَ تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ إِذْنُهَا قَالَ أَنْ تَسْكُتَ} متفق عليه( ).
وطلب الإذن من إنسان في أمر دليل على أن هذا الأمر من حقوقه.
رابعاً: أن الإسلام نهى ولي المرأة عن أن يمنعها من الرجوع إلى عصمة زوجها الذي كان قد فارقها، كما في حديث معقل بن يسار( ) -رضي الله عنه- في قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}( ). أنها نزلت فيه، قال: {زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا فَقُلْتُ لَهُ زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا لَا وَاللَّهِ لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ( فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ ) فَقُلْتُ الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ} رواه البخاري( ).
ونهي الولي عن هذا إنما يفيد أن من حقها أن تتزوج.
فهذه الأمور الأربعة تفيد أن الزواج حق من حقوق الإنسان التي بينتها الشريعة الإسلامية( ).
المساواة في الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان:
لقد بدأت فكرة كتابة إعلان عالمي إسلامي لحقوق الإنسان، على غرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في عام 1399هـ-1979م، وتمت الموافقة النهائية على الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان، من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي في عام 1409هـ- 1989م.
وقد نص الإعلان الإسلامي على مبدأ المساواة، ومظاهره وتطبيقاته، في عدة مواد من هذا الإعلان، منها:
المادة الأولى: ((البشر أسرة واحدة، والعبودية لله، والنبوة لآدم( )، وجميع البشر متساوون في الكرامة، وأصل التكليف، والمسؤولية دون تمييز، وأن العقيدة الصحيحة هي الضمان، والخلق كلهم عيال الله، ولا فضل لأحدهم إلا بالتقوى)).
المادة الثانية: ((الحياة هبة الله، وهي مكفولة لكل إنسان..)).
المادة الخامسة: ((الأسرة أساس المجتمع، والزواج أساس تكوينها، وثبوت حق الزواج للرجال والنساء..)).
المادة السادسة: ((المرأة مساوية للرجل في الكرامة، والحقوق، والشخصية، والذمة المستقلة، وعلى الرجل عبء الإنفاق)).
المادة الثامنة ((تمتع الإنسان بالأهلية الشرعية، وقيام الولي عند فقدانها)).
المادة التاسعة: ((العلم فريضة، والتعليم واجب، ويجب التعليم الديني والدنيوي بشكل متوازن)).
المادة الحادية عشر: ((الناس يولدون أحراراً، ويمنع الاستعباد، والقهر، والاستغلال، والاستعمار للشعوب)).
المادة الثالثة عشرة: ((حق العمل تكفله الدولة، مع حرية اختيار العمل اللائق، بأجر عادل، مع الحق بالإجازة، والعلاوة، والترقية، وحق الدولة بالتدخل لفض النزاع، والظلم بين العمال وأرباب العمل)).
المادة الرابعة عشرة: ((للإنسان حق الكسب المشروع دون إضرار..)).
المادة التاسعة عشرة: ((الناس سواسية أمام القضاء، مع الحق المكفول للجميع، والمسؤولية شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بحكم شرعي..)).
المادة الثالثة والعشرون: ((الولاية أمانة بدون استغلال، ولكل إنسان الحق في المشاركة في الأمور العامة، والوظائف))( ).
واقع المساواة عند الغرب:
إذا رجعنا إلى تاريخ أوربا، فيما يسمى بالعصور الوسطى، أي في الوقت الذي كان فيه العالم ينعم بإنسانية الإسلام، سنجد أن أوربا كانت تخضع لنظام من الطبقات يفصل أفراد الأمة بعضها عن بعض، ويجعل منها ثلاث طبقات: النبلاء أو الأشراف، ورجال الدين، والشعب. وكانت هذه الطبقات متميزة محددة المعالم يختلف بعضها عن بعض بصورة واضحة، بحيث لا يخطئ الإنسان معرفتها بمجرد النظر إليها.
وكان نظام المراتب في أوربا مدعوماً بالقانون، فالأشراف والنبلاء طبقة تتوارث الشرف بعضها عن بعض، وكانوا يتمتعون في عهد الإقطـاع بسلطـان مطلق على الشعب الموجود في الإقطاعية، من حيث جباية الضرائب وإصدار العقوبات وتنفيذها، ثم كانوا بعد ذلك السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية.
أما رجال الدين عندهم، فكان لهم ثيابهم الخاصة التي تميزهم، وكان لهم في تلك العصور سلطة كبرى، وكان نفوذ البابا لا يقل عن نفوذ الملوك والأمراء والأشراف، إن لم يزد عليهم جميعاً؛ لأنه هو الذي يمنح لهؤلاء نفوذاً على الشعوب. وكان رجال الدين يشكلون طبقة ممتازة، كما كان للكنيسة أوقافها وإتاواتها وجيوشها في كثير من الأحيان.
أما الشعب – أو الطبقة الدنيا – فكانت عليه الواجبات دون أن تكون له حقوق، وكان يتوارث القيود والذل والفقر والعبودية، كما كان النبلاء يتوارثون النبالة. ولئن تغيرت الأسماء في أوربا، فحلت الطبقة الرأسمالية محل طبقة الأشراف القديمة إلا أن جوهر الأمور لم يتغير، فقد بقيت هذه الطبقة تملك المال والسلطان والقوة التي تسير بها دفة الحكم، على الرغم من مظاهر الحرية التي تتمثل في الانتخابات وغير ذلك من أشكال الديمقراطية( ).
وفي العصر الحاضر، حينما أعلن الغرب -ممثلاً في حضارته- حقوق الإنسان، ومنها حق المساواة، مبدأ وفكرة، نجده قد عجز عن تحقيق هذا المبدأ بين أفراد الناس في عالم الواقع، فالتمييز العنصري ما زال قائماً بشكل واضح من قبل البيض تجاه السود والملونين، في أكثر دول الغرب، خاصة الولايات المتحدة، التي تعد رمز الحضارة الغربية في عصرنا الحاضر، بل إن هذا التمييز شمل حتى دور العبادة عندهم؛ فإلى وقت قريب تجد للبيض كنائسهم وللسود كنائسهم المستقلة.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية، لا تزال تجري مأساة اضطهاد الزنوج، وعدم الاعتراف للعناصر الملونة بالمرتبة الإنسانية التي يتمتع بها الأبيض، ومع أن الزنوج يعتبرون مواطنين في هذه الدولة، إلا أنهم لا يستطيعون أن يمارسوا عملياً حقوق المواطن، كما يمارسها المواطن الأبيض، وفي ذلك يقول أحد رجال السياسة من البيض هناك: ((ليس لأي رجل ملون، يغمر قلبه الرغبة في المساواة السياسية، عمل ما في ولايات الجنوب. إن هذه البلاد ملك للرجل الأبيض ويجب أن تظل كذلك))( ).
فأين هذه التفرقة العنصرية من فعل النبي r ، يوم فتح مكة، حينما أمر بلالاً – رضي الله عنه – ذلك العبد الحبشي، ، من بين أشراف قريش وساداتها، بالصعود إلى سطح الكعبة والصدع بالأذان، ليعلن للناس عقيدة التوحيد التي تساوي بين الناس، دون النظر إلى أي اعتبار آخر.
كما أن مظاهر اضطهاد الزنوج في أمريكا في جميع الميادين، تبدو إلى وقت قريب، فالمدارس تقوم في معظم الولايات، وخاصة الولايات الجنوبية، على أساس الانفصال الكامل بين الزنوج والبيض، فلا يسمح لأطفال الزنوج أن يتعلموا مع أطفال البيض، وإنما لكل فريق مدارسه الخاصة وكتبه الخاصة، وقد رفضت بعض المدارس أوامر حكومة الولايات المتحدة، بتطبيق حكم المحكمة الفيدرالية العليا بالسماح لأبناء الزنوج أن يتعلموا في مدارس البيض، واضطرت الحكومة المركزية إلى أن ترسل الحرس الوطني ليقوم بحراسة أبناء الزنوج الذين سيدخلون هذه المدارس بناء على حكم القضاء، وقد كان موقف بعض أبناء البيض: الإضراب عن تلقي العلم مع هؤلاء( ).
