لم يجد المتظاهرون المصريون في مظاهرة المسجد الأزهر التي جرت عقب صلاة جمعة 26 مارس 2004 هتاف يقولونه ردا على اغتيال الشيخ ياسين غير هتاف: “يا ياسين اتهنا (من إهانة).. اتهنا.. استنانا على باب الجنة”.
والحقيقة التي أراد هؤلاء المتظاهرين أن يعلنوها من خلال هذا الهتاف هي أن العملية التي قامت بها الدولة الصهيونية ضد الشيخ الشهيد كشفت ضعف العرب والحكومات التي لم تعد تملك ما ترد به على اغتيال مؤسس حركة المقاومة الإسلامية ولا على الفيتو الأمريكي الرافض لمجرد إدانة قتل الشيخ بالكلمات!.
ومن العجب أن حادثة اغتيال الشيخ جاءت في ذكرى مرور عام على الاحتلال الأمريكي للعراق، وهو الاحتلال الذي يؤرخ لانهيار النظام الإقليمي العربي وكل ما كان يقال عن وحدة العرب، وهيبة العرب ونفوذ العرب الذي بلغ يوما – في حرب أكتوبر 1973م – حد قطع الدول الخليجية النفط عن الولايات المتحدة ودول أوروبية أظهرت مساندتها للدولة الصهيونية وشتان بين التاريخان!.
ومن العجب أيضا أنه حتى بيانات الشجب والاستنكار التي كانت تصدر عن القمم العربية والحكومات وكانت تجابه بسخرية الشارع العربي، أصبحت الآن عزيزة المنال بسبب خشية بعض الحكومات أن يغضب هذا التنديد والشجب أمريكا!.
لقد وصل هوان العرب حد قيام أمريكا بعد الحرب بوضع خطط لما يسمي الإصلاح في العالم العربي والإسلامي غرضها الأساسي هو نزع ما تبقى من دين وثقافة وتاريخ لدي العرب والمسلمين يواجهون به حضارة الغرب الملحدة المادية، بل والتهديد بفرضها على الدول ومعاقبة من يرفض حتى سارعت غالبية الدول العربية لطرح مبادرات داخلية شكلية للإصلاح على طريقة “بيدنا لا بيد عمرو”!.
ووصل الهوان حد قول رئيس عربي هو الرئيس اليمني علي عبد الله صالح في مؤتمر صنعاء للديمقراطية وحقوق الإنسان يوم 11 يناير 2004م – عندما سئل عن استجابة الحكومات العربية للمطالب الأمريكية المتعلقة بالديمقراطية – أن “علينا أن نتعلم من الزمن ونعتبر بالماضي قبل أن يعلمنا الآخرون، وأن نحلق شعرنا قبل أن يحلق لنا الآخرون”!.
* ما بعد الحرب أخطر!
قبل وأثناء العدوان الأمريكي على العراق كان الموقف العربي وموقف الجامعة العربية عموما ضعيفا وسلبيا وقاصرا على رفض الحرب وغير مدرك لعواقب ما بعد الحرب وما سيترتب عليها.. ومع ظهور بوادر حالة الصمت والعجز الرسمي العربي عن فعل شيء لوقف العدوان، كان البعض يسخر من الحكومات العربية ويقول أنها رفضت الانضمام إلى محوري بوش (الخير والشر)، وانضمت إلى محور ثالث هو “محور لا حول لنا ولا قوة”!.
وكان من الواضح أن النظام الإقليمي العربي مستمر في التآكل والتفتت، فهو قد تعرض لمحنتين أضرتا به بشدة خلال فترة معاهدة كامب ديفيد 1978م، ثم أوسلو 1993م وجعلتا المواقف العربية تتخبط، بمعنى أن وحدة الموقف العربي اختفت، وبدأت كل دولة عربية تتحرك وفق مصالحها الخاصة مما شجع أعداء العرب والمسلمين على تصيد الموالين ومحاربة وحصار المعارضين.