ويفرض على وسائل النقل العامة والمستشفيات أن تقيم عربات أو غرفاً خاصة بالزنوج، وتقضي قوانين بعض الولايات بأن لا يسمح للعمال الزنوج أن يقيموا مع العمال البيض في المصانع أو الدخول من الأبواب المخصصة للبيض.
أما في ميدان الزواج فإن معظم الولايات تمنع زواج البيضاء بالزنجي أو الأبيض بالزنجية، وتنص على بطلان مثل هذا الزواج.
وأما ممارسة الشعائر الدينية فإنها تقوم على الانفصال أيضاً، إذ لا يسمح للزنوج بدخول كنائس البيض، ((وقد حدث أن دخل زنجي من جمهورية بناما كنيسة كاثوليكية في واشنطن، وفيما هو مستغرق في صلاته، سعى إليه أحد القسس وقدم له قصاصة من ورق كتب فيها عنوان كنيسة زنجية كاثوليكية، وحين سئل القس عن سر هذا التصرف، أجاب: إن في المدينة كنائس خاصة بالكاثوليك الزنوج، يستطيع أن يقف فيها بين يدي ربه))( ). فأين هذا مما ذكرنا سابقاً عن المساواة في أداء الصلاة في شريعتنا الإسلامية، حيث يقف الأبيض والأسود جنباً إلى جنب في صف واحد، قد ساوى بينهم الإسلام، بل قد يؤم الأسودُ البيضَ، إذا كانت تتوافر فيه شروط الإمامة.
وأما في مجال المعاملة، فإننا لم ننس بعد سوء معاملة بعض أفراد الشرطة البيض لزنجي في ولاية (لوس أنجلوس) في العام الميلادي (1417هـ-1997م)، حيث انكبوا عليه ضرباً وشتماً، من باب التفرقة العنصرية، مما تسبب في أحداث عنف كبيرة من قبل الزنوج في تلك الولاية، خرجت فيها الولاية بخسائر مالية واجتماعية كبيرة، وقد تحدثت عنها وسائل الإعلام العالمية كثيراً في ذلك الوقت؛ حيث تجلت صورة الإخاء والمساواة بين الناس، لا بل بين النصارى وأبناء الدولة الواحدة، على حقيقتها أمام العالم!!.
وأخيراً فإن هناك تحقيقات وأخباراً عن سوء معاملة بعض العمال في العاصمة الاقتصادية للولايات المتحدة (نيويورك)، حيث تستغل ظروف هجرة بعض العمال إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بطرق غير نظامية، فيسيء أصحاب العمل معاملة هؤلاء العمال، من حيث الأجور الزهيدة، والمسكن السيئ، وساعات العمل الطويلة (تصل إلى سبع عشرة ساعة في اليوم!!)، حتى إن كثيراً من هؤلاء العمال فوجئ بهذه المعاملة، ووصفوا حياتهم بأنها شر من حياة الكلاب( ).
وأختم هذه الفقرة بمقالة لرئيس (مجمع اللغة العربية بالقاهرة)( )، حيث يقول: ((فحقوق الإنسان المهددة اليوم، والتي ندعو إلى حمايتها، واحترامها، قد أقرها الإسلام، وقدسها، منذ أربعة عشر قرناً، فسبق بها، سبقاً بعيداً، عما قال به القرن الثامن عشر، الذي عد قرن حقوق الإنسان، أيدها الإسلام، وثبتها، وجعل منها ديناً ودنيا، وأقامها على دعائم أخلاقية وروحية))( ).
كما أن وثيقة حقوق الإنسان، التي صدرت مع الثورة الفرنسية، ونصت في بدايتها على تساوي الناس في الحقوق، لم يتحقق المراد منها، ولم تطبق عملياً داخل فرنسا نفسها، حتى بين رجال الثورة الفرنسية الذين قتل بعضهم بعضاً، ولم تتحقق عالمياً؛ لأن فرنسا انطلقت في استعمار البلاد، واستنزاف خيرات الأمم، واستعمار الشعوب، وقتل الأفراد( ).
كما أن المساواة المذكورة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، قد سبق الإسلامُ إلى إعلانها والدعوة إليها. ويتبين ذلك فيما يلي:
موقف الإسلام من المساواة:
قبل الحديث عن المساواة في الإسلام، يحسن التعرف على واقع هذه المساواة في الأمم والشرائع السابقة، فبضدها تتميز الأشياء، ولا يقدر قيمة المساواة في الإسلام، إلا من يعرف واقع التمييز والتفاوت بين الناس عند ظهور الإسلام.
ففي الهنـد – مثلاً – سادت الديانة البرهمية، وقسمت الناس إلى أربع طبقات، ومنحت الطبقة الأولى، وهم طبقة البراهمة (وهي طبقة الكهنة، ورجـال الدين) امتيازات وحقوقاً حتى ألحقتهم بالآلهة. وأما الطبقة الثانية فهم طبقة شترى (وهم رجال الحرب). وأما الطبقة الثالثة فهم طبقة ويش (وهم رجال الزراعة والتجارة). وأما الطبقة الرابعة فهم طبقة الشودر (وهم رجال الخدمة) وتعتبر هذه الطبقة في مقام أحط من البهائم( ). يقول الشيخ أبو الحسن الندوي( ) – رحمه الله تعالى -: (إنه لم يُعرف في تاريخ أمة من الأمم نظام طبقي أشد قسوة، وأعظم فصلاً بين طبقة وطبقة، وأشد استهانة بشرف الإنسان من النظام الذي اعترفت به الهند دينياً ومدنياً، وخضعت له آلاف السنين ولا تزال. فقبل ميلاد المسيح –عليه السلام- بثلاثة قرون ازدهرت في الهند الحضارة البرهمية، ووضع فيها مرسوم جديد للمجتمع الهندي، وألف فيه قانون مدني وسياسي اتفقت عليه البلاد، وأصبح قانوناً رسمياً، ومرجعاً دينياً في حياة البلاد ومدنيتها، وهو الذي يعرف الآن ب (منوشاستر) يقسم هذا القانون أهل البلاد إلى أربع طبقات متميزة..) ( ) إلى آخر ما ذكر في كلامـه – رحمه الله -.
وفي بلاد الفرس، كانت الأكاسرة ملوك فارس، يدعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي، وكان الفرس ينظرون إليهم كالآلهة، ويعتقدون أن في طبيعتهم شيئاً علوياً مقدساً، فكانوا يُكَفّرون لهم، وينشدون الأناشيد بألوهيتهم، ويرونهم فوق القانون، وفوق الانتقاد ، وفوق البشر، لا يجري اسمهم على لسانهـم، ولا يجلس أحد في مجلسهم، ويعتقدون أن لهم حقاً على كل إنسان، وليس لإنسان حق عليهم. وكذلك كان اعتقادهم في البيوتات الروحية، والأشراف من قومهم، فيرونهم فوق العامة في طينتهم، وفوق مستوى الناس في عقولهم، ونفوسهم، ويعطونهم سلطة لا حد لها، ويخضعون لهم خضوعاً كاملاً.
يقول البروفسور (أرتهر سين) مؤلف تاريخ (إيران في عهد الساسانيين): (كان المجتمع مؤسساً على اعتبار النسب والحرف، وكان بين طبقات المجتمع هوة واسعة لا يقوم عليها جسر ولا تصل بينها صلة، وكانت الحكومة تحظر على العامة أن يشتري أحد منهم عقاراً لأمير أو كبير، وكان من قواعد السياسة الساسانية أن يقنع كل واحد بمركزه الذي منحه نسبه، ولا يستشرف لما فوقه، ولم يكن لأحد أن يتخذ حرفة غير الحرفة التي خلقه الله لها. وكان ملوك إيران لا يولون وضيعاً وظيفة من وظائفهم، وكان العامة كذلك طبقات متميزة بعضها عن بعض تميزاً واضحاً. وكان لكل واحد مركز محدد في المجتمع)( ).
وكان التفاضل عند الإغريق (وهم قدماء اليونان) قائماً، فقد كانوا يعتقدون أنهم شعب خصهم الخالق بكريم الصفات الإنسانية، من عقل وإرادة، وأن غيرهم من سائر البشر لم يشاركوهم في كريم صفاتهم الإنسانية؛ ولذلك فقد كانوا يطلقون على غيرهم من الشعوب اسم البرابرة، إشارة إلى أن مرتبة كل الشعوب لا تستطيع أن تسمو إلى مرتبتهم في الصفات الإنسانية الكاملة، وأصبحوا ينظرون إلى من أسموهم البرابرة نظرة احتقار وازدراء، بالرغم من أنهم لا يختلفون عن اليونان إلا في اللغة والعادات( ).
وكان فيلسوفهم (أرسطو( )) يؤكد أن هؤلاء البرابرة لم يخلقوا إلا ليقرعوا بالعصا ويستذلهم ويستعبدهم شعب اليونان.
كما أنه يسود عندهم نظام طبقي لا مساواة فيه بين البشر، فهناك أحرار وأرقاء، للأحرار كل الحقوق السياسية لا تفرقة بينهم من حيث الثروة أو المركز الاجتماعي في التأثير في مساهماتهم في الحياة السياسية أو تقلدهم الوظائف العامة، وأما الأرقاء وهم الأكثر عدداً بالنسبة لهؤلاء الأحرار، فليس لهم أدنى الحقوق وإنما هم مبعدون عن أي نشاط في هذا المجتمع( ).
(وأما الرومان فقد اعتبروا أنفسهم أوصياء على الإنسانية كلها، وبسطوا سلطانهم بحد السيف على الكثير من شعوب الدنيا، واستعملوا في سبيل ذلك كل الوسائل التي توصلهم إلى ما يبتغونه، سواء أكانت هذه الوسائل شريفة أم حقيرة، واستطاعوا في النهاية أن يسيطروا على معظم أجزاء العالم معتبرين أنفسهم سادته.
ولم تكن قوانينهم ونظمهم تساوي بين الرومان وغيرهم من سائر الشعوب التي يتحكمون في مصائرها. وإنما يعتبرون غير الروماني من طبقة أدنى من طبقة الرومان ليس له الحقوق التي يتمتع بها هؤلاء، وإنما قد خلق ليكون رقيقاً يخدم فقط وليس من حقه التطلع إلى ما وراء ذلك.
ولذلك فإنهم انطلاقاً من هذا المعتقد وضعوا نوعين متباينين من القوانين، أحدهما: القانون المدني، وهو خاص بالشعب الروماني نفسه. وثانيهما: قانون الشعوب، وهو خاص بسكان البلاد التي احتلها الرومان)( ).
وأما اليهود فقد حرفوا وغيروا وبدلوا في التوراة التي أنزلت على نبي الله موسى – عليه السلام -، واخترعوا مبادئ وقيماً غريبة محرفة، وكتبوا خرافات وأوهاماً يريدون بها أن يرفعوا من شأن أنفسهم ويحطوا من شأن سائر البشر، فهم يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار يحق لهم ما لا يحق لغيرهم من بني الإنسان الذين ينظرون إليهم باعتبار أنهم نوع وضيع منحط عن أفراد الشعب اليهودي، واستباحوا لأنفسهم أن يغشّوا غير اليهودي، في الوقت الذي يحرمون فيه أن يغش اليهودي يهودياً مثله؛ لأن غير اليهودي لم يخلق إلا ليكون خادماً لليهودي. وتنص تعاليمهم على أن اليهودي يجب أن ينصف اليهودي الآخر إذا فرض وتخاصم إليه مع غير يهودي، سواء أكان إنصافه لليهودي بحق أو بغير حق( ).
وأما العرب في جاهليتهم قبل ظهور الإسلام، فكان عدم المساواة متجلياً في حياتهم في ناحيتين:
الناحية الأولى: مجال العلاقات بينهم وبين غيرهم من سائر الشعوب الأخرى. فالعربي في جاهليته كان يعتقد أنه من أصل مختلف عن أصل بقية الأمم الأخرى، حيث يرى نفسه كامل الإنسانية، في حين أن الأمم الأخرى التي كانوا يطلقون عليها اسم الأعاجم ليست كاملة الإنسانية، بل هي وضيعة الأصل وناقصة الإنسانية مما لا يجيز لها أن تدعي أنها في مستوى الشعب العربي. ولهذا الاعتقاد أثره من ناحية المصاهرة، فإن العربي في جاهليته، متمشياً مع ما ورثه من هذه التقاليد والعقائد، كان يرفض أن يصاهر غير العربي ولو كان متقلداً أسمى المراتب في قومه الأعاجم.
وكان رفض أحد رجال العرب( ) أن يزوج ابنته من أحد ملوك الفرس( ) سبباً في معركة (ذي قار) التي وقعت بين العرب والفرس وانتهت بانتصار العرب.
الناحية الثانية: مجال العلاقات بين العرب أنفسهم بعضهم بعضاً، وهذا الأمر يتجلى في علاقة الحكام بمحكوميهم وفي نظرة قريش لنفسها وقت الحج.
فأما علاقة حكام العرب بمحكوميهم فقد كان يشوبها في حالات متعددة نوع من التجبر والطغيان. فقد عرفت الجزيرة العربية قبل الإسلام ضروباً من الطغيان والاستبداد لا تقل عن ضروبه المشهورة التي عرفت في الشعوب الأخرى، فبعض قبائل البادية والحاضرة قد سادها زعماء يقيسون عزتهم بمبلغ اقتدارهم على إذلال غيرهم.
ومن ذلك ما ورد في المثل القائل: (لا حر بوادي عوف )، حيث إن عوفاً هذا كان يقهر من حل بواديه، فكل من فيه كالعبد له لطاعتهم إياه.
ومن مظاهر الطبقية وعدم المساواة عند العرب ما يتعلق بالديات، فدية الشريف أضعاف دية الرجل الذي دونه في الجاهلية، وكانت دية النضري -مثلاً- ضعف دية القرظي، وإذا قتل الشريف تجاوزوا قاتله إلى أحد الأشراف، وربما لم يرضوا إلا بعدد يقتلونهم، وقال أحدهم عن كليب الذي قُتل ووقع بُجير – ابن زعيم القبيلة – في الأسر لقتله، فقالوا: (بُجير بِشسْع كُليب)( ).
وفي سبب نزول قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}( ) ما ذكر عن سعيد بن جبير – رحمه الله -: (كان بدء ذلك في حيين من العرب اقتتلوا قبل الإسلام بقليل، وكان لأحد الحيّين فضل على الآخر، فأقسموا بالله ليقتلن بالأنثى الذكر، وبالعبد منهم الحر، فلما نزلت هذه الآية رضوا وسلموا)( ).
وأما نظرة قريش إلى نفسها وقت الحج، فإن قريشاً قبل الإسلام كانت تفرض لنفسها مرتبة خاصة وحقوقاً وتقاليد ليست لسائر العرب، وتقف في الحج بالمزدلفة حين يقف الناس جميعاً بعرفات ( )، ويقيم القرشيون على هذه الامتيازات منافع اقتصادية يفرضونها على سائر العرب، فيُحتِّمون ألا يطوفوا بالبيت إلا في ملابس يشترونها من قريش وإلا طافوا بالبيت عراة( ).