وقد وصل الأمر حد سعي بعض الدول العربية لاستثناء نفسها من قرارات معينة للقمم العربية بدعوى أنها تتضارب مع مصالحها، وقيام أخرى بتقديم خدمات مجانية مبكرة للمحتل الأمريكي أو تقديم تنازلات لم يطلبها منها أحد تفاديا لوضع دولها في محور الشر، وكان من الطبيعي في ظل هذه الأجواء أن تغرد دولة كـ”ليبيا” بعيدا عن السرب العربي وتتخلى عن أسلحتها بدون ثمن و”لا تجد مشكلة لها مع إسرائيل” على حد قول سيف الإسلام القذافي!.
وقد سألت بعض الخبراء قبل الحرب عن تصورهم للمستقبل في حالة سقوط بغداد فتوقع البعض أن تسقط النظم التي ساعدت المحتل ووفرت له التسهيلات، وتوقع آخرون أن تسعى بعض النظم لنوع من المراجعة وتحصين الساحات الداخلية حتى لا يتسلل منها الاستعمار الجديد، وتوقع فريق ثالث أن يمتد الاحتلال إلى دول عربية أخرى تسعى واشنطن لفرض وصايتها عليها وأن يشكل احتلال العراق قاعدة محتملة للعدوان على دول عربية أخرى وإسلامية مثل لبنان وسوريا وإيران وهو ما حدث بأشكال مختلفة (قانون محاسبة سوريا والعقوبات والحملة على البرنامج النووي الإيراني).
أما أخطر ما تحدث عنه بعض خبراء السياسة فكان “الهزيمة النفسية” لدى الشعوب العربية وما قد يتبعها من رد فعل عنيف ضد الاحتلال وضد الحكومات العربية أو “السلطة السياسية” في العالم العربي لأن الأحوال النفسية هذه المرة أشد قسوة على المواطن العربي والمسلم على عكس المرات السابقة. فغالبية المثقفين المنوط بهم قيادة الأمة لديهم حالة إحباط وصدمة غير عادية، فما بالك بالمواطن العادي الذي خرج في مظاهرات ضد الاحتلال لنصرة العراق وتعرض للضرب من قوات الأمن وكان يطمح في صمود العراقيين ضد الغزاة حتى ولو كان يكره ويلعن الرئيس العراقي؟!.
وفي هذا الصدد يؤكد د. مصطفى منجود أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن وقع الصدمة شديد لأن الفجوة زادت بين قطاعات عديدة من رجال الفكر والشعب والسلطة، وزادت بين المثقفين وبعضهم البعض، وبينهم وبين السلطة، وبين السلطة ورجل الشارع، وبين الجميع وبعضهم البعض، وزادت هذه الفجوة أكثر وأكثر عقب احتلال العراق لأن هناك تراكم فكري وندوات ودراسات وأبحاث وكتب.. ناقش فيها هؤلاء المثقفين سبل نهضة الأمة وتطوير الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والنظام العالمي الجديد، ونوقش كل هذا ولكن المردود من جهة السلطة السياسية العربية كان سلبيا وظلت هذه السلطة تقرب منها المنافق والمتسلق دون العالم والمفكر الحقيقي المنظر للسلطة.
والخطورة هنا أن يتحول الضغط الداخلي – كما يقول المفكر السوداني عبد الوهاب الأفندي – إلى “انتفاضة شاملة أو سلسلة انتفاضات لاسترداد حرية الشعوب وفك أسرها من قبضة الأنظمة العاجزة الفاسدة التي لن تحقق للأمة شيئا، لأن الزعماء فيها مشغولون بامتلاك الوسائل لقمع الشعوب وشل مبادراتها في كل مجال، وبحماية فساد الزعماء وبطانتهم، وتمهيد السبيل لاستمرار الفساد والعجز إلى الآن عبر توريث الحكم للأبناء ثم الأحفاد”!.
* الحكومات تستقوي بالشعوب
عقب احتلال العراق وتصاعد حملة النقد والهجوم الأمريكية على الحكومات العربية لحد طرح خطط أمريكية لتعليم العرب الديمقراطية، ولصهر الشرق الأوسط الكبير في بوتقة علمانية واحدة على غرار النظام التركي، طرح البعض فكرة البحث عن أفضل السبل لمواجهة “خطط الإحلال والتغيير الأمريكية” في المنطقة العربية عبر “استقواء” النظم بالداخل (الجماهير).