في هذا الوقت الذي بعض الملل والنحل والأديان تفرق الشعوب إلى طبقات خلق بعضها من رأس الآلهة فهي مقدسة، وخلق بعضها من قدميه فهي منبوذة. وفي هذا الوقت الذي كان بعض الناس يدّعون ويصدّقون أنهم من نسل الآلهة، وبعضهم يدّعي أن الدماء التي تجري في عروقه ليست من دماء العامة، وإنما هو الدم الأزرق الملوكي النبيل.
في هذا الوقت جاء الإسلام ليقرر وحدة الجنس البشري في أصل المنشأ والمصير، في المحيا والممات، في الحقوق والواجبات، أمام القانون وأمام الله، في الدنيا والآخرة، لا فضل إلا بالعمل الصالح ولا كرامة إلا للأتقى.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد: ( لم تعلن في ثورات ( ) العالم الدينية حقوق عامة للإنسان قبل ثورة الإسلام في القرن السادس للميلاد؛ لأن الإنسان نفسه لم يكن عاماً، فيوليه الدين حقوقاً عامة، وإنما ولد هذا الإنسان العام يوم آمن الناس بإله يتساوى لديه كل إنسان، وكل الناس، ويوم نيطت حقوقه وواجباته بغير تفرقة بين قبيل وقبيل )( ).
فالله الخالق سبحانه وتعالى لم ينسل أحداً، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا(88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا( )(89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا(90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا(91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا(92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا(93)}( ).
وقال عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1) اللَّهُ الصَّمَدُ(2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)}( ).
كما أنه ليس هناك دم أزرق ولا دم عادي، ولم يخلق أحدٌ من رأس، وخلق آخر من قدم، بل أصل الإنسانية واحد وهو التراب.
قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا}( ).
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}( ).
وقال عز وجل: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ(22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ(23)}( ).
وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ(7)}( ).
فالإسلام يحترم الإنسان ويكرمه من حيث هو إنسان، دون اعتبار لجنسه، أو قبيلته، أو بلده، أو نسبه، أو لونه. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}( ).
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}( ).
فالإسلام قد برئ من العصبية القبلية أو العنصرية، إلى جانب براءته من عصبية النسب والأسرة، فللناس جميعاً في المجتمع المسلم كرامتهم التي لا يجوز أن تمس، ولا أن يسخر منها أحد، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ولاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ولاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ولاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ( ).
وللناس جميعاً، في المجتمع المسلم، حرمتهم وحرمة منازلهم، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ( ).
وقال سبحانه: {وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً}( ).
فالإسلام يؤكد معنى المساواة المطلقة في كل ناحية من حياة الناس الوجدانية والاجتماعية، دون اعتبار للعنصر، أو القبيلة، أو البيت، أو المنصب.
وحين كان بعض ذوي الثراء والنسب يأنف أن يزوج أو يتزوج من الفقراء والفقيرات، جاء الأمر من الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}( ).
(قد يختلف الناس في أجناسهم وعناصرهم، فيكون منهم الآري، والسامي والحامي، والعربي والعجمي. وقد يختلفون في أنسابهم وأحسابهم، فيكون منهم من ينتهي إلى أسرة عريقة في المجد، ومن ينتهي إلى أسرة صغيرة مغمورة في الناس.
وقد يتفاوت الناس في ثرواتهم، فيكون منهم الغني، ومنهم الفقير، ومنهم المتوسط الحال. وقد يتفاوتون في أعمالهم ومناصبهم، فيكون منهم الحاكم والمحكوم، ويكون منهم المهندس الكبير، والعامل الصغير، ويكون منهم أستاذ الجامعة، والحارس ببابها.
ولكن هذا الاختلاف أو التفاوت لا يجعل لواحد منهم قيمة إنسانية أكبر من قيمة الآخر، بسبب جنسه، أو لونه، أو حسبه، أو ثروته، أو عمله، أو طبقته، أو أي اعتبار آخر.
إن القيمة الإنسانية واحدة للجميع، فالعربي إنسان، والعجمي إنسان، والأبيض إنسان، والأسود إنسان، والحاكم إنسان، والمحكوم إنسان، والغني إنسان، والفقير إنسان، ورب العمل إنسان، والعامل إنسان، والرجل إنسان، والمرأة إنسان، والحر إنسان، والعبد إنسان، وما دام الكل إنساناً فهم إذاً سواسية كأسنان المشط الواحد)( ) لا يتفاضلون إلا بالتقوى والإيمان والعمل الصالح.
ولم يكن الحديث، عن المساواة في الإسلام، حديثاً نظرياً مجرداً، بل كان مطبقاً تطبيقاً عملياً.
فها هو النبيr يساوي نفسه بالناس، ويعلن دائماً أنه بشر كسائر البشر، ويخاف أن ينقلب حب المسلمين له إلى عبادة أو تفضيل، فنهاهـم بقولـه r {لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } رواه البخاري( ).
{وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلاَلِهَا} رواه مسلم( ).
وخاطب الرسولr عمته وابنته في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها قالت: {لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا فَقَالَ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ} رواه مسلم( ).
وحين أنكر زعماء العرب من قريش هذا المبدأ، مبدأ المساواة، وأنفوا أن يجلسوا مع بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي -رضي الله عنهم- وسواهم من عامة الناس، وطلبوا من الرسول r أن يطردهم عنه ليحضروا مجلسه وليسمعوا وعظه، رفض الرسول ذلك، فعرضوا عليه أن يجعل لهم يوماً ولأولئك يوماً، وكاد الرسول r أن يستجيب لرغبتهم – طمعاً باستمالتهـم للإسـلام – عندئذ نزل الوحي يوجه النبي r {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}( ).
(وحين أصابت محمداً الإنسان لحظة ضعف بشري، فانصرف عن الرجل الفقير ابن أم مكتوم إلى الوليد بن المغيرة سيد قومه، عاجله العتاب الشديد الذي يشبه التأنيب ليرد للمساواة المطلقة معاييرها الكاملة، قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى(1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى(2)( )})( ).
كما أن الإسلام حارب العصبية الجاهلية القائمة على الجنس والعنصرية التي كانت سائدة في الجزيرة العربية، وظهرت ظلالها في بعض أحقاب التاريخ القديم والمعاصر، فَعَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ( ) يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ} رواه مسلم( ).
{ وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ} رواه أبو داود( ).
وَقَالَ النَّبِيُّ r : {مَنْ أَعَانَ قَوْمَهُ عَلَى ظُلْمٍ فَهُوَ كَالْبَعِيرِ الْمُتَرَدِّي يَنْزِعُ بِذَنَبِه} رواه الإمام أحمد( ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ( ) الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ( ) الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ} رواه الإمام أحمد( ) وأبو داود واللفظ له( ) والترمذي وقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ( ).
ونذكر هنا بعض الأمثلة الحية من حياة النبي r في تربيته لأصحابه، رضوان الله عليهم، للقضاء على كل بقايا الطبقية والعصبية الجاهلية المترسبة في نفوسهم، وتأكيد مبدأ المساواة، منها ما يلي:
لما اختلف الصحابي أبو ذر الغفاري (العربي الأصيل) مع بلال (الحبشي المولى)، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، احتد أبو ذر، وقال له: يا ابن السوداء (يعيره بأمه السوداء)! ووصل الخبر إلى رسول الله r فغضب غضباً شديداً، واستدعى المتنازعين، وقال {طفَّ الصاعُ، طفَّ الصاعُ، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى، أو بعمل صالح }. وهنا تأثر أبو ذر، رضي الله عنه، وتحرك فيه الباعث الديني والإيمان الصحيح، والتربية النبوية، فوضع خده على الأرض، وقال لبلال: ((قم فطأ عليه))( ).