وبدأت أوساط سلطوية عربية تطرح خططا للوفاق والحوار الوطني الداخلي تارة، أو تجري انتخابات أقل تزويرا تارة أخرى، أو تفتح الباب أمام قبول أفكار الإصلاحات الداخلية الديمقراطية التي ظلت ترفضها سنوات طالما أن هذه الإصلاحات سوف يتم فرضها عليها في نهاية المطاف وبشكل أكثر خطورة وتبعية للإمبراطورية الأمريكية الجديدة!.
وفي هذا الصدد لوحظ سماح دول عربية ببعض الديمقراطية في انتخاباتها الأخيرة، واستقبال حكومات أخرى وفود من معارضيها كنوع من توحيد المواقف ومواجهة المخاطر والتحديات التي تتعرض لها كل الدول العربية، كما سعت حكومات لاستيعاب بعض معارضيها في الخارج.
ولأن غالبية النظم العربية لا تزال في موقف لا تحسد عليه أو يصعب عليها الاعتراف بالخطأ و”التنازل” بفتح حوار مع القوي الشعبية الداخلية وقوى المعارضة، فقد بادرت دول مثل السودان والسعودية لتقديم أوراق أو ميثاق للإصلاح العربي ضمن خطط “مواجهة تحديات المستقبل” في مواجهة الهجمات الأمريكية الأخيرة والإستراتيجية الغربية التي انتقلت من المطالبة بنزع أسلحة الدمار العربية إلى تغيير بعض نظم الحكم إلى المطالبة بـ”إعادة ترتيب” – أي فك وتركيب – منطقة الشرق الأوسط ككل!.
ويبدو أن الورقة السودانية لمست في هذا الصدد وترا حساسا لدى الحكومات العربية عندما تطرقت إلى مسألة “جسر الهوة بين الأنظمة العربية وشعوبها وخلق قنوات اتصال بين الحكومات والقوى الشعبية المعارضة حتى إذا دخلت الحكومات في مواجهة خارجية تكون مستندة إلى ظهر قوي”، على اعتبار أن هذه هي لب المشكلة التي تواجهها العديد من الحكومات العربية والتي دخلت في مواجهة مكشوفة مع أمريكا منذ 11 سبتمبر.
ولكن المشكلة هنا أن المواطن العربي لا يزال غير مقتنع بما تفعله الحكومات، أو بالتضحية المطلوبة منه لأنه لا يجد بالمقابل أي مصداقية للحكومات العربية في تعاملها مع قضاياه الأساسية ومنها الحريات، وفي تعاملها مع قضايا الرشوة والفساد.
ولهذا دعا مرشد جماعة الإخوان المسلمين في مصر محمد مهدي عاكف، في خطاب تأبين الشيخ ياسين، الشعوب والحكومات إلى ضرورة أن تجاهد وتصلح نفسها وتتوحد وتتكاتف، حتى تكون أهلا لنصرة دين الله والذود عن أرض الإسلام، وقال: “إن المهمة عظيمة، والواجبات علينا كثيرة، ولا يجوز التفريط بأي حال من الأحوال في حريتنا أو ديننا، خاصة أمام الهجمة الشرسة التي يواجهها الإسلام من قبل العالم، حيث الهجمة على قيمنا، وسعيهم الدائم لتدمير الأمة وطمس هويتها”.
* المقاومة الشعبية تحفظ ماء الوجه
لم تكتف الحكومات العربية والجامعة العربية بعدم اتخاذ موقف جدي من احتلال العراق، ولكنها ساهمت ضمنا في ترسيخ دعائم هذا الاحتلال عبر الاعتراف بمجلس الحكم العراقي المعين من قبل الاحتلال رغم سبق رفض ذلك، وأعطت هذا المجلس مقعد العراق في الجامعة، بل وقبلت – قبل أن ترفض – فكرة مناقشة طلب أمريكي لإرسال قوات عربية للعراق يفترض أن تساند عمليا قوات الاحتلال.
ولولا اندلاع مقاومة عراقية شرسة أصبحت قوات الاحتلال تعمل لها ألف حساب، لانكشف ماء الوجه العربي الرسمي.. ولا شك أن إعلان المقاومة العراقية عن اتخاذ الأول من نوفمبر 2003م تاريخا لتأسيسها، أثار كثيرا من التساؤلات حولها، وحول مستقبلها، وإمكانية أن تنتقل من مقاومة مسلحة ما زالت مجهولة الهوية، إلى مقاومة سياسية وعسكرية قادرة على قيادة المشروع التحرري العراقي من براثن الاحتلال الأمريكي.
ومع أن الكثيرين لم يلتفتوا إلى هذا التاريخ بسبب التعتيم الإعلامي الأمريكي على المقاومة ومعاقبة أي فضائية عربية تنشر بيانات هذه المقاومة عبر سلطات الاحتلال، فقد فرضت المقاومة أجندتها على الأحداث، وأجبرت المسئولين الأمريكان للحديث عنها باحترام حتى أن رامسفيلد وصف مرة عملياتها بأنها “مثيرة”.
وقد أدت سلسلة العمليات التفجيرية للمقاومة وأعمال القنص والقتل للجنود الأمريكيين إلى حالة من الارتباك الأمريكي الواضح خاصة بعد وصول عدد القتلى الأمريكان – وفق الأرقام الأمريكية – إلى 600 قتيل في الفترة من 19 مارس 2003 حتى 26 مارس 2004م فقط.
ولكن التحدي الحقيقي أمام المقاومة العراقية يتمثل في عدة أمور:
– الأول: توحدها، أو على الأقل التنسيق بينها عملياتيا لمزيد من إرهاق وإحباط العدو.
– الثاني: السعي لعدم الوقوع في فخ السنة والشيعة وضم شيعة الجنوب للمقاومة، لأن الاحتلال يسعى بشكل أكبر لربط المقاومة بالسنة فقط الرافضين لإلقاء السلاح، ومن ثم الربط بينهم وبين تعويق تسلم الشيعة (الذين يقولون أنهم أغلبية) للحكم، بما يزيد حنق الشيعة عليهم.
– الثالث: أن تسعى المقاومة لخلق جهاز إعلامي وسياسي (ذراع سياسي على غرار حركات المقاومة) يكون هو المتحدث باسمها رسميا.
ولا شك أن نجاح المقاومة في تحقيق هذه الأهداف سيزيد من ارتباك الاحتلال وتخبطه، ويضع العراق على أول خطوات التحرير الكامل، لتكون هذه المقاومة الشعبية هي الأمل في مستقبل أفضل للعراق.
——————-
* صحفي ومحلل سياسي مصري
والحقيقة التي أراد هؤلاء المتظاهرين أن يعلنوها من خلال هذا الهتاف هي أن العملية التي قامت بها الدولة الصهيونية ضد الشيخ الشهيد كشفت ضعف العرب والحكومات التي لم تعد تملك ما ترد به على اغتيال مؤسس حركة المقاومة الإسلامية ولا على الفيتو الأمريكي الرافض لمجرد إدانة قتل الشيخ بالكلمات!.
ومن العجب أن حادثة اغتيال الشيخ جاءت في ذكرى مرور عام على الاحتلال الأمريكي للعراق، وهو الاحتلال الذي يؤرخ لانهيار النظام الإقليمي العربي وكل ما كان يقال عن وحدة العرب، وهيبة العرب ونفوذ العرب الذي بلغ يوما – في حرب أكتوبر 1973م – حد قطع الدول الخليجية النفط عن الولايات المتحدة ودول أوروبية أظهرت مساندتها للدولة الصهيونية وشتان بين التاريخان!.
ومن العجب أيضا أنه حتى بيانات الشجب والاستنكار التي كانت تصدر عن القمم العربية والحكومات وكانت تجابه بسخرية الشارع العربي، أصبحت الآن عزيزة المنال بسبب خشية بعض الحكومات أن يغضب هذا التنديد والشجب أمريكا!.
لقد وصل هوان العرب حد قيام أمريكا بعد الحرب بوضع خطط لما يسمي الإصلاح في العالم العربي والإسلامي غرضها الأساسي هو نزع ما تبقى من دين وثقافة وتاريخ لدي العرب والمسلمين يواجهون به حضارة الغرب الملحدة المادية، بل والتهديد بفرضها على الدول ومعاقبة من يرفض حتى سارعت غالبية الدول العربية لطرح مبادرات داخلية شكلية للإصلاح على طريقة “بيدنا لا بيد عمرو”!.