وورد في رواية أخرى في البخاري: {عَنِ الْمَعْرُورِ ابْنُ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ عَلَيْهِ بُرْدًا وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْدًا فَقُلْتُ لَوْ أَخَذْتَ هَذَا فَلَبِسْتَهُ كَانَتْ حُلَّةً وَأَعْطَيْتَهُ ثَوْبًا آخَرَ فَقَالَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلَامٌ وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَنِلْتُ مِنْهَا فَذَكَرَنِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي أَسَابَبْتَ فُلَانًا قُلْتُ نَعَمْ قَالَ أَفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ قُلْتُ عَلَى حِينِ سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ قَالَ نَعَمْ هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا يُكَلِّفُهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ}( ).
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: {كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ( ) رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ يَا لَلْأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَسَمَّعَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا هَذَا فَقَالُوا كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ يَا لَلْأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ قَالَ جَابِرٌ وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ ثُمَّ كَثُرَ الْمُهَاجِرُونَ بَعْدُ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَوَقَدْ فَعَلُوا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ} متفق عليه( ).
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: {كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِي فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ فَقَالَ أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ}رواه مسلم( ).
وَعَنْ أَبِي عُقْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ مَوْلًى مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، قَالَ: {شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحُدًا فَضَرَبْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقُلْتُ خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلَامُ الْفَارِسِيُّ فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فَهَلَّا قُلْتَ خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيُّ} رواه الإمام أحمد( )، وأبو داود( )، وابن ماجه( )، وضعفه الألباني( ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ} رواه مسلم( ).
وهكذا نجد أن الإسلام ألغى – تأكيداً لمبدأ المساواة – كل نوع من أنواع العصبية والتفاخر بالأرض أو بالنسب أو بالقبلية الجاهلية، وجعل الآصرة التي تجمعهم هي آصرة الإيمان والاجتماع على هذا الدين العظيم. يقول عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}( ).
وهكذا (جاء الإسلام، فوجد الناس يتجمعون على آصرة النسب، أو يتجمعون على آصرة الجنس، أو يتجمعون على آصرة الأرض، أو يتجمعون على آصرة المصالح والمنافع القريبة، وكلها عصبيات لا علاقة لها بجوهر الإنسان، إنما هي أعراض طارئة على جوهر الإنسان الكريم، وقال الإسلام كلمته الحاسمة في هذا الأمر الخطير الذي يحدد علاقات الناس بعضهم ببعض تحديداً أخيراً، قال: إنه لا لون، ولا جنس، ولا نسب، ولا أرض، ولا مصالح ولا منافع، هي التي تجمع بين الناس أو تفرق، إنما هي العقيدة..
إن آصرة المجتمع هي العقيدة؛ لأن العقيدة هي أكرم خصائص الروح الإنسانية، فأما إذا بُتَّت هذه الوشيجة فلا آصرة ولا تجمع ولا كيان. إن الإنسانية يجب أن تتجمع على أكرم خصائصها، لا على مثل ما تتجمع عليه البهائم من الكلأ والمرعى..
والأمة هي المجموعة من الناس تربط بينها آصرة العقيدة، وهي جنسيتها، وإلا فلا أمة؛ لأنه ليست هناك آصرة تجمعها، والأرض والجنس واللغة والنسب والمصالح المادية القريبة لا تكفي واحدة منها ولا تكفي كلها لتكوين أمة، إلا أن تربط بينها رابطة العقيدة)( ).
بعض مظاهر المساواة في الإسلام:
أولاً: المساواة في الشعائر التعبدية:
نذكر مظهرين من مظاهر المساواة في الشعائر التعبدية، وهما: الصلاة، ومناسك الحج والعمرة.
أ – الصلاة: ففي المسجد نرى المساواة بصورتها العملية – حيث تقام صلاة الجمعة والجماعة؛ حيث تزول كل الفوارق التي تميز بين الناس، فمن ذهب إلى المسجد أولاً أخذ مكانه في مقدمة الصفوف، وإن كان فقيراً ضعيفاً، ومن ذهب متأخراً إلى المسجد تأخر مكانه مهما كان منصبه وجاهه. وفي المسجد يلتقي الأبيض بالأسود، والشريف بالوضيع، والغني بالفقير، والعالم بالأمي، والحاكم بالمحكوم، لا فرق بين واحد وآخر، فكلهم سواسية أمام الله، يلتقون على صعيد واحد من العبودية لله عز وجل والخشوع بين يديه، فكلهم سواسية أمام الله، في قيامهم وقعودهم وركوعهم وسجودهم. قبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، وربهم واحد، وحركاتهم واحدة، خلف إمام واحد( ).
ب – مناسك الحج والعمرة: وفي المشاعر المقدسة -حيث تؤدى مناسك الحج والعمرة- تتحقق المساواة بصورة أشد وضوحاً وظهوراً، حيث تلتقي العناصر البشرية المؤمنة كلها، من بيضاء وملونة، على صعيد واحد وبثياب واحدة؛ لأن شعيرة الإحرام تفرض على الحجاج والمعتمرين، أن يتجردوا من ملابسهم العادية، ويلبسوا ثياباً بيضاء لم يدخلها التكلف والتفصيل، شبيهة بأكفان الموتى، يستوي فيها الملك والسوقة، والأبيض والأسود، والغني والفقير، وينطلق الجميع ملبين بهتاف واحد (لبيك اللّهم لبيك). مبتهلين إلى رب واحد، معظمين لشعائره لا فرق بين سيد ومسود، ولا بين آمر ومأمور، ولا أبيض وأسود( ).
ثانياً: المساواة أمام القضاء:
ومن مظاهر المساواة في الإسلام المساواة في التقاضي، فحق التقاضي عام لجميع مواطني الدولة الإسلامية، والمسلمون في هذا الحق سواسية كأسنان المشط، فمن حق كل إنسان مراجعة القضاء للمطالبة بحقه، أو لحمايته، أو الدفاع عن نفسه، وماله، وعرضه، ودينه؛ ولذلك يتساوى الحكام والمحكومون أمام القضاء.
كما أن الخلفاء والولاة والأمراء والأشراف تحت سلطة التقاضي، إذا رفعت عليهم دعوى، أو صدر منهم ظلم، وتطبق عليهم الحدود والأحكام، والأمثلة على المساواة أمام القضاء كثيرة من السيرة النبوية وسيرة سائر الخلفاء، تحقيقاً لقول الله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}( ).
فمن الأمثلة على ذلك، ما ورد عن الصحابة -رضوان الله عليهم- حينما حاولوا أن يُشفِّعوا أسامة بن زيد -حب رسول اللهr وابن حبه- في المرأة المخزومية التي سرقت، فاستحقت أن يقام عليها حد السرقة، فكلمه فيها أسامة رضي الله عنه، فغضب رسول الله r غضباً شديداً، وقال: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، كما وردت هذه القصة في الصحيحين( ):
{فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا}.
ومن الأمثلة – أيضاً – على مبدأ المساواة، ما ورد عن الخليفة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه -، حينما ولى رجلاً على اليمن، فأتاه رجل أقطع اليد والرجل، فذكر أن والي اليمن ظلمه، فقال: ((إن كان ظلمك لأقيدن منه))( ).
ونقل الشافعي – رحمه الله – عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال: ((رأيت رسول الله r يعطي القود من نفسه، وأبا بكر يعطي القود من نفسه، وأنا أعطي القود من نفسي))( ).