ووصل الهوان حد قول رئيس عربي هو الرئيس اليمني علي عبد الله صالح في مؤتمر صنعاء للديمقراطية وحقوق الإنسان يوم 11 يناير 2004م – عندما سئل عن استجابة الحكومات العربية للمطالب الأمريكية المتعلقة بالديمقراطية – أن “علينا أن نتعلم من الزمن ونعتبر بالماضي قبل أن يعلمنا الآخرون، وأن نحلق شعرنا قبل أن يحلق لنا الآخرون”!.
* ما بعد الحرب أخطر!
قبل وأثناء العدوان الأمريكي على العراق كان الموقف العربي وموقف الجامعة العربية عموما ضعيفا وسلبيا وقاصرا على رفض الحرب وغير مدرك لعواقب ما بعد الحرب وما سيترتب عليها.. ومع ظهور بوادر حالة الصمت والعجز الرسمي العربي عن فعل شيء لوقف العدوان، كان البعض يسخر من الحكومات العربية ويقول أنها رفضت الانضمام إلى محوري بوش (الخير والشر)، وانضمت إلى محور ثالث هو “محور لا حول لنا ولا قوة”!.
وكان من الواضح أن النظام الإقليمي العربي مستمر في التآكل والتفتت، فهو قد تعرض لمحنتين أضرتا به بشدة خلال فترة معاهدة كامب ديفيد 1978م، ثم أوسلو 1993م وجعلتا المواقف العربية تتخبط، بمعنى أن وحدة الموقف العربي اختفت، وبدأت كل دولة عربية تتحرك وفق مصالحها الخاصة مما شجع أعداء العرب والمسلمين على تصيد الموالين ومحاربة وحصار المعارضين.
وقد وصل الأمر حد سعي بعض الدول العربية لاستثناء نفسها من قرارات معينة للقمم العربية بدعوى أنها تتضارب مع مصالحها، وقيام أخرى بتقديم خدمات مجانية مبكرة للمحتل الأمريكي أو تقديم تنازلات لم يطلبها منها أحد تفاديا لوضع دولها في محور الشر، وكان من الطبيعي في ظل هذه الأجواء أن تغرد دولة كـ”ليبيا” بعيدا عن السرب العربي وتتخلى عن أسلحتها بدون ثمن و”لا تجد مشكلة لها مع إسرائيل” على حد قول سيف الإسلام القذافي!.
وقد سألت بعض الخبراء قبل الحرب عن تصورهم للمستقبل في حالة سقوط بغداد فتوقع البعض أن تسقط النظم التي ساعدت المحتل ووفرت له التسهيلات، وتوقع آخرون أن تسعى بعض النظم لنوع من المراجعة وتحصين الساحات الداخلية حتى لا يتسلل منها الاستعمار الجديد، وتوقع فريق ثالث أن يمتد الاحتلال إلى دول عربية أخرى تسعى واشنطن لفرض وصايتها عليها وأن يشكل احتلال العراق قاعدة محتملة للعدوان على دول عربية أخرى وإسلامية مثل لبنان وسوريا وإيران وهو ما حدث بأشكال مختلفة (قانون محاسبة سوريا والعقوبات والحملة على البرنامج النووي الإيراني).
أما أخطر ما تحدث عنه بعض خبراء السياسة فكان “الهزيمة النفسية” لدى الشعوب العربية وما قد يتبعها من رد فعل عنيف ضد الاحتلال وضد الحكومات العربية أو “السلطة السياسية” في العالم العربي لأن الأحوال النفسية هذه المرة أشد قسوة على المواطن العربي والمسلم على عكس المرات السابقة. فغالبية المثقفين المنوط بهم قيادة الأمة لديهم حالة إحباط وصدمة غير عادية، فما بالك بالمواطن العادي الذي خرج في مظاهرات ضد الاحتلال لنصرة العراق وتعرض للضرب من قوات الأمن وكان يطمح في صمود العراقيين ضد الغزاة حتى ولو كان يكره ويلعن الرئيس العراقي؟!.