ومن الأمثلة – كذلك – على مبدأ المساواة، ما حدث في عهد عمر بن الخطاب – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – حينما لطم جبلةُ بن الأيهم -الأميرُ الغساني- الأعرابيَّ، بغير حق، فشكاه إلى عمر بن الخطاب، فلم يسع عمر-رضي الله عنه- إلا أن يحضر جبلة، ويطلب إليه أن يمَكِّن الأعرابي ليقتص منه، لطمة بلطمة، إلا أن يعفو ويصفح، وعز على الأمير الغساني أن يفعل ذلك، وقال لعمر: كيف يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة ؟ فقال له عمر: إن الإسلام قد سوى بينكما.
فلم يسع الأمير الغساني هذا المعنى الكبير والمبدأ العظيم، فخرج من المدينة هارباً مرتداً عن الإسلام الذي يفرض المساواة بين الملك والسوقة أمام شرع الله تعالى. ولم يبال عمر ولا الصحابة – رضوان الله عليهم – بارتداد هذا الأمير؛ لأن خسارة رجل مهما كان منصبه وجاهه، لا تقارن ولا تقاس بخسارة مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام( ).
كما يوجب الإسلام المساواة في التقاضي بين المسلم وغير المسلم، ويوجب إقامة الحق والعدل مهما كانت العداوة بين الأفراد، أو مع الحاكم، كما قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}( ).
وقد ضرب الخلفاء الراشدون -رضوان الله عليهم- أروع الأمثلة على هذا الأمر.
فهذا عمر يستدعي واليه على مصر عمرو بن العاص وابنه – رضوان الله عليهم -، حين ضرب ابنه ابن القبطي – الذي اشتكى طالباً العدل والنصفة – متطاولاً عليه بأنه ابن الأكرمين، ثم يأمر عمرُ ابنَ القبطي أن يضرب ابنَ عمرو ابن العاص كما ضربه، ثم قال لعمرو مقولته الشهيرة: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟؟!!)( ).
(ومما يلفت الانتباه ويجدر بالتسجيل هنا، موقف القبطي وسفره من مصر إلى المدينة على بعد المسافة، ومشقة الطريق، وضعف الوسائل، وقد كان هذا القبطي، وألوف أمثاله، يُضربون، ويُعذبون، ويُضرب أبناؤهم، وأهلوهم في عهد الرومان، فما يرفعون بالشكاية رأساً ولا يحركون ساكناً.
ترى ما الذي طرأ عليهم؟ وما الذي غيّر من نظرتهم، وجعلهم يحسون بالظلم، ويشكون منه، ويركبون الصعب في سبيل الانتصاف لأنفسهم؟؟ إنه الإسلام بلا ريب..، الإسلام أشعرهم بكرامتهم الإنسانية، وأفهمهم أن لهم حقوقاً يجب أن تُرعى، مثلما أن عليهم واجبات يجب أن تؤدى، وعرفوا أن هذه المبادئ الإنسانية الجديدة ليست حبراً على ورق، ولا مجرد لافتات للدعاية، وإنما هي دين يجب أن يحترم وينفّذ.
فلا عجب أن قطع الرجل الفيافي، ليطالب بحقه ويسترد كرامته التي صانها له الإسلام)( ).
وخصومة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -، حينما كان خليفة، مع الرجل اليهودي، بعدما سقطت درع له فالتقطها اليهودي، فعرفها عليٌّ، فقال هذه درعي، فأنكر الرجل وادعى أنها ملكه، فاختصما إلى القاضي شريح – رحمه الله – فطلب من أمير المؤمنين بينة على دعواه، فلم يكن عنده، عندها حكم القاضي بالدرع لليهودي.
ودهش اليهودي لهذا الحكم الذي لم يكن يتوقعه، وقال: ((أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى لي ورضي، أشهد أن هذه أحكام أنبياء، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله))، واعترف بالدرع لعلي، فقال له علي – رضي الله عنه -: أما قد أسلمت فهي لك، ثم أجازه بتسعمائة درهم، وقاتل معه يوم صفين( ).
ويوجب الإسلام القضاء بالعدل والقسط، ولو كان على النفس، والوالدين، والأقربين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ }( ).
وقال سبحانه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}( ).
ثالثاً: المساواة في الواجبات والحقوق:
أما المساواة في الواجبات، فإن الله عز وجل حينما قرر المساواة بين الناس، وقرر كرامة بني آدم، ألزم الناس كلهم، بدون استثناء، بواجبات بينتها شريعة محمد r، سواء كانت هذه الواجبات حقوقاً خالصة لله تعالى، كالإيمان والعبادات، أو كان للعبد فيها شيء، فالتكاليف الشرعية، كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وبر الوالدين، وغيرها مما هو واجب على كل بالغ عاقل قادر، لا تسقط عن أحد مهما كانت مكانته – إذا توفرت شروطها فيه -، ولو كان يجوز استثناء أحد من هذه التكاليف، لكان أحق الناس بذلك أشرف الأنبياء والمرسلين محمداً r، ولكن التكاليف الشرعية لم تسقط عنه أبداً، فلقد تحامل على نفسه r وهو مريض مرض الموت، حتى صلى الصلاة المفروضة عليه، بل إنه r كان يكلف بتكاليف تزيد عما كلف بها غيره من أفراد أمته، كما يظهر ذلك واضحاً جلياً في وجوب التهجد -أي صلاة الليل-، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}( ).
قال ابن كثير – رحمه الله -: (( وقوله تعالى: “ومن الليل فتهجد به نافلة لك” أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة كما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أيّ الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال “صلاة الليل” ( ).
ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل فإن التهجد ما كان بعد نوم))( ).
ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ(1)قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا(2)نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا(3)أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا(4)}( ).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى حول هذه الآيات: {وكذلك كان صلى الله عليه وسلم ممتثلاً ما أمره الله تعالى به من قيام الليل، وقد كان واجباً عليه وحده}( ).
وأما المساواة في الحقوق، فإن الإسلام ساوى بين الناس في الحقوق العامة والحريات العامة، وهي كثيرة، وسأشير إشارات مختصرة إلى بعض هذه الحقوق، وهي ما يتعلق بحق العمل، وحق التعليم، وحق الزواج.
– حق العمل:
فأما بالنسبة للعمل، فإن الإسلام قد كفل لجميع أفراد الناس الحق في أن يسعوا في تحصيل الرزق، ما دام هذا التحصيل يتم بالوسائل المشروعة التي لا تتنافى مع قواعد الأخلاق والمثل العليا التي أرساها الإسلام، كما أنه أعطى لكل فرد الحق في الراحة بعد عمله، فلا يجوز لأي أحد أن يمنعه من حقه في هذين الأمرين.
فالله سبحانه وتعالى قسم الزمن على هذه الأرض بين ظلام الليل وضياء النهار، وفي هذا إرشاد للخلق إلى أن هناك وقتاً للعمل، وهو النهار، وآخر للراحة، وهو الليل. كما قال عز شأنه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ(71)قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(73)}( ). وكان من نعمة الله -عز وجل- أن يحدث هذا التقسيم للزمن بين الضياء والظلام؛ حتى يكون هناك استمرار للحياة، ويترتب على هذا أن الإنسان له كل الحق في أن يعمل ويرتاح حتى تستمر هذه الحياة( ).
والإسلام قد حث الناس على أن يسعوا في سبيل تحصيل الرزق، فقال تعالى ممتناً على عباده بأن هيأ لهم الأرض: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}( ).
كما أن – الله تبارك وتعالى – أمر بالسعي في سبيل تحصيل الرزق بعد أداء فريضة صلاة الجمعة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(9)فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(10)}( ).
بل إن الله تعالى يجيز لمن ذهب لأداء فريضة الحج أن يزاول أعمال التجارة في وقت أداء الفريضة، فقد روي عن ابن عباس – رضي الله عنه – أنه قال: كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، أسواقاً في الجاهلية فتأثموا في الإسلام أن يتجروا فيها فنزلت الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}( ).
كما أن الإسلام ساوى بين جميع العمال والأجراء – من حيث إعطاؤهم حقوقهم وأجورهم -، فأوجب على أرباب العمل إعطاء العامل أجره فور أدائه لعمله، ما دام قد أداه على الوجه المتفق عليه، {فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ} رواه البخاري( ).
{وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ وَاسْتَعَطَ} متفق عليه( ). وورد في صحيح مسلم( ) عَنِ ابْنِ عَبَّـاسٍ – رضي الله عنهما – قال: {حَجَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْرَهُ وَكَلَّمَ سَيِّدَهُ فَخَفَّفَ عَنْهُ مِنْ ضَرِيبَتِهِ وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: {احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا أَجْرَهُ} رواه مسلم( ).
– حق التعليم:
وأما حق التعليم، فإن الإسلام قد أعلى من شأن العلم وبيّن مكانة أهله، ويتبين هذا الأمر من خلال النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة، فمن ذلك قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}( ).
وقوله سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}( ).
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}( ).
وقوله تبارك وتعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}( ). وقال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}( ).
وقوله عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}( ).
ومن السنة ما ورد عن معاوية – رضي الله عنه – قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ} متفق عليه( ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ} رواه مسلم( ).
وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا} متفق عليه( ).
وعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: {سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ} رواه أبو داود والترمذي( ).
وقد حث الإسلام على طلب العلم، وحث العلماء على تعليم الناس، والدليل على ذلك، قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}( ).
وقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}( ).
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ( ) أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ ( ) لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ} متفق عليه ( ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {.. وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ} رواه مسلم( ).
وجاء في صحيح البخاري ( ): { وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ُ-: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ – الإمام البخاري – وَبَعْدَ أَنْ تُسَوَّدُوا وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِبَرِ سِنِّهِمْ}.
وجاء – أيضاً – في صحيح البخاري( ): {وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبْـهُ فَإِنِّـي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا}.
وقال البخاري – رحمه الله – : {وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ وَقَالَتْ عَائِشَةُ نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ}( ).
وهكذا فإن الإسلام يدعو إلى التعلم والتعليم، ويبين المكانة والمنزلة العظمى للعلم، مما يدل على أن التعليم حق مشاع لكل إنسان.
– حق الزواج:
وأما حق الزواج، فيعتبر من الحقوق التي كفلتها الشريعة الإسلامية للإنسان، ذكراً كان أو أنثى، فقد بينت النصوص الشرعية أن حقه ثابت في هذا الجانب، ومن الأدلة على ذلك:
أولاً: أن الله تعالى قد امتن على عباده بأن خلق لهم أزواجاً من جنسهم الإنساني؛ حتى يميلوا إليهن، وجعل بينهم الحب والعطف، فقال عز وجل {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}( ).
والامتنان من الله نعمة لا يكون إلا إذا كان سبحانه قد أعطى عباده حق تعاطي هذه النعم؛ فالزواج إذاً حق للإنسان.
ثانياً: الإسلام يحث على الزواج، ومن ذلك حديث النبي r الموجه للشباب {يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ} متفق عليه( ).
كما أن النبي r أنكر على من منع نفسه من الزواج، وذلك في حديث الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبي r يسألون عن عبادته، {فَعَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قاَلَ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي} متفق عليه( ).
فإذا كان الإسلام يحث على الزواج، فإن هذا يتضمن أنه أصبح من الحقوق المكفولة، إذ لو لم يكن حقاً لما حثت نصوص الشريعة عليه.
ثالثاً: طلب الإسلام ألا تُزَوّج المرأة إلا بعد إذنها ورضاها بالزواج، سواء أكانت بكراً أم ثيباً، فيقول r في الحديث الذي رواه أبو هريـرة – رضي الله عنه – أن النبي r قال: {لاَ تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ إِذْنُهَا قَالَ أَنْ تَسْكُتَ} متفق عليه( ).
وطلب الإذن من إنسان في أمر دليل على أن هذا الأمر من حقوقه.
رابعاً: أن الإسلام نهى ولي المرأة عن أن يمنعها من الرجوع إلى عصمة زوجها الذي كان قد فارقها، كما في حديث معقل بن يسار( ) -رضي الله عنه- في قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}( ). أنها نزلت فيه، قال: {زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا فَقُلْتُ لَهُ زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا لَا وَاللَّهِ لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ( فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ ) فَقُلْتُ الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ} رواه البخاري( ).
ونهي الولي عن هذا إنما يفيد أن من حقها أن تتزوج.
فهذه الأمور الأربعة تفيد أن الزواج حق من حقوق الإنسان التي بينتها الشريعة الإسلامية( ).
المساواة في الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان:
لقد بدأت فكرة كتابة إعلان عالمي إسلامي لحقوق الإنسان، على غرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في عام 1399هـ-1979م، وتمت الموافقة النهائية على الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان، من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي في عام 1409هـ- 1989م.
وقد نص الإعلان الإسلامي على مبدأ المساواة، ومظاهره وتطبيقاته، في عدة مواد من هذا الإعلان، منها:
المادة الأولى: ((البشر أسرة واحدة، والعبودية لله، والنبوة لآدم( )، وجميع البشر متساوون في الكرامة، وأصل التكليف، والمسؤولية دون تمييز، وأن العقيدة الصحيحة هي الضمان، والخلق كلهم عيال الله، ولا فضل لأحدهم إلا بالتقوى)).
المادة الثانية: ((الحياة هبة الله، وهي مكفولة لكل إنسان..)).
المادة الخامسة: ((الأسرة أساس المجتمع، والزواج أساس تكوينها، وثبوت حق الزواج للرجال والنساء..)).
المادة السادسة: ((المرأة مساوية للرجل في الكرامة، والحقوق، والشخصية، والذمة المستقلة، وعلى الرجل عبء الإنفاق)).
المادة الثامنة ((تمتع الإنسان بالأهلية الشرعية، وقيام الولي عند فقدانها)).
المادة التاسعة: ((العلم فريضة، والتعليم واجب، ويجب التعليم الديني والدنيوي بشكل متوازن)).
المادة الحادية عشر: ((الناس يولدون أحراراً، ويمنع الاستعباد، والقهر، والاستغلال، والاستعمار للشعوب)).
المادة الثالثة عشرة: ((حق العمل تكفله الدولة، مع حرية اختيار العمل اللائق، بأجر عادل، مع الحق بالإجازة، والعلاوة، والترقية، وحق الدولة بالتدخل لفض النزاع، والظلم بين العمال وأرباب العمل)).
المادة الرابعة عشرة: ((للإنسان حق الكسب المشروع دون إضرار..)).
المادة التاسعة عشرة: ((الناس سواسية أمام القضاء، مع الحق المكفول للجميع، والمسؤولية شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بحكم شرعي..)).
المادة الثالثة والعشرون: ((الولاية أمانة بدون استغلال، ولكل إنسان الحق في المشاركة في الأمور العامة، والوظائف))( ).
واقع المساواة عند الغرب:
إذا رجعنا إلى تاريخ أوربا، فيما يسمى بالعصور الوسطى، أي في الوقت الذي كان فيه العالم ينعم بإنسانية الإسلام، سنجد أن أوربا كانت تخضع لنظام من الطبقات يفصل أفراد الأمة بعضها عن بعض، ويجعل منها ثلاث طبقات: النبلاء أو الأشراف، ورجال الدين، والشعب. وكانت هذه الطبقات متميزة محددة المعالم يختلف بعضها عن بعض بصورة واضحة، بحيث لا يخطئ الإنسان معرفتها بمجرد النظر إليها.