وفي هذا الصدد يؤكد د. مصطفى منجود أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن وقع الصدمة شديد لأن الفجوة زادت بين قطاعات عديدة من رجال الفكر والشعب والسلطة، وزادت بين المثقفين وبعضهم البعض، وبينهم وبين السلطة، وبين السلطة ورجل الشارع، وبين الجميع وبعضهم البعض، وزادت هذه الفجوة أكثر وأكثر عقب احتلال العراق لأن هناك تراكم فكري وندوات ودراسات وأبحاث وكتب.. ناقش فيها هؤلاء المثقفين سبل نهضة الأمة وتطوير الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والنظام العالمي الجديد، ونوقش كل هذا ولكن المردود من جهة السلطة السياسية العربية كان سلبيا وظلت هذه السلطة تقرب منها المنافق والمتسلق دون العالم والمفكر الحقيقي المنظر للسلطة.
والخطورة هنا أن يتحول الضغط الداخلي – كما يقول المفكر السوداني عبد الوهاب الأفندي – إلى “انتفاضة شاملة أو سلسلة انتفاضات لاسترداد حرية الشعوب وفك أسرها من قبضة الأنظمة العاجزة الفاسدة التي لن تحقق للأمة شيئا، لأن الزعماء فيها مشغولون بامتلاك الوسائل لقمع الشعوب وشل مبادراتها في كل مجال، وبحماية فساد الزعماء وبطانتهم، وتمهيد السبيل لاستمرار الفساد والعجز إلى الآن عبر توريث الحكم للأبناء ثم الأحفاد”!.
* الحكومات تستقوي بالشعوب
عقب احتلال العراق وتصاعد حملة النقد والهجوم الأمريكية على الحكومات العربية لحد طرح خطط أمريكية لتعليم العرب الديمقراطية، ولصهر الشرق الأوسط الكبير في بوتقة علمانية واحدة على غرار النظام التركي، طرح البعض فكرة البحث عن أفضل السبل لمواجهة “خطط الإحلال والتغيير الأمريكية” في المنطقة العربية عبر “استقواء” النظم بالداخل (الجماهير).
وبدأت أوساط سلطوية عربية تطرح خططا للوفاق والحوار الوطني الداخلي تارة، أو تجري انتخابات أقل تزويرا تارة أخرى، أو تفتح الباب أمام قبول أفكار الإصلاحات الداخلية الديمقراطية التي ظلت ترفضها سنوات طالما أن هذه الإصلاحات سوف يتم فرضها عليها في نهاية المطاف وبشكل أكثر خطورة وتبعية للإمبراطورية الأمريكية الجديدة!.
وفي هذا الصدد لوحظ سماح دول عربية ببعض الديمقراطية في انتخاباتها الأخيرة، واستقبال حكومات أخرى وفود من معارضيها كنوع من توحيد المواقف ومواجهة المخاطر والتحديات التي تتعرض لها كل الدول العربية، كما سعت حكومات لاستيعاب بعض معارضيها في الخارج.
ولأن غالبية النظم العربية لا تزال في موقف لا تحسد عليه أو يصعب عليها الاعتراف بالخطأ و”التنازل” بفتح حوار مع القوي الشعبية الداخلية وقوى المعارضة، فقد بادرت دول مثل السودان والسعودية لتقديم أوراق أو ميثاق للإصلاح العربي ضمن خطط “مواجهة تحديات المستقبل” في مواجهة الهجمات الأمريكية الأخيرة والإستراتيجية الغربية التي انتقلت من المطالبة بنزع أسلحة الدمار العربية إلى تغيير بعض نظم الحكم إلى المطالبة بـ”إعادة ترتيب” – أي فك وتركيب – منطقة الشرق الأوسط ككل!.
ويبدو أن الورقة السودانية لمست في هذا الصدد وترا حساسا لدى الحكومات العربية عندما تطرقت إلى مسألة “جسر الهوة بين الأنظمة العربية وشعوبها وخلق قنوات اتصال بين الحكومات والقوى الشعبية المعارضة حتى إذا دخلت الحكومات في مواجهة خارجية تكون مستندة إلى ظهر قوي”، على اعتبار أن هذه هي لب المشكلة التي تواجهها العديد من الحكومات العربية والتي دخلت في مواجهة مكشوفة مع أمريكا منذ 11 سبتمبر.
ولكن المشكلة هنا أن المواطن العربي لا يزال غير مقتنع بما تفعله الحكومات، أو بالتضحية المطلوبة منه لأنه لا يجد بالمقابل أي مصداقية للحكومات العربية في تعاملها مع قضاياه الأساسية ومنها الحريات، وفي تعاملها مع قضايا الرشوة والفساد.
ولهذا دعا مرشد جماعة الإخوان المسلمين في مصر محمد مهدي عاكف، في خطاب تأبين الشيخ ياسين، الشعوب والحكومات إلى ضرورة أن تجاهد وتصلح نفسها وتتوحد وتتكاتف، حتى تكون أهلا لنصرة دين الله والذود عن أرض الإسلام، وقال: “إن المهمة عظيمة، والواجبات علينا كثيرة، ولا يجوز التفريط بأي حال من الأحوال في حريتنا أو ديننا، خاصة أمام الهجمة الشرسة التي يواجهها الإسلام من قبل العالم، حيث الهجمة على قيمنا، وسعيهم الدائم لتدمير الأمة وطمس هويتها”.
* المقاومة الشعبية تحفظ ماء الوجه
لم تكتف الحكومات العربية والجامعة العربية بعدم اتخاذ موقف جدي من احتلال العراق، ولكنها ساهمت ضمنا في ترسيخ دعائم هذا الاحتلال عبر الاعتراف بمجلس الحكم العراقي المعين من قبل الاحتلال رغم سبق رفض ذلك، وأعطت هذا المجلس مقعد العراق في الجامعة، بل وقبلت – قبل أن ترفض – فكرة مناقشة طلب أمريكي لإرسال قوات عربية للعراق يفترض أن تساند عمليا قوات الاحتلال.
ولولا اندلاع مقاومة عراقية شرسة أصبحت قوات الاحتلال تعمل لها ألف حساب، لانكشف ماء الوجه العربي الرسمي.. ولا شك أن إعلان المقاومة العراقية عن اتخاذ الأول من نوفمبر 2003م تاريخا لتأسيسها، أثار كثيرا من التساؤلات حولها، وحول مستقبلها، وإمكانية أن تنتقل من مقاومة مسلحة ما زالت مجهولة الهوية، إلى مقاومة سياسية وعسكرية قادرة على قيادة المشروع التحرري العراقي من براثن الاحتلال الأمريكي.
ومع أن الكثيرين لم يلتفتوا إلى هذا التاريخ بسبب التعتيم الإعلامي الأمريكي على المقاومة ومعاقبة أي فضائية عربية تنشر بيانات هذه المقاومة عبر سلطات الاحتلال، فقد فرضت المقاومة أجندتها على الأحداث، وأجبرت المسئولين الأمريكان للحديث عنها باحترام حتى أن رامسفيلد وصف مرة عملياتها بأنها “مثيرة”.
وقد أدت سلسلة العمليات التفجيرية للمقاومة وأعمال القنص والقتل للجنود الأمريكيين إلى حالة من الارتباك الأمريكي الواضح خاصة بعد وصول عدد القتلى الأمريكان – وفق الأرقام الأمريكية – إلى 600 قتيل في الفترة من 19 مارس 2003 حتى 26 مارس 2004م فقط.
ولكن التحدي الحقيقي أمام المقاومة العراقية يتمثل في عدة أمور:
– الأول: توحدها، أو على الأقل التنسيق بينها عملياتيا لمزيد من إرهاق وإحباط العدو.
– الثاني: السعي لعدم الوقوع في فخ السنة والشيعة وضم شيعة الجنوب للمقاومة، لأن الاحتلال يسعى بشكل أكبر لربط المقاومة بالسنة فقط الرافضين لإلقاء السلاح، ومن ثم الربط بينهم وبين تعويق تسلم الشيعة (الذين يقولون أنهم أغلبية) للحكم، بما يزيد حنق الشيعة عليهم.
– الثالث: أن تسعى المقاومة لخلق جهاز إعلامي وسياسي (ذراع سياسي على غرار حركات المقاومة) يكون هو المتحدث باسمها رسميا.
ولا شك أن نجاح المقاومة في تحقيق هذه الأهداف سيزيد من ارتباك الاحتلال وتخبطه، ويضع العراق على أول خطوات التحرير الكامل، لتكون هذه المقاومة الشعبية هي الأمل في مستقبل أفضل للعراق.
——————-
* صحفي ومحلل سياسي مصري
Hijri Date Correction:
1