وكان نظام المراتب في أوربا مدعوماً بالقانون، فالأشراف والنبلاء طبقة تتوارث الشرف بعضها عن بعض، وكانوا يتمتعون في عهد الإقطـاع بسلطـان مطلق على الشعب الموجود في الإقطاعية، من حيث جباية الضرائب وإصدار العقوبات وتنفيذها، ثم كانوا بعد ذلك السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية.
أما رجال الدين عندهم، فكان لهم ثيابهم الخاصة التي تميزهم، وكان لهم في تلك العصور سلطة كبرى، وكان نفوذ البابا لا يقل عن نفوذ الملوك والأمراء والأشراف، إن لم يزد عليهم جميعاً؛ لأنه هو الذي يمنح لهؤلاء نفوذاً على الشعوب. وكان رجال الدين يشكلون طبقة ممتازة، كما كان للكنيسة أوقافها وإتاواتها وجيوشها في كثير من الأحيان.
أما الشعب – أو الطبقة الدنيا – فكانت عليه الواجبات دون أن تكون له حقوق، وكان يتوارث القيود والذل والفقر والعبودية، كما كان النبلاء يتوارثون النبالة. ولئن تغيرت الأسماء في أوربا، فحلت الطبقة الرأسمالية محل طبقة الأشراف القديمة إلا أن جوهر الأمور لم يتغير، فقد بقيت هذه الطبقة تملك المال والسلطان والقوة التي تسير بها دفة الحكم، على الرغم من مظاهر الحرية التي تتمثل في الانتخابات وغير ذلك من أشكال الديمقراطية( ).
وفي العصر الحاضر، حينما أعلن الغرب -ممثلاً في حضارته- حقوق الإنسان، ومنها حق المساواة، مبدأ وفكرة، نجده قد عجز عن تحقيق هذا المبدأ بين أفراد الناس في عالم الواقع، فالتمييز العنصري ما زال قائماً بشكل واضح من قبل البيض تجاه السود والملونين، في أكثر دول الغرب، خاصة الولايات المتحدة، التي تعد رمز الحضارة الغربية في عصرنا الحاضر، بل إن هذا التمييز شمل حتى دور العبادة عندهم؛ فإلى وقت قريب تجد للبيض كنائسهم وللسود كنائسهم المستقلة.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية، لا تزال تجري مأساة اضطهاد الزنوج، وعدم الاعتراف للعناصر الملونة بالمرتبة الإنسانية التي يتمتع بها الأبيض، ومع أن الزنوج يعتبرون مواطنين في هذه الدولة، إلا أنهم لا يستطيعون أن يمارسوا عملياً حقوق المواطن، كما يمارسها المواطن الأبيض، وفي ذلك يقول أحد رجال السياسة من البيض هناك: ((ليس لأي رجل ملون، يغمر قلبه الرغبة في المساواة السياسية، عمل ما في ولايات الجنوب. إن هذه البلاد ملك للرجل الأبيض ويجب أن تظل كذلك))( ).
فأين هذه التفرقة العنصرية من فعل النبي r ، يوم فتح مكة، حينما أمر بلالاً – رضي الله عنه – ذلك العبد الحبشي، ، من بين أشراف قريش وساداتها، بالصعود إلى سطح الكعبة والصدع بالأذان، ليعلن للناس عقيدة التوحيد التي تساوي بين الناس، دون النظر إلى أي اعتبار آخر.
كما أن مظاهر اضطهاد الزنوج في أمريكا في جميع الميادين، تبدو إلى وقت قريب، فالمدارس تقوم في معظم الولايات، وخاصة الولايات الجنوبية، على أساس الانفصال الكامل بين الزنوج والبيض، فلا يسمح لأطفال الزنوج أن يتعلموا مع أطفال البيض، وإنما لكل فريق مدارسه الخاصة وكتبه الخاصة، وقد رفضت بعض المدارس أوامر حكومة الولايات المتحدة، بتطبيق حكم المحكمة الفيدرالية العليا بالسماح لأبناء الزنوج أن يتعلموا في مدارس البيض، واضطرت الحكومة المركزية إلى أن ترسل الحرس الوطني ليقوم بحراسة أبناء الزنوج الذين سيدخلون هذه المدارس بناء على حكم القضاء، وقد كان موقف بعض أبناء البيض: الإضراب عن تلقي العلم مع هؤلاء( ).
ويفرض على وسائل النقل العامة والمستشفيات أن تقيم عربات أو غرفاً خاصة بالزنوج، وتقضي قوانين بعض الولايات بأن لا يسمح للعمال الزنوج أن يقيموا مع العمال البيض في المصانع أو الدخول من الأبواب المخصصة للبيض.
أما في ميدان الزواج فإن معظم الولايات تمنع زواج البيضاء بالزنجي أو الأبيض بالزنجية، وتنص على بطلان مثل هذا الزواج.
وأما ممارسة الشعائر الدينية فإنها تقوم على الانفصال أيضاً، إذ لا يسمح للزنوج بدخول كنائس البيض، ((وقد حدث أن دخل زنجي من جمهورية بناما كنيسة كاثوليكية في واشنطن، وفيما هو مستغرق في صلاته، سعى إليه أحد القسس وقدم له قصاصة من ورق كتب فيها عنوان كنيسة زنجية كاثوليكية، وحين سئل القس عن سر هذا التصرف، أجاب: إن في المدينة كنائس خاصة بالكاثوليك الزنوج، يستطيع أن يقف فيها بين يدي ربه))( ). فأين هذا مما ذكرنا سابقاً عن المساواة في أداء الصلاة في شريعتنا الإسلامية، حيث يقف الأبيض والأسود جنباً إلى جنب في صف واحد، قد ساوى بينهم الإسلام، بل قد يؤم الأسودُ البيضَ، إذا كانت تتوافر فيه شروط الإمامة.
وأما في مجال المعاملة، فإننا لم ننس بعد سوء معاملة بعض أفراد الشرطة البيض لزنجي في ولاية (لوس أنجلوس) في العام الميلادي (1417هـ-1997م)، حيث انكبوا عليه ضرباً وشتماً، من باب التفرقة العنصرية، مما تسبب في أحداث عنف كبيرة من قبل الزنوج في تلك الولاية، خرجت فيها الولاية بخسائر مالية واجتماعية كبيرة، وقد تحدثت عنها وسائل الإعلام العالمية كثيراً في ذلك الوقت؛ حيث تجلت صورة الإخاء والمساواة بين الناس، لا بل بين النصارى وأبناء الدولة الواحدة، على حقيقتها أمام العالم!!.
وأخيراً فإن هناك تحقيقات وأخباراً عن سوء معاملة بعض العمال في العاصمة الاقتصادية للولايات المتحدة (نيويورك)، حيث تستغل ظروف هجرة بعض العمال إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بطرق غير نظامية، فيسيء أصحاب العمل معاملة هؤلاء العمال، من حيث الأجور الزهيدة، والمسكن السيئ، وساعات العمل الطويلة (تصل إلى سبع عشرة ساعة في اليوم!!)، حتى إن كثيراً من هؤلاء العمال فوجئ بهذه المعاملة، ووصفوا حياتهم بأنها شر من حياة الكلاب( ).
وأختم هذه الفقرة بمقالة لرئيس (مجمع اللغة العربية بالقاهرة)( )، حيث يقول: ((فحقوق الإنسان المهددة اليوم، والتي ندعو إلى حمايتها، واحترامها، قد أقرها الإسلام، وقدسها، منذ أربعة عشر قرناً، فسبق بها، سبقاً بعيداً، عما قال به القرن الثامن عشر، الذي عد قرن حقوق الإنسان، أيدها الإسلام، وثبتها، وجعل منها ديناً ودنيا، وأقامها على دعائم أخلاقية وروحية))( ).
Hijri Date Correction:
1